الثلاثاء 2022/05/10

آخر تحديث: 12:47 (بيروت)

ستبقى غريباً أينما حلَلت

الثلاثاء 2022/05/10
ستبقى غريباً أينما حلَلت
إيغون شييل
increase حجم الخط decrease
قال لي صديقي: نصيحتي لكَ ألاّ تغادر، فقد كبرتَ على إمكانيّة النّجاح في الاندماج في مجتمع جديد، عوضاً عن أنّكَ ستكون على الحال ذاتها من التّذمر والإنزعاج، فالمشكلة ليست في المكان. 

قلتُ: لكنّني فقدت القدرة على الاحتمال، والعيش وسط كلّ هذه التّعقيدات في الحياة وعلاقات الأفراد بعضهم مع بعض.

- صديقي لقد كبرنا هنا، وشببنا هنا، واكتسبنا معرفتنا بالنّاس والأماكن بعد جهودٍ مضنيةٍ ومتعبةٍ لنا ولأعصابنا، ولا ضرورة كي تعيد تكرار التّجربة من جديدٍ، لتصل إلى النّتائج والخلاصات ذاتها. فكلّ شيءٍ بات متشابهاً حدّ التّطابق. لا تتعب روحك في محاولاتٍ جديدةٍ، خصوصاً وأنّكَ ستبقى غريبًا أينما حلَلت، ليس لخلل فيك أو في طبعك، بل لأنّ العالم بات موحشاً بطريقةٍ باتت تفوق قدرتنا على الاحتمال، خاصةً وأنّك صاحٍ أبداً لا تنام. مع ذلك فأنت لم تلجأ للمسكّنات، ذلك أنّك ترفض الرّضوخ لواقعٍ مريرٍ كما يفعل الآخرون.

- صديقي لقد جرّبت كلّ الوسائل المشروعة، من الرّياضة على أنواعها، حتّى الرّوحية منها، وصولًا إلى عيش روتينٍ منفصلٍ في تفاصيل إيقاعه عن تفاصيل إيقاع المدينة، لكن عبثاً. لم أصل إلى أيّ نتيجةٍ. فكلّ الوسائل التي قمت بها للمقاومة والصّمود، كانت تفيدني لمدّة معيّنة، وسرعان ما كان يجرفها ويجتاحها إيقاع المدينة، فازدادت وتيرة زيارتي للطّبيب النّفسي الذي لم يكن في يده حيلة، سوى أن يسطّر لي تنويعات من المهدّئات التي كانت تزيد الأمر سوءاً. وبدلاً من أن تعزّز قدرة الاحتمال لديّ، كانت تقضي على ما تبقّى منها في جهازي العصبي. كما أجبرته نتيجة ضغطي المستمر عليه، ومواجهته بعدم نجاعة وسائله في مساعدتي، على السّماح لي بتناول جرعة من الكحول يوميًّا كعامل مساعد، بعدما كان ينهيني عن الّلجوء إلى أيّة وسائل غير مشروعة، مهما جربنا فإننا نصل إلى الحالة السيزيفية.

- صديقي، مع ذلك، أنتَ ما زلتَ على قيد الحياة. ما زلت تخوضها وأنتّ واقفٌ، ترفض الرّضوخ والإستسلام لشروطها اللّاإنسانية. فأنتَ لا تريد أن تكون في عداد الأموات مثلهم. أنتَ مُصرّ على الاستمرار في العيش، لذلك تستمر في التّذمر من طرق وأساليب علاقاتهم وعيشهم، وتغضب، وتفقد سيطرتك على نفسك، وتطلق العنان لعدم موافقتك على كيفية إدارة علاقاتهم بعضهم مع بعض. صديقي، استمر على ما أنت عليه. لا تهاجر فذلك ليس الحل، ولا تمُت مثلهم. واعلَم إنّي أحبّك كثيراً. وأحبّ انهياراتك وغضبك، وتذمّرك وفرحك النّادر أينما حللت، لأنه حين ينتابك، يكون طبيعياً وعلى حقيقته، على عكس سكّان هذه المعمورة التّعيسة، المدمنين على المخدّرات والمهدّئات والكحول ليستمرّوا في العيش، من دون أن يخطر في بالهم مجرد التّفكير في أن يخوضوا أيّة مواجهة مع واقعهم المرير، أو أن يرفضوه. إنّهم أمواتٌ أموات، وأنتَ الوحيد الوحيد، الباقي على قيد الحياة.

إنهاك طبي
أنهكت أيها الطبيب، أنهكتني ذاكرتي المحمّلة بمليون تفصيل وتفصيل.
أنهكتني الحياة وتفاصيل علاقاتها وشبكات النجاة المعقدة في بلدتي وفي بيروت.
أنهكني بعض الأصدقاء لحماقاتهم التي لا تغتفر.
أنهكتني بعض النساء وأنانياتهن المفرطة وحبّهن للتملك، تملك الأشياء والأشخاص وأي شيء تقع أيديهن عليه أو ليس في متناولهن.
أنهكني بطء البلاد، ولا أحبّ السرعة. أفضّل عليهما السير قدماً أو حثيثاً. أحبّ مغادرة الأمكنة والأشخاص وعدم التمسك بشيء مادي أو إنساني. تخنقني القيود على أنواعها، حتى الحبّ يقيّد حركتي بآخر يفهم الحياة المشتركة أن تبقى ملتصقاً به كي لا تقع خيانات، والخيانات تحصل أحياناً في المخيلة، مخيلة أي شخص كان، ومع ذلك أفضّلها على الخيانات في أرض الواقع ألف مرة...
تقتلني الخيانات الواقعة في كل شيء، في الحبّ، في الصداقة والصحافة والفكر والفلسفة، لا أحد يأخذ مسافة كي لا تقع الخيانة.
تستطيع القول أيها الطبيب إنّنا أدمنّاها، لا أحد يغادر من دون فعل الخيانة. الضمير أمسى محط تندر لا قيمة له، وضعناه على رفّ المقتنيات المهملة وعلاه الغبار والعفونة، فما عاد في إمكاننا إعادة العافية له لأنه ببساطة لحق به الصدأ او الاهتراء.
كيف أتمالك نفسي أيها الطبيب من دون عقاقيرك وأخطائك، الناجمة عن قلّة حيلة أحياناً وعن جهل أحياناً أخرى، كيف السبيل للنهوض في بلاد منهكة مخلّعة أبوابها لكل الآفات المستوردة والموروثة دون غيرها من تقليعات كان يمكن لها أن تجعل من حياتنا أجمل.

أعلمُ ذلك كله، لكن لا مفر لك، عليك النهوض من جديد متأبطاً ذاكرتك بحمولتها التي اتّسع حديثك لها، وتلك التي لم يتّسع لها مجال الذِّكر، لأن الصمت وإطالة الحداد لأجل شفاء الذاكرة، أكبر كذبة. عليك النهوض مجدداً، لا مفرّ لكَ.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها

الكاتب

مقالات أخرى للكاتب