الأربعاء 2022/05/11

آخر تحديث: 11:54 (بيروت)

تصاوير جوديت روس... كأنها تفتش عن نظرات أناس رحلوا

الأربعاء 2022/05/11
increase حجم الخط decrease
تصح ملاحظة تصاوير جوديت جوي روس، من جوانب متعدّدة، لكن هذه المقالة تستند إلى أربع ملاحظات عن أعمال هذه الفوتوغراف الأميركية، مثلما قدمها معرض في باريس (Le Bal).
 
بداية، أول ما يلفت النظر في تصاوير روس، هو أسودها وأبيضها. إذ إن الفنانة واظبت على التقاطها من خلالهما، أو بالأحرى على لونيهما. فالأسود والأبيض كناية عن لونين، يمكن تلقي أثرهما على أساس أنه سبيل إلى تعتيق تصويراتهما. والتعتيق هنا لا يؤدي فقط -وهذا ما يعد البديهي من مفعوله- إلى جعل هذه التصاوير من الماضي فقط، إنما، وأيضاً، إلى جعل الماضي هذا ساري الاشتغال فيها. اشتغال الماضي في التصاوير لا يحصل بردّها إليه، إنما بتحجره فيها، كما لو أن حدّته تغادر زمنه المنصرم لكي تقيم فيها، وفي أوقاتها. فهذه التصاوير تفلتُ الحدة تلك من الماضي، لتجعلها في خدمة أوقاتها، التي، وفي نتيجة ذلك، لا تنتمي إلى أي منصرم، بل إلى ما يمكن تسميته الحالي. فتصاوير روس هي حالية، ولأنها كذلك، فهي تنطوي على دعوة مستمرة إلى النظر صوبها. استمرارها هذا يعني أنها لا تبغي ما حصل من النظر -كأنها تفتش عن نظرات لأناس رحلوا- أو ما يحصل من النظر -كأنها تفتش عمن ينظرون اليها الآن. لكن، ما سيحصل منه، أي أنها على علاقة بالآتي من النظر الذي لم يتحقّق بعد.

غير أن الحديث عن تصويرات روس بهذه الطريقة، مجرد مفارقة، لا سيما أن هذه التصويرات هي في الغالب بورتريهات. فتعيين البورتريه على أساس أنه التقاط لوجه في لحظة معينة، لا يفتح على آت، بل يغلقه على حاضره، الذي سرعان ما يصير من الماضي بفعل تغير صاحبه. طبعاً، يمكن سحب معنى البورتريه على كل تصويرة، ليكون بمثابة موديلها الأمثل، كما لو أن كل تصويرة، في نهاية المطاف، تريد أن تكون البورتريه. من الممكن الأخذ بهذه الفكرة، إلا أنها، وفي ظل أعمال روس، لا تبدو دقيقة للغاية، وهذا لسبب محدد، وهو أن بورتريهات هذه الفنانة ملتقطة في لحظة يصعب توقيفها عليها، وإغلاقها على حاضرها. فمع مشاهدة هذه البورتريهات، يمكن الانتباه إلى أن الظاهرين فيها على حركة ما، وهذه الحركة لا تجمدها التصويرة، لا تميتها، إنما تبينها مع الحفاظ على طلاقتها. وهذا ما يجعل البورتريه الذي يشتمل عليها، مطبوعاً بها، بكونها ذاهبة، ومن بعد التقاطها، إلى تحققها. بعبارة أخرى، بورتريهات روس لا تجمد أصحابها، لكنها تبديهم في أثناء قيامهم بأفعال ما، بشكل يدلّ على انهم سيكملونها من بعدها. كما لو أنها بورتريهات لهم في هذه اللحظة، لكنها بالإضافة الى ذلك، بورتريهاتهم بعدها، بعد انقضائها. فهي بورتريهات لحضورهم ولغيابهم الآتي الذي يجعل حبسهم في وقتها غير متاح.


يمكن القول إن روس لا تهتم بأوضاع الشخوص الذين تصورهم في بورتريهاتهم لتغلقها عليهم. لا تهتم بذلك، بل إنها تكترث بإبداء ما يفعلون خارج هذه البورتريهات، وهذا ما يرتبط بما يتصف به فنها، أي بكونه فناً اجتماعياً. اجتماعية فنها هذه لا تعني أنها تصوّر شخوصها لكي تظهر طبقتهم وتهميشها، تماماً على منوال "الواقعية الاجتماعية" التي سرعان ما تنمطهم. على عكس ذلك، يمكن الاعتقاد بأن روس تصوّر شخوصها من أجل إبانة اجتماعهم، لا عبر التقاطه، إنما بالإشارة إلى الوجهة نحوه، حيث ينوجد ويتواصل بمعزل عنها. هي باب على طريق الى هذا الاجتماع، وليس استديو لتظهيره منه. بهذا، قد يكون سانحاً تحديد معنى للبورتريه الاجتماعي على أساس أنه ليس ما يُظهر الاجتماع، إنما ما يحض على الذهاب إليه.

الحض هذا يتعلق بالحركة التي ينطوي عليها، أي حركة شخوصه الذين يستكملونه بعده.
والى أين تأخذ روس؟ إلى أميركا، أميركا مثلما هي، من دون أن نعرفها، لا سيما أن تصويرات روس بحد ذاتها لا تظهرها بل تحث على الدراية بها. هي علامة على وجودها، ما يعلم بها، معلمها، بحيث تكتفي بأن تكون كذلك حيالها لكي لا تجعل منها ألبوماً. سمة هذه التصاوير-المعلم أنها تقدّم أميركا الخاصة بها، تدل على وجودها، بلا أن تحدّدها بحكم عليها، بمعيار، بهوية، بخانة، بعنوان، الخ. تشير إليها من يومياتها، بلا أن تقبض عليها بل بتركها على جريانها.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها