الأحد 2022/05/22

آخر تحديث: 10:00 (بيروت)

سمير صبري..السكندري الذي أطلق عبدالحليم نجوميته

الأحد 2022/05/22
increase حجم الخط decrease
     منها أتى، وإليها عاد.
     وري جثمان الممثل المصري سمير صبري، الثري في مقابر المنارة في مسقط رأسه مدينة الإسكندرية، وسط المئات من المشيعين وعشرات الأصدقاء الذين لفّهم الحزن والحسرة على رحيل واحد من أشدّ الناس رقة وعذوبة، ليسدل الستار على نحو ستة وثمانين عاماً قضاها صبري عاشقاً لهذه المدينة الساحرة، يدفعه حنينه الدائم إليها ليترك صخب انشغاله في أفلامه وبرامجه وأعماله الغنائية في القاهرة عائدا إليها يتنسم هواء بحرها وسحر شوارعها القديمة.


     في مدينة كوزموبوليتانية، يقف العالم على أعتابها، يأتيها زائروها من كل حدب وصوب، تتفتح فيها العقول لكل ما هو جديد ومبتكر، نشأ سمير صبري في الأجواء ذاتها التي نشأ فيها قبله أو بالتزامن معه كل من الموسيقار سيد درويش وشاعر العامية محمود بيرم التونسي والممثلة فاطمة رشدي والمخرج يوسف شاهين والممثل العالمي عمر الشريف والتشكيليون سيف وأدهم وانلي وفاروق حسني والمعمار حسن فتحي وكثيرون غيرهم... شكلوا الوجدان الجمعي لملايين المصريين والعرب خلال القرن العشرين وما بعده.

     لسنا هنا بصدد تتبّع سيرة سمير صبري بقدر ما يسترعي انتباهنا سنوات النشأة والتكوين، والأثر البارز الذي تركته على مسيرته الفنية بعد ذلك... فابن الإسكندرية وطبقتها الأرستقراطية، الذي وجد نفسه مخالطا لطوائف وأجناس ولغات مختلفة، كان من الطبيعي له أن يتّقن الكثير من تلك اللغات لا سيما وقد تخرج في "فيكتوريا كوليدج" أو "إيتون الشرق" كما كانوا يطلقون عليها تشبها بـ"أيتون كوليدج" البريطانية مفرخة عظماء السياسة والفكر في انكلترا، وبعد انفصال الأب عن الأم، ترك سمير صبري معشوقته الإسكندرية ليقيم مع والده في حي الزمالك في القاهرة، في بناية كان يطلق عليها بناية الفنانين، فتعرّف على عشرات الأسماء التي كان يشرئب فقط كي يراها، ومن بين هؤلاء كان عبد الحليم حافظ، الذي نستطيع القول إنه وفر للفتى الطموح مظلّة من العلاقات والاتصالات، كانت الداعم الأول له في بداية الطريق، وهو الأمر الذي ظل سمير صبري يذكره لعبد الحليم حتى نهاية العمر.
   (الاخوة الأعداء)
 أعرف سمير صبري منذ نهاية ثمانينيات القرن الماضي، وكثيرا ما تزاملنا فى إنجاز بعض برامجه التلفزيونية، وأذكر أننا أثناء حضورنا سويا فعاليات مهرجان الإسكندرية السينمائي لدول البحر المتوسط العام 2013، وكانت مصر كلها تحت حصار حظر التجوال بفعل تبعات ما حدث في حزيران/ يونيو من العام نفسه دعاني في سيارته لجولة في المناطق التي شهدت طفولته وصباه الباكر، وكم كان حزينا على خلو شوارع المدينة، التي لم تكن تعرف النوم والسكون... سألني: هل هذه هي المدينة التي كتب عنها الروائي إبراهيم عبد المجيد روايته "لا أحد ينام في الإسكندرية"؟ هل هذه هي الإسكندرية التي قدم لها المخرج يوسف شاهين رباعيته الشهيرة؟ هل هذه الإسكندرية التي كتب عنها نجيب محفوظ في "السمان والخريف" و"ميرامار"؟ هل هذه هي التي وقع فى غرامها المؤلف أسامة أنور عكاشة وكتب فى حبها "الراية البيضاء" و"النوة" و"ضمير أبلة حكمت"؟ هل هذه هي إسكندرية سيد درويش وبيرم؟ هل هذا هو شطها الذى تغنت به فيروز ومحمد قنديل؟ ليلتها بادرت حزنه العميق متسائلا: إلى هذا الحد أنت مرتبط بها؟ إلى هذا الحد شكلت وجدانك؟

"الإسكندرية هي عشقي الأبدي، المكان الذي أتنفس فيه بكامل ارتياحي وأستعيد فيه هدوء نفسي، كل بلاد العالم التي زرتها لا تصمد لحظة أمام سحر الإسكندرية وما تركته في نفسي من أثر، أنا بطبعي شديد التعلّق بالأماكن، أتدري ما المكان الآخر الذي يأتي في العشق بعد الإسكندرية؟ إنه نيل الزمالك في القاهرة، وربما كان الفضل في ذلك لأبي ولعبد الحليم حافظ، كلاهما كان يصحبني في جولة في السيارة أو سيرا نجوب شوارع جزيرة الزمالك وشاطئ نيلها الممتد وخاصة بعد منتصف الليل حينما تكون شوارعها تكاد تخلو من المارة والسيارات، عبد الحليم هو الذي أظهرني في السينما للمرة الأولى أقرب إلى الكومبارس في فيلم "حكاية حب" سنة 1959 أثناء تصوير أغنية "بحلم بيك" عبد الحليم، هو الذي قدمني إلى صديقته الفنانة لبنى عبد العزيز، كي أشاركها تقديم برامجها في البرنامج الأوروبي في الإذاعة المصرية. عبد الحليم هو الذي أجلسني مع كبار نجوم ومثقفي مصر: إحسان عبد القدوس، كامل الشناوي، يوسف إدريس، صلاح جاهين، شادية، فاتن حمامة، عمر الشريف، وغيرهم. عبد الحليم اختصر لي الكثير من خطوات البدايات ووفر للشاب الناشئ كل أسباب النجاح والشهرة التي انطلقت بعدها". و"إذا كان عبد الحليم قد وفر له قوة دفع بداية التحاقه بالحياة الفنية والإعلامية فإن هذا لم يكن كافيا – في ظني – لانتزاع اعتراف السينمائيين بسمير صبري كممثل على الشاشة الكبيرة، فقد أمضى ثلاث سنوات كاملة بعد ظهوره الفاتر على الشاشة في فيلم "حكاية حب" من دون أن يلتفت إليه أي من المخرجين، ثم اتته فرصة الظهور العابر مرة أخرى عام 1962 في فيلمي "من غير ميعاد" إخراج أحمد ضياء الدين و"اللص والكلاب" رائعة المخرج كمال الشيخ، لكن هذا أيضا لم يكن كافياً، كان الممثل الشاب بحاجة إلى مخرج يؤمن بقدراته ويلح على تقديمه في عمل تلو الآخر، ولم يكن هذا المخرج سوى حسن الإمام الذي التقاه للمرة الأولى عام 1963 حينما أشركه في فيلمه "زقاق المدق" أمام شادية وسامية جمال، ومنذ ذلك اليوم وحتى رحيل "مخرج الروائع" – كما كانوا يلقبونه – لم يفترق الرجلان، وبات سمير صبري القاسم المشترك فى غالبية أفلام حسن الإمام، يكفي أنه كان وحده مخرج واحدٍ وعشرين فيلماً شارك فيها سمير صبري وصاحب العلامات الكبرى في مسيرة الممثل الراحل والتي صعدت به إلى مصاف الممثلين الأوائل: الراهبة، هو والنساء، بنت من البنات، قصر الشوق، إضراب الشحاتين، حب وكبرياء، امتثال، حكايتي مع الزمان، بمبة كشر، وبالوالدين إحسانا، سلطانة الطرب، ودماء على الثوب الوردي آخر أفلام حسن الإمام.

 (البحث عن فضيحة)

   أذكر أنني سألته ذات مرة ونحن نجهز لإطلاق برنامج "ماسبيرو" على إحدى الفضائيات، ويا للمصادفة كنا نجلس فى فندق ماريوت القاهرة على نيل الزمالك، الفندق الذى لفظ فيه سمير أنفاسه الأخيرة، سألته عن فضل حسن الإمام عليه، فأجابني بعد تنهيدة طويلة: "حسن الإمام هو أبويا الروحي، الله أرسل لي هذا الرجل، في وقت، كدت افقد فيه ثقتي في قدرتي كممثل، فإذا به يعطيني بطولات لم أكن أحلم بها، كان مخرجاً عبقرياً لم ينل حظه من التقدير والاهتمام النقدي رغم شهرة أفلامه".


غير أنه ليس من الإنصاف اختزال مسيرة سمير صبري – الممثل – في نجاحاته مع حسن الإمام، فقد دأب خلال فترة الستينيات تحديدا على تقديم شخصية الشاب الوسيم العابث أحيانا، مستفيدا من إلمامه بالانكليزية فى أحيان أخرى، كما في أفلام: "عدو المرأة، شيء في حياتي، 30 يوماً في السجن، شباب مجنون جدا، أخطر رجل في العالم، شنبو في المصيدة، نص ساعة جواز". ومع توالي سنوات السبعينيات وتنامي نضجه الفني واضطلاعه بأدوار البطولة وخاصة مع حسن الإمام بات لدى سمير صبري ما يخسره أو على الأقل ما يستحق الحفاظ عليه، انعكس ذلك على اختياراته في تلك المرحلة كما في: "المراية، الرجل الآخر، البحث عن فضيحة، الوفاء العظيم، الأخوة الأعداء، الأحضان الدافئة، ومضى قطار العمر، شبان هذه الأيام، ولا يا من كنت حبيبي".
    وبلغ صبري من نضجه الفني أن قرر النزول إلى عالم الإنتاج السينمائي، فقدم للسينما خلال الثمانينيات مجموعة من الأفلام المهمة منها: "السلخانة، منزل العائلة المسمومة، التوت والنبوت، نشاطركم الأفراح، وجحيم تحت الأرض"، ورغم تقدمه في العمر وظهور أجيال فنية جديدة فقد ظل محافظا نسبيا على حظوظه السينمائية، وهو ما تجلى في مشاركاته الأخيرة كما في فيلم "محمد حسين" سنة 2019 أمام الممثل محمد سعد، و"ديدو" عام 2021 للممثل كريم فهمي.. وكشأن الكثير من ممثلي جيله حينما تجاوزوا عمرياً مرحلة أدوار الفتى الأول اتّجه سمير صبري إلى الدراما التلفزيونية يقدّم فيها نوعية شخصيات لا توفرها له أفلام السينما التي تخضع لقوانين صارمة في المحتوى ومتطلبات السوق التجارية، في هذا الإطار شارك في مسلسلات من قبيل: "قضية رأي عام، أم كلثوم، يا ورد مين يشتريك، حضرة المتهم أبي، حق مشروع، جدار القلب، نظرية الجوافة"، وصولا إلى مسلسل "فلانتينو" عام 2020 مع الممثل عادل إمام.
     ووسط هذا التوهج الفني الممتد عبر عشرات العقود كان سمير صبري يحقق نجاحاً إعلامياً ربما يفوق نجاحه كممثل، حتى أضحى أشهر مقدّم برامج مصري، يكفيه أنه صاحب برامج: النادي الدولي، هذا المساء، الفرقة 16، كان زمان، ماسبيرو، وغيرها. بيد أن السؤال الذي يطرح نفسه بعد كل هذا المشوار الطويل: أي منهما أفاد الآخر: سمير صبري الممثل أم سمير صبري الإعلامي؟

     المؤكد أن كلا منهما قد دعم حظوظ الآخر، وحافظ لصاحبه على استمرار اسمه في دائرة الضوء أطول وقت ممكن، فإذا كان نجاحه الإعلامي قد أبقى على فرص الطلب عليه ممثلاً ومطرباً، فإن ما سيبقى عليه في ذاكرة أجيال وأجيال لاحقة هو ما تركه من أعمال فنية تلح على تكرار عرضها عشرات الشاشات العربية كل وقت وحين.
 


increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها