الجمعة 2022/04/08

آخر تحديث: 12:57 (بيروت)

مجيد طوبيا.. رحيل الكاتب المنسي

الجمعة 2022/04/08
مجيد طوبيا.. رحيل الكاتب المنسي
قصته مع الكتابة بدأت مبكرا ودون تخطيط
increase حجم الخط decrease
بعد صدور الجزء الرابع والأخير من ملحمته "تغريبة بني حتحوت" العام 2005، توقف مجيد طوبيا عن القلق من الموت، بل على العكس قال جاداً أنه لا يخافه، ربما بعدما ملّ التجاهل والنسيان، وبعدما تأكد أنه لن ينال التقدير الذي يستحقه. لكن القدر أمهله 17 عاماً أخرى، نال خلالها بعض التقدير، وخفت عنه قبضة النسيان، لكن الوقت كان قد تأخر، إذ داهمه "ألزهايمر" لينسى من تعمدوا نسيانه، بعدها ساءت حالته الصحية كثيراً إلى أن رحل صباح الخميس، إثر جلطة في المخ تعرض لها مطلع مارس الماضي. 
 
كنت محظوظاً بمقابلته والجلوس معه لحوار مطول، عقب صدور الأجزاء الأربعة من رائعته "تغريبة بني حتحوت"، وهو في كامل لياقته الذهنية وقدرته الكبيرة على الحكي والسخرية من كل شيء. سألته وقتها إن كان يشعر بالظلم والتجاهل النقدي، وأتذكّر أنه قال بثقة كبيرة إن النقد لم يظلمه مطلقاً، لأنه يفرق بين النقد الحقيقي وبين الانطباعات الشخصية، ووفق هذه الرؤية، نال ما يستحقه، فكتب عنه أهم نقّاد مصر: "يكفي أنه كتب عنى يحيى حقي، ويوسف الشاروني، وسهير القلماوي، وعبد الرحمن أبو عوف، علي شلش، د.عبد القادر القط". كما أنه ظل يؤمن طوال الوقت بأن النقد بشكل عام يواجه مشكلة: "فحتى نجيب محفوظ نفسه كان يعامل بتجاهل، كما أن هناك قلّة قليلة تملك القدرة الحقيقية على النقد، لكنهم في أحيان كثيرة لم يجدوا فرصة للنشر".

الغبن
حتى وإن كان يشعر بالغبن من تجاهله ونسيانه، رغم أنه كان ربما ألمع كتاب جيله في البدايات على الأقل، فإنه كان ناجحاً في إظهار عزة نفسه والتأكيد دائماً على أن ابتعاده عن الوسط الثقافي اختيار شخصي وأنه ليس مستبعداً أو منبوذاً، ولا ينتظر شيئاً من أحد. قال وقتها إنه يبتعد عن الأخبار الصحافية السريعة باختياره، لأنها تتطلّب نشاطاً بدنياً لم يعد قادراً عليه، إضافة إلى الملل أيضاً! كما أنه ألزم نفسه من البداية بأن عليه الكتابة فقط، وأنه لن يقوم أبداً بعمل أي دعاية شخصية: "من أراد أن يقرأ فليقرأ فكتبي هي التي تقدمني وتعبّر عني". كان يرى أنه ليس مطلوباً من الأديب أن يكون نجماً، بل يجب أن يعرف أنه عملة نادرة: "طول عمرى لا أقبل سوى الأحسن؛ أحسن نشر في أحسن مجلة أو جريدة، لم أعد أنشر لأنه لا يوجد أحسن شيء في مصر الآن، هناك الأسوأ دائماً وأنا لم أنشر كلمة إلا وأنا راض عنها، لذلك لم أندم على نشر كلمة واحدة، وأعرف قيمة الكلمة ومدى تأثيرها وأن هناك من يقرأها ويصدقها ويؤمن بها. أما الانحدار الذي أصبحنا فيه، فشيء محزن، فتخيّل أنه عندما كنتُ شاباً كان النشر يتم بسهوله، وبعدما أصبحت معروفاً أصبح النشر أصعب! لأن الوسط أصبح فاسداً والنشر للكوسة والمتملقين وأنا لا يمكن أن أفعل ذلك".

مؤخرا فقط، وقبل رحيله بفترة قصيرة، أعادت دار "بتانة" طبع بعض أعماله، وعاد اسمه للتردد مجدداً، لكن حالته الصحية لم تسمح له بكثرة الظهور، وعلى أي حال فلم يشارك مجيد طوبيا في ندوات كثيرة بعد ندوته الأولى التي لم تكتمل، والتي حكى لي تفاصيلها: "أظن أن هذه الندوة كانت في جمعية الأدباء أو نادي القصة، وبمجرد أن بدأ الكلام فوجئت بأحد الحاضرين يقول: أنا لا تعجبني قصصك ولماذا لا تحذو حذو أساتذتنا الكبار... ولم ينتظر حتى أشرح له أن لكل جيل ظروفه وأسلوبه، فأصدر حكمه الفوري: أنا مش مقتنع، فقلت له جملة كانت هي كل الندوة التي لم أشارك في غيرها، قلت له: كان هناك شاعر لا أذكر اسمه قال له أحدهم أنا لا أفهم القصيدة التي كتبتها، فقال له الشاعر: على نحت القوافي من معادنها. وليس على إذا لم يفهم البقر،... أنا قلت البقر من هنا، وانقلبت الدنيا، وكانت أول وآخر ندوة أكون بطلها".



في رصيد مجيد طوبيا الروائي أكثر من عشر روايات، منها إضافة، إلى درة أعماله رباعية "تغريبة بني حتحوت": الهؤلاء، دوائر عدم الإمكان، عذراء الغروب، غرفة المصادفة الأرضية، ريم تصبغ شعرها. وفي مجال القصص القصيرة له: فوستوك يصل إلى القمر، خمس جرائد لم تقرأ، الأيام التالية، الوليف، الحادثة التي جرت،... وغيرها. كما أن له أيضاً بعض المؤلفات للأطفال.

قصته مع الكتابة بدأت باكراً ومن دون تخطيط. في "كتابات مجيدية"، أول كتبه غير المنشورة، دوّن خواطره وأفكاره منذ أن كان طالباً. وقتها عرف أن الكتابة مراوغة لكنه قادر على تطويعها. ربما أصبح "كاتباً بالضرورة"، كما يقول، فوقتها لم يكن يوجد من وسائل الترفيه سوى الراديو، لم يكن التلفزيون قد ظهر بعد، وكانت القراءة ثم الكتابة وسيلته لتمضية الوقت. كان مجيد أصغر المترددين على مكتبة البلدية الواسعة، ويُدين بالفضل لأمينها الذي كان دليله في القراءة الجادة، فقرأ مجموعة سليم حسن عن تاريخ الفراعنة كاملة، ثم عودة الروح، فخان الخليلي، ولم يتوقف بعدها عن القراءة والكتابة إلى أن أعجزه المرض. 
 
صداقة
بعد تخرجه عمل مجيد طوبيا مدرساً للرياضيات في مدرسة منوف الثانوية، ودخل معه المدرسة نفسها في العام نفسه، مدرّس لغة إنكليزية اسمه رأفت الميهي، وكان من الطبيعي أن تنشأ بينهما صداقة، فهو الوحيد الذي كان يمكن أن يحدثه عن شغفه بالأدب والكتابة، صداقة ظلت ممتدة بينهما حتى الرحيل.

أما حكايته مع النشر، فبدأت من مسابقة نادي القصة في الستينيات، باقتراح من أحد أصدقائه، وكانت المسابقة الوحيدة تقريباً في ذلك الوقت، وكانت مهمة جداً، فيكفي أن على رأس المحكّمين فيها يوسف إدريس ونعمان عاشور، وأرسل مجيد للمسابقة قصتين: "الفأر الذي لم يمت"، و"فوستوك يصل إلى القمر" التي فاز عنها بجائزة المسابقة، ونشرها بعد ذلك في مجلة "المجلة" التي كان يرأس تحريرها يحيى حقي. وهي القصة نفسها التي كانت سبب معرفته بالدكتورة سهير القلماوي، فبعدما نُشرت القصة بعام تقريباً، طلب يحيى حقي تجهيز عدد خاص عن القصة القصيرة، وكان يعطي قصة لكاتب كبير يعلق عليها، وكان نصيبه مع الدكتورة سهير القلماوي، من هنا توطدت صلته بها من دون أن يلتقيا. وعندما شغلت القلماوي وظيفة رئيس مجلس إدارة دار الكاتب العربي –هيئة الكتاب حالياً- هي التي بحثت عنه لتنشر له أول مجموعه قصصية، وكتبت تقول وقتها: "عرفت القصاص الشاب مجيد طوبيا، بقصته فوستوك يصل إلى القمر، فقد كنت أبحث عن قصص قصيرة حديثة لتكون ضمن مجموعة تمثل نتاج القصة العربية الجديدة لتترجم إلى الإنكليزية، وكنت حريصة على أن يظهر إنتاج الشباب في هذه المجموعة، فوجدت فوستوك يصل إلى القمر، تفرض نفسها على اختياري، باعتبارها تمثل اتجاهاً جديداً في هذا الشكل، إذ تعكس بعض اتجاهات الرواية الحديثة في فرنسا التي يقلدها بعض كتّاب القصة القصيرة، لكني لم أصادفها بالعربية بهذا القدر من النجاح".

كتب للسينما أربعة أفلام: "حكاية من بلدنا"، "أبناء الصمت"، "صانع النجوم"، "قفص الحريم"، كما كتب مسلسلاً واحداً أخرجه إبراهيم الصحن، لكن حبّه للأدب كان أقوى: "الأدب هو الأقرب إلى قلبي لكنى لا أنكر حبي للسينما وللأفلام الجيدة، ولو تركت نفسي للسينما لأصبحت مليونيراً مثل أسامة أنور عكاشة الذي بدأ أديبا ثم انحرف للتلفزيون".
 
جيل الستينات
يعتبر مجيد طوبيا، أحد أعلام جيل الستينات الأدبي، بل أحد الذين صكوا المصطلح من الأساس "أنا وعبد الرحمن أبو عوف وجمال الغيطاني.. لم يكن يسمع عنا أحد، وكنا نجلس في بداية الستينات تقريبا في قهوة الفيشاوي، وكان هناك بعض الأدباء السابقين غير المقتنعين بنا، خصوصاً أننا كنا ننشر أعمالنا خارج مصر، فعرفنا بعض الأدباء العرب وكانوا يسألون عنا عند حضورهم إلى مصر، ولم يكونوا يعرفون عنا في مصر شيئاً، المهم أنه أطلق علينا اسم الأدباء الشبان، وبعد فترة أثبتنا وجودنا بجدارة في الساحة الأدبية، فأصبحت كلمة الأدباء الشبان تظهرنا وكأننا مبتدئين، فكان لا بد أن نخترع اسماً جديداً فاخترعنا كلمة جيل الستينات، على أساس أننا بدأنا الظهور في هذه الفترة، وساعدنا في تدشين هذا المصطلح الأستاذ عبد الفتاح الجمل، وكان المحرر الأدبي لجريدة المساء، إذ تحمس لنا ولأفكارنا وبدأ ينشر لنا وعنا.

(*) ولد مجيد طوبيا في 25 مارس/آذار 1938 بالمنيا في صعيد مصر، حصل على درجة البكالوريوس في الرياضة والتربية من كلية المعلمين في القاهرة العام 1960، ودبلوم معهد السيناريو العام 1970، ودبلوم الدراسات العليا بالإخراج السينمائي من معهد السينما بالقاهرة العام 1972.
حصل على وسام العلوم والفنون من الطبقة الأولى العام 1979، وجائزة الدولة التشجيعية في الآداب من المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب والعلوم الاجتماعية في العام نفسه، بالإضافة إلى جائزة الدولة التقديرية للآداب العام 2014.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها