الأحد 2022/05/01

آخر تحديث: 08:53 (بيروت)

أفاعي ميكغوير الطائرة والموحشة

الأحد 2022/05/01
increase حجم الخط decrease
غريبة هي منحوتات كايت ميكغوير المعروضة في باريس (Les filles du calvaire)، وغرابتها هذه، وبما هي علامة ايجابية على قيمتها، تتعلق بادئاً في أنها تحاول تشكيل عالم بعينه، وهو عالم يمكن الاشارة إليه مكانياً هكذا: يقع بين الماء واليابسة، يرتبط بعمق الأول، ولكنه، وفي الوقت نفسه، يحيل إلى أعلى الثاني، إذ إنه، وفي الحالتين، يريد أن يبين الموحش. فركيزة هذا التشكيل، الذي تعتمده منحوتات ميكغوير، هو التفتيش عن الموحش، الذي يصعب الاقتراب منه من دون أن يؤدي ذلك إلى انتاج الكثير من التصورات عنه. وهذه التصورات، تستند إليها ميكغوير من أجل استخلاص الموحش بين الماء واليابسة، وبالفعل نفسه، تحيد عنها، أو بالأحرى تتلاعب بها. ربما، التصوّر الأساس عن الموحش أنه يستوي على كونه أفعى، وهذه الأفعى، وعند وضع كل وقعها الميتولوجي جانباً، يمكن القول إنها صلة وصل بين مطرحين، مطرح الماء من جهة، ومطرح اليابسة من جهة أخرى، أي أنها تجسد العالم البرمائي بامتياز. ولذلك، تبدو ميكغوير أنها، وحين تعمد ألى تضخيمها، وتقدم على تكبيرها، تبحث عن صلة الوصل تلك، ويمكن المغامرة في الإشارة إلى أنها تحض عليها. الحض على الافعى، على "التأفعن"-في حال استخلاص فعل منها- هو حض على تكوين عالم يربط مطرحين بطريقة تامة. وقد يكون حيوانه، أي الأفعى نفسها، على علاقة بالموحش، وعلى تجسيد له، ليس لأنها تعيش مختبئة، او لأنها تعيش متخفية، إنما لأنها توصل مطرحين ببعضهما البعض. معنى مختلف الموحش: هو الذي لا يفصل، إنما الذي يوصل. لهذا، تظهره ميكغوير أنه معرض للحبس، للتقييد، كما لو أن أثره، أي جعل عالمه صلة وصل بين مطرحين، ليس بأمر مستحب.
ولكن، أفعى ميكغوير تتسم بصفة معينة، وهي أنها ريشية، أي أن صانعتها تضيف عليها ريش طيور عدة، فتغدو بذلك أفعى طائرة. بالطبع، "ترييش" الأفعى يضيف على وحشتها وحشة، بحيث يجعل من تحديدها، من تحديد انتمائها إلى هذا الصنف او ذاك، تحديداً صعبا للغاية: فهل هي أفعى أم طائر؟ هل هي طائر يزحف أم أفعى تطير؟ المهم في "ترييش" الافعى، وغير كونه أنه يضاعف من وحشتها، أنه يجعل من وصلها للماء واليابسة في عالمها كناية عن وصل بين ثلاث مطارح: بين عمق الماء، وسطح اليابسة، وبالاضافة إلى أعلى الارض، بما هو الفضاء، وبما هو أفق التحليق والطيران. على هذا النحو، "التأفعن" ليس وصلاً بين مطرحين فقط، إنما بين مطارح، وبين مطارح متناقضة، او متقابلة، على وجه التحديد، بحيث يصعب تخيلها على جمع أو رابط أو مشترك. لذلك، لا بد من التشكيل، من النحت، من أجل صناعة علاقات بينها، وهذا، فعليا، ما يحيل الى تحديد كلاسيكي للفن، وكلاسكيته هنا لا تنقص من قيمته، إنما، وعلى العكس، تنطوي عليها: صناعة علاقات بين مواضيع متباعدة، ولا روابط بينها. فن ميكغوير ليس بعيداً عن هذا التحديد الكلاسيكي، وهو، حين يدور في فضائه، يبدو أنه يحققه على أكمل وجه. الدليل على ذلك أنها تضع المتفرّج على أعمالها أمام موحش لا يرعبه، وأمام خطره الذي لا يهدّده، بمعنى أنه يقلب كل أفكاره المسبقة عنه رأساً على عقب، لكي يجعله على قرب منه بلا أي حاجة له إلى الاحتماء من عواقبه. ربّما، هذا تحديد كلاسيكي آخر للفن: هو ما يتيح مقابلة الموحش من دون الشعور بخطره، هو الذي يسنح في مقابلته من دون تجنبه. وفي نتيجة وقع الفن هذا، لا يعود الموحش موحشاً، إنما، وعلى العكس، يبدو على أثره الفعلي: أنه يبدد أي وحشة بين مطرحين لأنهما على انفصال عن بعضهما البعض، يقربهما، ويجعلهما على صلة. كما لو أن الموحش هو الذي لا طريق له إلى تبديد الوحشة سوى بتجسيدها، إذ يصيرها لكي ينتهي منها.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها