الخميس 2022/05/19

آخر تحديث: 11:48 (بيروت)

الثقة في الوجوه بعد الأقنعة

الخميس 2022/05/19
الثقة في الوجوه بعد الأقنعة
ثمة ثقة، لا مناص من بنائها، بين وجوهنا (المدن)
increase حجم الخط decrease
لقد اعتدنا على وضع القناع في أثر الكورونا، لكن، وبما أنّ انتشار هذا الفيروس حالياً قد انحسر، فقد صارت تلك العادة في مواجهته غير ضرورية، وهذا، حتى في المواصلات العامة.

انتهى زمن التقنّع إذا، ورجعنا إلى وجوهنا كما هي، بحيث ما عادت مُلزَمة بأن تخبئ الأنف والفم أمام غيرها، بل صار من الممكن لها أن تقف عارية من أي لثام. بالتالي، استرددنا وجوهنا من وصمها بكونها حمّالة للكورونا، بكونها نقّالة له، بمعنى أنها تفلتت من الحكم هذا عليها. لكن هذا لا يعني أنّها عادت الى ما كانت عليه قبل الكورونا، وقبل حجبها بالأقنعة. على العكس، تبدو وجوهنا اليوم كالمعتقل في أول أيام إطلاق سراحه، إذ أنه صحيح قد صار حراً، لكنه في الوقت نفسه، يتعلّم كل شيء من جديد عن العالم الذي سيحضر فيه. فوجوهنا، وكهذا السجين السابق، تبدو أنها تتعلّم العيش بلا أن تتقنع من جديد، وتعلّمها هذا لا يخلو من كونها تبدو موضوع ريبة لبعضها البعض.

وجوهنا هذه، واصلت العيش تحت القناع طوال أكثر من عامين، فغدا جزءاً منها. يزعجها، غير أنه، وفي الوقت نفسه، يحميها من سواها على أساس أنها مصدر للخطر. القناع أنتج صِلة بين الوجوه تقوم بالريبة، بحيث أن أي واحد منها قد يسبب بفيرسة الثاني، الذي، ومن جهته، سيؤدي الى فيرسة الثالث، الخ. بمعنى أن تلك الصلة لا تتوقف عند وجه من الوجوه، بل إنها تدور وتزرع الريبة بينها، وكلما فعلت ذلك، تحملها إلى الالتزام بأقنعتها أكثر فأكثر. على هذا النحو، هي، وعندما تتفلت من التقنع، كما يحصل حالياً، وتمضي إلى العيش من دونه، تبدو أنها لا تزال أسيرة تلك الصِّلة. فما أن يقترب وجه من وجه حتى يلفظه، وما أن يعطس وجه، حتى تأخذ كل الوجوه مسافة الاستياء منه، وما إن يشير وجه بملمحه بأنه مزكّم حتى يصير مذنباً مفترضاً ويجري إبعاده بالابتعاد عنه.

 بالطبع، الحديث عن ريبة الوجوه من بعضها البعض، لا يعني سوى أن صِلتها لا تزال تستوي عليه، وهذه الصلة ستحاول وجوهنا أن تتخطاها، أن تنساها، أن تؤكد على أنها كانت مرحلة من تواريخها، وقد انطبعت بالفيروس والاحتماء منه. فثمة ثقة لا مناص من بنائها، بين وجوهنا هذه، أو على الأقل ترميمها، لكي لا تعود مُريبة لبعضها البعض، وكي لا تعود مصدر خطر وخوف لبعضها البعض. الثقة في الوجوه، بعد الانتهاء من الأقنعة، هو عنوان "خريطة الطريق" للعيش بعد الكورونا. 

وأن نثق بوجوهنا يعني، بداية، أن نتصالح مع كونها لا فيروس تنقله، ولا خطر تهدد به، بل إنها أول ما يطل منّا على سوانا، وأول ما يتفاعل هو معه على أساس أنه غيره. فمن نافل القول على نحو "ليفانسي" معروف ومخفف (نسبة لليفانس)، أن الوجوه هي علامات مغايرتنا عن بعضنا البعض. ولهذا، كان التقنع، أيضاً، شبيهاً بنزع هذه العلامات، وتقريباً لأصحابها من كونهم ليسوا أغياراً البتة، بل إنهم على تشابه ما، وهذا حتى لو كان غير مطلق. الثقة في الوجوه هي أيضاً ثقة في مغايرتها حيال بعضها البعض، مثلما أن عيشها بعد الكورونا هو عيش لهذه المغايرة من دون أن يكون حضورها مثيراً لأي ريبة، إنما دليلاً على أن أي شخص منا ما زال لديه وجه. يعني ما زال يشكّل فارقاً ما، لم يأكله القناع ولا فيروسه.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها