الإثنين 2022/05/16

آخر تحديث: 12:15 (بيروت)

في الأدب.. و"أدب المقاومة"!

الإثنين 2022/05/16
في الأدب.. و"أدب المقاومة"!
قاسم سليماني في معرض الكتاب
increase حجم الخط decrease
عندما سئل الكاتب الأرجنتيني خورخي لويس بورخيس: لماذا تكتب؟ ردّ بالقول: كي أكون وفياً لمخيلتي.

ما إن تناهت إلى مسامعي أنباء جائزة للأدب تحمل اسم "قاسم سليماني"، حتى طالعني السؤال التالي: ما طبيعة النصوص الأدبية التي قد تنتجها مخيّلة الممانعة؟ طالعني هذا السؤال وفي بالي النص الأعم لحسن نصرالله وثيمة صواريخه التي لا تخلص، فضلاً عن نص آخر شاهدتُ ناسه بأمّ العين في أيار 2008 في شارع الحمرا.

لا غرو أنّ الارتياب والتربص والإنتصارات المعطوفة على شعور دائم بالمظلومية والركون إلى غبش الذاكرة التاريخية، وغيرها مما ينضوي ضمن هذه الأمور، قد ينتج أدباً جميلاً، إنما قوننة هذه العناصر عبر حدود الأصابع والعقيدة تجعل من الأدب بشكل عام أقرب إلى ثفل في قعر فنجان العقيدة.

لا يستوي الأدب مع الحدود المنضبطة، فهو حاجة التفلت من كل قيد، حاجة النظر في كل اتجاه، حاجة إغماض العيون والتحديق إلى الداخل، وهو أيضاً حاجة الإرتخاء واللامبالاة وربما معاينة العالم، كل العالم كقشة في مهب الريح... في مهب مزاج الكاتب.

قد يجد المرء ما يكفي من التبريرات إزاء ضبط الغرائز عبر السلطات الحاكمة، وقد يستوعب تحيين الأجندة الانفعالية للجماعة بما يتناسب مع أغراض السلطة. إنما انسياب الكاتب باختياره مع آليات الضبط هذه، يجعل نصه، وفي حالة الممانعة بالذات، يجعل هذا النص صاروخاً هشاً من الكلمات البليدة الراكدة والمتراكمة كجثث في معركة خاسرة. لست أدري مَن كتب أن وظيفة الفن والكتابة ضمناً ليست معرفة العالم وتفسيره، إنما انتاج مكمّلات له. بالتالي كيف سيكون شكل العالم إذا ما حُوّل الفن ليكون مجرد برغيّ صغير أو عزقة صدئة في ماكينة العقيدة الضخمة؟!

رحم الله آرنستو ساباتو، فهو كان يردد أن على الكاتب أن يجهد على الدوام من أجل المحافظة على عدم الولاء. قد يكون ثمة التباس وقع فيه أهل جائزة "الأدب المقاوم" ومنظموها وأعضاء لجانها من ذوي السبائك الذهبية، لدى قراءتهم مثلاً إحدى عبارات مارسيل بروست، على سبيل المثال لا الحصر... فالرجل قال إن الطريقة الوحيدة للدفاع عن اللغة تكون بأن ننقضّ عبر الأدب على اللغة ونفجّرها، لا أن نفجّر المدن بالبراميل والعبوات الناسفة من أجل الحفاظ على لغة قد تكون خشبية.

وطالما أن الحكي هنا عن الأدب، فلا حرج من الاتّكاء على أهل الاختصاص من ذوي الميول المتناقضة المبعثرة المشتتة، والتي لا عهد لها بالانضباط، والتي قد تمسك عن الكلام فجأة لتعود فتصرخ من حيث لا أحد يدري... وأنا أقصد أهل الأدب في بلاد الله الواسعة، لا تلك المسيجة بزعيق المنابر واللعلعات المملة وبخس اللجان التي ارتضت الانطواء ضمن حدود ضيقة مهلهلة.

عندما سئل جاك دريدا، عن شِعر باول تسيلان، أجاب الفيلسوف الفرنسي بالقول إن جوهر القصيدة عند هذا الشاعر الألماني المنتحر يقوم على الإقرار بأن هويتنا ككائنات بشرية عصية على التحديد والحصر... ردّ دريدا قائلاً إن القصيدة في هذا المحل هي تصريح عن غموض سرديات "الأنا" وتذبذبها بين حدّي اللاتواصل وسوء الفهم. وفي سياق هذه المادة، كأني بدريدا يقول إن القصيدة هي العكس من الصاروخ اللامتذبذب بين نقطة انطلاقه ونقطة الوصول... القصيدة ليست صاروخاً.

الأدب العقائدي بشكل عام هو أدب صاروخي الطابع، محدد الوجهة والهدف والغرض، وإن كان صوت انفجاره أقرب إلى "الفتّيشة". هو أدب يقتات على الافتراضات المسبقة لمتلقّيه، حيث الدلالة مهيّأة سلفاً ومكان الكلمات في النص محدد تماماً، كالرصاصات المصطفة في صندوق الذخيرة لحظة خروجه من المستودع. فالعلاقة بين الكاتب والمتلقّي ضمن هذه الشبكات الثقافية، لا تتحايل على الوضوح، لا تركن إلى اللعب، وأخطر ما في هذه العلاقة هو أن حدود الذاكرة والتخييل مرسومة سلفاً... فهذه العلاقة في هذا السياق، تشبه العلاقات الزوجية التي داخَلَها الملل. كم كان عبد الفتاح كيليطو محقاً حينما سأل: ما فائدة أن نكتب إذا لم نلعب في الآن نفسه بالكلمات وبالصور وبالذاكرة؟

العديد من مؤرخي الأدب قاربوا تاريخ الكتابة باعتباره تاريخاً للتفرّد. فتاريخ الأدب هو في بعض نواحيه تقصٍّ دقيق في كيفية استنبات "أنا" مغايرة عن السائد وتختلف عن "أنا" الحشد والجموع. فالموضوع هنا لا يتعلق بمعسكر تدريب على الكتابة الإبداعية في هذه القرية البقاعية أو تلك، بحيث يجد الإنسان أن مقتضيات الكتابة في هذا السياق "العسكري" تتماهى مع حاجة العقيدة ووجهة نظر صواريخها. فالكتابة بنهاية الأمر، أداء، والأداء إما أن يكون متفرّداً أو لا يكون... يقول الكاتب الأميركي جون شتاينبك، أنا أكتب الرواية وكأنها رسالة موجهة إلى شخص واحد، فهذا يخلصني من الرعب الغامض الذي ينتابني عند التفكير بمخاطبة الجمهور الكبير الذي لا وجه له.

... أيضاً، وبالاتّكاء مجدداً على أهل الاختصاص، الكتابة ليست إشارة مرور علينا التقيّد بأضوائها وإلا وقعنا في مغبة الإصطدام (امبرتو إيكو). كلا، ما يعزز وجاهة الأدب هو كونه واقعة صِدامية لا تحفل بما تقتات عليه الجموع، ولا تأبه بسياسات الإغراء أو الإكراه التي تمارسها السلطة، أي سلطة... لقد أجادت جماعة التفكيك بقولها أن الشرط الأول للأدب هو التخلّي عن المنظور الجوهري للعالم، للإنسان، للأشياء وللسلطات، أكاديمية كانت أو حربَجِية. 
فالأدب ليس برج مراقبة أو نقطة ارتكاز لهذه العقيدة أو تلك، وهو أيضاً ليس قالباً لتثبيت الأمزجة ودوزنة الإنتماءات، فالإنتماء في الإجمال فخ، ولما يكون شرط الأدب الإنتماء فهو عندئذ بوصلة للتفاهة والشحوب، وصولاً إلى اصفرار الكلمات ويباسها.

أثناء الحرب الأهلية الاسبانية، وبتكليف شرعي من فرانكو، كان الفاشيون يطلقون بجهار الصوت وصرامته الشعار التالي: Viva La Muerte... يحيا الموت. في الجهة الأخرى من الجبهة، كان جورج أورويل يسجّل ملاحظاته عن الحرب ليدوّن التالي: إحدى أفظع خصائص الحرب ان كل الدعاية الحربية وكل العجيج والكذب... تأتي دائماً مِن البعيدين من المعركة.

لعل أورويل يُلمّح عبر هذا القول إلى أنماط معينة من الأدب والشعر واللجان والأشخاص، ويا لها من مفارقة أن أورويل في كتابه عن الحرب الإسبانية (تحية إلى كاتالونيا) وعطفاً على حدث وقع في شهر أيار بالذات من العام 1937 يتكلم (أورويل) بإزدراء عن أحد القادة ممن وصفوا تلك الأيام من شهر أيار حرفياً بـ"الأيام المجيدة"!... يبدو أن التاريخ بالفعل يتكرر بشكل هزيل وكاريكاتوري.

بالعودة إلى اسم القائد الذي يغلّف جوائز "أدب المقاومة"، أما وقد شقّ هذا القائد الدرب بما لا محيد عنه من قبل "المكلفين" في هذه البلاد.. ربما يجب استكمال "أورويل في الضاحية الجنوبية" بعنوان آخر، كأن يكون "Eichmann في الضاحية الجنوبية".
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها