رحيل مظفر النواب... شاعر "القدس عروس عروبتكم"

توفي اليوم الجمعة، الشاعر العروبي والصوفي واليساري العراقي، مظفر النّواب، في مستشفى الشارقة التعليمي بالإمارات العربية المتحدة، عن عمر ناهز 88 عاماً. والنافل أنه في المدة الأخيرة راجت شائعات كثيرة عن حالته الصحيّة، ونعته وسائل التواصل الاجتماعي أكثر من مرة، وهو كتب قبل أكثر من سنة "مُتعبٌ منّي، ولا أقوى على حملي".. أربع كلماتٍ نُشرت في صفحته في "فايسبوك" كانت كافية ليختزل بها أحد أشهر شعراء العراق في العصر الحديث مظفر النَّواب، معاناته مع المرض.

يُعتبر النواب، أحد أبرز شعراء العراق الذين بدأوا مسيرتهم الشعرية في خمسينيات وستينيات القرن الماضي. ورغم شهرة القصائد السياسية اللاذعة للنواب، إلا أن شعره العاطفي والغزلي، خصوصاً باللهجة العامية العراقية، لا يقل جمالاً ورونقاً وسحراً. وتميز بأسلوب فريد في إلقاء الشعر وأقرب ما يكون إلى الغناء أحياناً، لا سيما في مواجهة الجمهور. أما سياسياً فقد انحاز النواب لقضايا الفقراء ومناهضة الاستعمار وأنظمة الحكم السائدة، فتعرض للسجن والملاحقة لفترة طويلة داخل وطنه واضطر لاحقاً للعيش منفياً في غربته التي ناهزت نصف قرن تقريباً.

وحين نقول مظفر النواب، يعود إلى أذهاننا زمن كانت قصيدته "تل الزعتر–بنت الصباح"، من المحظورات، وقد أدّاها بصوته، وانتشر الشريط (الكاسيت) في الأروقة الثقافية وحتى الشعبية ككتاب سمعي. وصارتْ القصيدة "كنز" الغاضبين على الاستبداد ونظام الأسد العسسيّ (بالمعنى السياسي)، صارت "الرأي" الشعبوي والشارعي الذي يتبناه جمهور عريض في توصيف القادة العرب في زمن حب فلسطين. ركّز الناس على عبارة "ديّوث الشّام وهدهده"، وتساءلوا، من يقصد بالديّوث، واتّفقوا على أنّ الديّوث هو حافظ، والهدهد هو خدّام... كأن القصيدة بالنسبة لجمهور عربي (فلسطيني، لبناني وسوري...) عريض، هي "ثأر" معنوي من طاغية فتك بالأبرياء، ودمّر مخيماً على رؤوس أهله. السؤال الذي يراود كثيرين منذ سنوات، كيف استطاع صاحب عبارة "ديوث الشّام" أن يعيش في الشّام؟ هل غفر له حافظ الاسد؟ هل كان النوّاب على صلة بالأسد؟ لا وضوح في العلاقة بين الأسد ومظفر النوّاب الذي كان له منزله الخاص في دمشق، المدينة التي فضّلها على بيروت... الأرجح أن نظام الأسد غضّ النظر عنه، نكاية بنظام صدام حسين الذي فتك بالكثيرين من المعارضين والمثقفين الذين لجأ كثر منهم إلى دمشق، بينهم مظفّر الذي جال على عواصم عربية وغربية، منها بيروت وليبيا وموسكو وبراغ، ومنذ التسعينيات اختار النوّاب دمشق للإقامة فيها. كان يكتفى بداية بالجلوس في مقهى الهافانا، في شارع 29 أيار. هجا معظم الملوك والرؤساء العرب، واستثنى ذلك الجالس في خيمته، أي القذافي!؟ الذي بحسب المعلومات أعطى النوّاب راتباً شهرياً وجواز سفر ليبي...

أصول ارستقراطية
ولد النّواب العام 1934 في الكرخ، بالعاصمة العراقية بغداد، وهاجرت عائلة جده إلى الهند أيام حكم العثمانيين للعراق، وهناك تولت الحكم في إحدى الولايات الهندية، ثم عادت منها إلى العراق بضغط من سلطات الاحتلال الإنكليزي في الهند بسبب مقاومتها لها، وهو من سليل عائلة أدبية ثرية تنتمي إلى البيت الهاشمي، وكان جده لوالده يقرض الشعر بالعربية والفارسية. كانت أسرة النوّاب تتذوق الفنون والموسيقى، وفي أثناء دراسة مظفر في الصف الثالث الابتدائي، اكتشف أستاذه موهبته الفطرية في نظم الشعر، وفي المرحلة الإعدادية أصبح ينشر قصائده في المجلات الحائطية التي تحرر في المدرسة من قبل الطلاب. تابع دراسته في كلية الآداب ببغداد، في ظروف اقتصادية صعبة، بعدما تعرض والده الثري إلى هزة مالية أفقدته ثروته.

انتمى النوّاب إلى الحزب الشيوعي العراقي، وقدّم تضحيات كبيرة في صفوفه، لا سيما بعد إطاحة النظام الملكي العام 1958، بعدها عُيّن مفتشاً فنياً بوزارة التربية في بغداد، فأتاحت له تلك الوظيفة فرصة تشجيع ودعم الموهوبين من موسيقيين وفنانين تشكيليين. وبقي على ما كان عليه حتى العام 1963، واضطر في تلك المرحلة إلى مغادرة بلده، متجهاً إلى إيران لاشتداد الصراع بين الشيوعيين والقوميين الذين تقلدوا الحكم بانقلاب نفذوه في 8 فبراير/شباط من العام نفسه.

لكن المخابرات الإيرانية آنذاك ألقت القبض عليه وهو في طريقه إلى الاتحاد السوفياتي، وسلّمته إلى السلطات العراقية، فحكمت عليه المحكمة العسكرية بالإعدام، لكن الحكم خُفّف إلى السجن المؤبد. وأمضى فترة فى سجن "نقرة السلمان" الشهير في محافظة المثنى جنوبي العراق، ثم نقل إلى سجن الحلة جنوبي بغداد، وهناك تمكن من الهرب والاختفاء في منطقة "الأهوار" جنوبي العراق حيث عمل في شركة هولندية. وفي العام 1969 صدر عفو عن المعارضين، فرجع إلى الوظيفة في مجال التعليم بعدما كان قد فُصل منها. ثم شهد العراق موجة اعتقالات جديدة، واعتُقل مظفر النواب ثم أُطلق سراحه بعد فترة قصيرة، ليشتهر بعدها أكثر في نظم الشعر السياسي المعارض والناقد للأنظمة العربية، من دون أن تأخذه رحمة بها، إذ لجأ لمفرداتٍ جريئة جداً، فيقول في إحدى قصائده واصفاً حكام العرب بها "أولاد القحبة! لستُ خجولاً حين أصارحكم بحقيقتكم، إن حظيرة خنزير أطهر من أطهركم".

تنقل في حياته بين العواصم العربية والأوروبية، واستقر به المقام في دمشق. وعاد النواب إلى العراق لأول مرة العام 2011، لكنه ظل ينتقل بين بغداد ودمشق وبيروت. ومن أشهر قصائد النواب: القدس عروس عروبتكم، وتريات ليلية، الرحلات القصية، المسلخ الدولي وباب الأبجدية، بحار البحارين، قراءة في دفتر المطر، الاتهام، بيان سياسي، رسالة حربية عاشقة، اللون الرمادي، في الحانة القديمة، جسر المباهج القديمة، ندامى، اللون الرمادي، الريل وحمد، أفضحهم، زرازير البراري.