الإثنين 2022/05/16

آخر تحديث: 12:02 (بيروت)

رواية الليبي محمد النعاس... خباز قتلته الرجولة

الإثنين 2022/05/16
رواية الليبي محمد النعاس... خباز قتلته الرجولة
صناعة الخبز تشبه الحياة مليئة بالترقب والقلق
increase حجم الخط decrease
رواية الليبي محمد النعاس التي تحمل عنوان "خبز على طاولة الخال ميلاد"، الصادرة عن دراي النشر "رشم" في السعودية، و"مسكيلياني" في تونس، هي التي ترشحها أوساط جائزة "بوكر للرواية العربية"، لتنافس رواية المصري طارق إمام "ماكيت القاهرة"، ورواية العُمانية بشرى خلفان "دلشاد" على الجائزة الأولى التي من المقرر أن تعلن في معرض أبوظبي للكتاب في الأسبوع الأخير من الشهر الحالي. وهذا أمر يغري إلى حد ما بإجراء بعض المقارنات السريعة بين هذا العمل وبعض الروايات الأخرى في اللائحة القصيرة، ليس على سبيل إصدار حكم قيمة، وإنما لتحديد بعض نقاط التباعد والتقارب.
 
صناعة الخبز تشبه الحياة، مليئة بالترقب والقلق، تلك هي خلاصة الفصل الأول من الرواية، تحت عنوان "المخبز" الذي تدور فيه ومن حوله أحداث هذا الفصل وتتحرك الشخصيات. ومن خلاله يمكن قراءة مدى تمكن الروائي من بناء الشخصيات ومتانة أسلوبه ولغته والطريقة التي يعالج بها موضوعه. وفي وسع القارئ أن يلاحظ ببساطة أن هذه العناصر تتوافر على نحو جيد، وهذا يعني أن الكاتب استطاع أن يشد القارئ إلى أسلوبه وموضوعاته، حيث تتفرد من بينها صناعة الخبز التي تعلمها على يد والده، الذي أخذها بدوره عن المعلم الطلياني "لويجي"، الصقلي من أصول عربية، وهو من أسس الفرن أو" الكوشة" حسب التسمية الليبية، وآل من بعد مغادرته الى إيطاليا بعد "ثورة الفاتح" إلى مساعده وشريكه الأساسي الليبي. وكان الوالد عصبياً ولا يحب الناس، إلا أنه "كان لطيفاً مع العجين يعامله بحب". وحين ينقل أسرار المهنة إلى نجله فإنه يعلمه الممتع في صناعة الخبز "السر هو القلب، أن تضعك حبك في الخبز" الحب هو المكون الخامس للخبز بعد الطحين، الماء، الملح والخميرة التي كان المعلم الإيطالي يطلق عليها لقب "فالنتينا" والليبي يسميها "خدوجة".

وهناك مكون سري هو الوقت: "يجب ألا تخبز خبزك قبل انتهاء الوقت". وفي هذا العالم السحري يتعرف على شخصيات الخبازين القادمين من بلدان عربية مختلفة مثل تونس، الجزائر، ومصر، ويفهم من خلال علاقتهم بصناعة الخبز أنماط تفكيرهم وعيشهم وفلسفتهم في الحياة، ومع ذلك فإن هذه الشخصيات كلها وفية لصناعة الخبز. فهذا الجزائري الذي يبدو بعيداً من جو المهنة يقول: "الغربة تجبر خبازاً أن يتحول إلى حلاق.. أمر سيء". وحين تذوق ميلاد الكرواسون في تونس، اكتشف أن الفرنسيين تفوقوا على الإيطاليين في فن الخَبز، نجح الإيطاليون في البيتزا، والفرنسيون في الكرواسون الأكثر نعومة ورهافة في الصنعة.

ورغم المتعة العالية التي يتسم بها هذا الفصل، فإن الحكاية الفعلية ليست هنا، بل تكمن في استعادة الرجولة، التي تشكل عقدة الراوي "ميلاد" ابن الخباز، الذي يجد نفسه امام أحد خيارين في لحظة المواجهة مع الذات والمجتمع الذي ينتقص من رجولته كل يوم، "إما أن استعيد رجولتي أو أنهي حياتي"، وبعد أن يفشل في الانتحار يذهب إلى وصية الأب بالالتحاق بالعسكرية، عملاً بالمثل الشعبي الليبي الذي يقول "تعيش يوم ديك ولا عشرة دجاجة"، رغم أن العم الذي احتال عليه واستولى على الفرن بعد رحيل والده، سخر من فكرة العسكرية "آه يا فتى لو تعرف ما الذي ينتظرك فستهرب إلى تونس". وكانت تجربة فشل فيها مدرب المعسكر في "أن يجعل مني بندقية يوجهها حيث يشاء".

هذه الفترة، منذ منتصف الثمانينيات حتى منتصف التسعينيات، هي التي عاشت خلالها ليبيا تداعيات حرب تشاد وعقوبات لوكربي، وتردي الأوضاع الاقتصادية، وانعكس ذلك في حياة الليبيين، وأصاب جيل الشباب الذي وجد نفسه من دون أفق، فارتدت أوساط منه نحو المخدرات والكحول. وميلاد، الذي كان قريباً من حافة هذه الهاوية، كانت قد تعمقت فيه عقدة الرجل الضعيف التي زرعها فيه المجتمع، ولم تكن حالة الضعف إلا لأنه تعلم ضَفر شعر أخواته البنات، وصناعة الحلوى النسائية والخبز والكعك والبريوش، وغسل ملابس زوجته وترتيبها وكيّها، وكي يتخلص من هذا الشعور بالنقص يهب إلى الانتحار مرة أخرى، لكنه يتذكر العجين الذي لم يخبزه: "لم يهن على قلبي أن أخرج من هذه الدنيا وقد تركت خبزي لغيري". وتتكرر الحادثة بعد محاولة هربه من الجيش، لكنه ينجو منها أيضاً، وتكون نهاية تجربة العسكرية، وليست نهاية تمرين الرجولة الذي يستمر من الآن وصاعداً مع زوجته زينب، التي تلخصها كلمات أغنية المغني الليبي أحمد فكرون "الشمس تجي وتعدي، والأيام تفوت وما تهدي، وأنا وأنت زي الريح، ودّك ما رافق ودّي".

"الفرس على راكبها" المرأة تتخلق بأخلاق زوجها، مَثَل ليبي يسوقه كإسقاط على علاقة الزواج بينه وبين وزينب، التي لم تكن تلك الفتاة المتحررة، لكنها لم تكن محافظة. شبه متحررة شبه محافظة، وأما هو الذي يتعاطى الكحول كل يوم، ويشارك أصدقاءه سهرات مع العاهرات، رفض أن تلبس زينب "البكيني" على شاطئ خاص حيث لا يوجد غيره معها، ويضايقه أنها تدخن من علبته سيجارة بين حين وآخر، وبعد أن تنزعج وتحتج يسمح لها بالبكيني شريطة ألا يراها ليبي، لكنه يتعامل مع مسألة غياب غشاء البكارة من دون رد فعل سلبي جداً، ويكتفي بأنها بررت له: "ليست كل فتاة لديها غشاء بكارة"، إلا أنه تبقى هناك نقطة سوداء مفادها أن زواجه منها لم يكن سوى حصيلة لهذا الفعل الذي تم قبل الزواج. ولا تلبث المسافة بينهما أن تتضح في أول امتحان لعلاقتهما في عيون الآخر، ففي حوار يدور بين ميلاد والعجوز اليهودي بنيامين الذي استضافهم هو وابنته ساره في مدينة جربة التونسية وهما ذاهبان لقضاء شهر العسل. يبلغه العجوز رأيه: "لا تبدو لي رجلاً متحرراً، تبدو كشاب ترعرع على تقاليد المجتمع وأراها مندفعة نحو التحرر". وفي هذه الحالة يتذكر جملة أمه "الفرس على راكبها"، ولذا كل شيء على عاتقه، أحبها جريئة وقوية وقادرة على ركله، وبذلك اقتنع أن علاقته وزواجه من زينب "لن ينتهيا على ما يرام". وهذا ما حصل رغم أن العلاقة قبل الزواج كانت كلها كيمياء "رفعت رأسي لتلتقي عيوننا كالتقاء الخميرة بالماء". وحين يبدأ بالاستقرار معها تحت سقف واحد، تتدحرج العلاقة نحو الهاوية بسرعة، وتذهب نحو الشكوك والاتهام بالخيانة والعنف وتنتهي بالقتل. وهنا تكمن نقطة الضعف الرئيسية في هذا العمل، أي مخالفة البنيان العام للشخصية الأساسية في الرواية، فكل المقدمات كانت توحي بعكس ذلك، لكن محيط ميلاد العائلي ومجتمعه والوسط الذي كان يخالطه من أبناء جيله، دفعه إلى هذا الموقف، وهو الذي كان يردد "إن مزاجي مربوط دائماً بالخبز. لم أرتبط بأي شيء آخر في حياتي". وهذا العيب في الرواية يفتح نافذة الهبوط الذي يصيبها في قسمها الثاني، ويتلخص في العلاقة مع زينب الأنثى التي تتحول إلى محك للضعف والقوة والرجولة، ويبدو واضحاً هنا أن الكاتب حمّل على ظهر الرواية كل الأعباء الليبية، ولو أنه تركها عند الخبز لوصلنا إلى عمل فريد من نوعه، لكن يبدو أنه "ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان" على حد قول السيد المسيح.

وإذا صحت المقارنة بين روايتي طارق إمام وبشرى خلفان، وهذه الرواية، فإننا نجد أنها جميعها تتقاطع في مسألة الاقبال على السرد بنهم شديد، ما يوقعها في الحشو، وهذا يعيدنا إلى ضرورة إخضاع الرواية لتمرين التحرير، الأمر غير الدارج لدى غالبية دور النشر العربية حتى الآن، في حين أنه معمول به لدى دور النشر الغربية كافة، ويسري على جميع الكتاب، بمن فيهم الذين حصدوا جوائز كبرى مثل غونكور الفرنسية، ومان بوكر البريطانية، وبوليتزر الأميركية. ولا أريد هنا التطرق إلى بعض الأسماء التي خضعت للتجربة، لأن ما يجري النظر إليه في الغرب كأمر عادي ويتقبله الكتّاب بصدر رحب، يعتبره كتّاب العالم العربي انتقاصاً من مكانة الكاتب، وتدخلاً من جانب دار النشر، التي تمارس هذا الدور من أجل مصالحها في ترويج العمل.

والنقطة الثانية التي تلتقي عندها الأعمال الثلاثة، هو أنها تأخذ القارئ نحو تفاصيل مملة جداً، يجد نفسه ينفر من العمل بسببها، ومثال ذلك في هذه الرواية التفاصيل العائلية بين زوجة ميلاد وعائلته والتي لا تضيف للعمل شيئاً، وتخصيص أكثر من ثلث العمل لتفاصيل الزوجة التي كان في وسع الكاتب اختصارها إلى عشر صفحات بدلاً من 120 صفحة.

أما النقطة التي تفترق عندها الأعمال، هي أن رواية طارق إمام تتضمن أكثر من رواية في داخلها، في حين أن روايتي محمد النعاس وبشرى خلفان هما روايتان ذات موضوع واحد، وتتفوق رواية النعاس على "ماكيت القاهرة" التي تقارب الشأن السياسي بالتورية، بأنها تذهب إلى ليبيا ما بعد "ثورة الفاتح" ونهاية الفترة الملكية والتحولات التي عاشها المجتمع الليبي، وهذا التناول يصل إلى حد المباشرة والتقريرية في مواقع عديدة من العمل، إلا أنه لا يبدو نشازاً لأن قسوة الواقع تبرر ذلك.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها