عرسال... الانتخابات النيابية كانتخابات مخاتير

لا ضير في القول إني كنتُ متردداً في الذهاب للانتخاب في ضيعتي، أولاً لأني لا أحبّ روتين الانتخابات واندفاع الناس وحشودهم أمام أبواب أقلام الاقتراع، وثانياً بسبب المسافة الطويلة (نحو 150 كلم) التي علي أن أسلكها من إقليم الخروب إلى عرسال، (كان يمكن اعتماد طرق حديثة الكترونية، تخفف من مشقّة السفر، وتجعل المواطن يصوّت حيث يقيم لا حيث سجل نفوسه)...

على طريق ضهر البيدر الدولي، خصوصاً بعد جسر النملية، سيتفوه أي سائق سيارة، بعشرات الشتائم للدولة والنيابة والانتخابات ووزارة الأشغال العامّة. الطريق خنادق تكاد تكون أشبه بطريق جردية لم تشهد التعبيد، هذا في وقت كان أمين عام "حزب الله" حسن نصرالله في خطاب تحشيدي انتخابي، يعدُ جمهوره الحزبي بإنشاء نفق بين بيروت والبقاع "له فوائد عديدة"، وكان النائب في حزبه حسين الحاج حسن يبشّر اللبنانيين والبعلبكيين تحديداً، بمشروع انشاء سكة الحديد والقطار إذ جُهزت الأموال اللازمة...
 

أعبر طريق ضهر البيدر بسلام، أتأمل صور المرشحين المنتشرة، كل مرشح يتحدث ويدعو الناخبين إلى اختياره باعتباره "مخلصاً" و"منقذاً" ومالكاً مفاتيح "الغد الأفضل"... من شتورة بدأت كثافة الرايات الصفر، وصُور حسن نصرالله، وازدادت الكثافة بدءاً من منطقة أبلح مع عبارات التمجيد و"نحمي ونبني"... في بعلبك، عند أحد المنعطفات، تقف شاحنة صغيرة يحمل سائقها علماً أصفر، وهي بلا لوحات وقد وُضعت مكان اللوحات عبارة "جمهورية حزب الله"، كلمة تختصر الواقع بامتياز... تلقائياً كنت أفكر في الواقع الانتخابي في هذه المنطقة وأشعر باليأس، فهنا الانتخابات تكاد تشبه "انتخابات" الانظمة الشمولية، اذ جرّب "حزب الله" على مدى أشهر، برغم قوته وجمهوره العريض، أن يلغي حفلة التصويت قبل أن تبدأ، بالترهيب والترغيب وسحب المرشحين والرشاوي والمازوت وبطاقات "سجّاد"... لا يريد الحزب أي تنوع في المنطقة التي يعتبرها "عقر داره". يريد من المقترعين المسيحيين والسنّة، وهم بالآلاف، ولهم الحق في اختيار أربعة نواب، أن يكونوا مجرد تابعين له في "سرايا المقاومة"، يدعمهم بالمازوت الإيراني وبعض الخدمات العابرة، يحدّد هو من يمثلهم في مجلس النواب، ويجيّر لهم الأصوات اللازمة على طريقته...

المسافة طويلة بين إقليم الخروب وعرسال، وبسبب الطريق وتصدّع الأسفلت والمطبّات الكثيرة عند المنعطفات، فإنها تبعث الاكتئاب أيضاً. في لحظة، أنتبه إلى أن السيارة يلزمها مليون ليرة بنزين في هذا المشوار، هذا إذا لم تصب بأعطال. كثر من الناخبين تفادوا الذهاب إلى البقاع بسبب ذلك... في الضيعة، موجات من القيل والقال والاحتمالات... في الصباح أستيقظ، كنتُ أريد أن ادلي بصوتي وأعود من حيث أتيت... في الطريق قبل مكان قلم الاقتراع بأمتار، فجأة تقف جيبات عسكرية تابعة للجيش اللبناني، تحمل مجموعة من "القوة الضاربة" ومكافحة الشغب، فجأة ينزل "العسكر" على الأرض، "إنت وقاف" و"إنت رجاع". يحاول أحد الشبان الرجوع بسيارته، ولسبب ما، يتلاسن مع عسكري، فيتلقي ضربات بكعب بندقية على رأسه ووجهه، ويأخذونه إلى الثكنة القريبة... يحاول احد المرشحين ان يخلّصه، فيتلقى لكمة من عسكري. مشهد يزيدني اكتئاباً، وأشعر بتعاطف مع المرشح...

أمام قلم الاقتراع، الفوضى كتلك التي شهدناها في كل المناطق، ولا ضرورة لذكرها... الخلاصة التي انتبهت إليها، بعد التصويت والمغادرة ورؤية وجوه الناس ثم متابعة النتيجة وعدد المقترعين وتوزيعهم، أن الانتخابات العرسالية كانتْ أشبه بانتخابات مخاتير أو انتخابات بلدية... هادئة، خجولة وهزيلة من حيث المشاركة والحماسة. 5 آلاف صوت من أصل 18 ألف صوت. فيها جانب بسيط من السياسة، لكن يغلب عليها المنطق القرابي والعائلي والمحلي والشخصي، و"المَونة" والصداقة. حتى بعض المتحزبين سرعان ما نسوا الحزبية في اللحظة الانتخابية، وفكروا بقريبهم. ثمة أشخاص يفكرون بطريقة مصلحية ويجدون في الانتخابات فرصة لبعض المال (الهزيل أيضاً)... المعترضون على المشهد الانتخابي وجدوا في دعوة "المستقبل" للمقاطعة حجة للانكفاء، فقبل الانتخابات بيومين انتشرت لافتات الدعم للحريري وعبارة "إن عادَت مرجعيتنا عُدنا".

ثمّة أصوات من عرسال ذهبت لمرشحين مثل القواتي أنطوان حبشي، منها كجزء من رد الجميل على خدمات قدّمها لبعض الأفراد، ومنها من باب النكاية السياسية والشخصية، وهناك بعض أصوات لا بأس بها حصل عليها النائب في "حزب الله" حسين الحاج حسن، هي بحسب المعلومات أتت من بعض العائلات البعثية بطلب من أمينه القُطري، علي حجازي، يريد أن يبرهن عن حجم حضوره الشعبي، إلى جانب وعوده بالإفراج عن بعض المساجين، أو بالسماح لبعض العائلات العرسالية بالعودة إلى مناطقها في مشاريع القاع وجوسيه، وهم في الأساس هُجّروا منها خلال الأحداث في سوريا...
  

في المحصلة، كانت عرسال شبه مقاطِعة، فعدا غياب "المرجعية" السياسة والمشجّعة، انعكست كثرة المرشحين العراسلة سلباً على الناخبين، وتحولت الانتخابات النيابية إلى مَخترة، كما قلنا... وتركيب اللوائح بطريقة غير مدروسة والصراع بين المرشحين والأنانيات والضغوط، انعكست أيضاً على الناس، وكانت النتيجة أن "حزب الله" حقق الجزء الأكبر من مراده...