السبت 2022/04/30

آخر تحديث: 11:11 (بيروت)

هنري بريستس: صور المملكة المخملية وألوان الوحدة والكآبة

السبت 2022/04/30
increase حجم الخط decrease
من يهوى المشهد الطبيعي لا يمكنه أن يقف لامبالياً حيال أعمال هنري بريستس. قد يظن المرء، للوهلة الأولى، أن الحديث يدور حول فنان تشكيلي يرسم مشاهد طبيعية شأنه شأن الكثيرين ممن وجدوا في هذا النوع، الذي افتتحة الإنطباعبون في الفن الحديث، مجالاً وساحة تعبيرية، لكن الكلام يدور حول مصوّر فوتوغرافي يتمتع بموهبة لافتة.


المصور البرتغالي المقيم في جنوب أوروبا، والمتنقل بين المملكة المتحدة وبلدان أخرى، هو كائن انفرادي، كما تدلّ على ذلك طبيعة نتاجه. في مجموعته الأخيرة، المليئة بالغموض والكآبة، ينقل التعبير من طبيعته الحقيقية إلى زاوية سينمائية. تصوّر كل لقطة من لقطاته كائنات منعزلة في كون غريب وسوريالي في الوقت نفسه. وبالعودة إلى القرية البرتغالية التي نشأ فيها، فهو يكشف عن انطباعات ذكريات طفولته في تلك الأماكن التي يعتزّ بها، عندما كان طفلاً يتعلّم التصوير وهو في سن السابعة. اهتم كثيراً في صغره بالقصص، سواء كانت مادة لأفلام سينمائية أو في الكتب، إذ أمضى أوقات فراغه في استهلاك مضامينها. وحين بلغ سن الشباب كان حائراً في ما سيفعله، وهو يقول في هذا المجال: "لم أكن متأكداً تمامًا مما أريد أن أسعى وراءه، أو ما هي الوسائط التي يجب عليّ استخدامها، الشيء الوحيد الذي كنت أعرفه على وجه اليقين هو أنني أردت سرد "ستوري"، تشبه تلك التي كنت أطّلع عليها في السينما أو في الكتب". 

ابتكر بريستس روايات خيالية من خلال التقاط لحظات عابرة سينمائية الهوى. كان متحمسًا كثيرًا للفن السابع، فلجأ أولاً إلى التصوير السينمائي لمحاولة العيش مما كان يمثل شغفه. في تلك الأثناء، كان يبحث عن شكل فني يمكّنه من إيجاد سبل للتعبير. عمل أولاً في بعض الإنتاجات المحلية، إلى أن اكتشف بعد ذلك الإمكانات السردية التي يمكن أن تقدمها الصور، وتحول حينها إلى التصوير الفوتوغرافي.

بدأ في تصوير إعلانات تجارية صغيرة للشركات المحلية، مما ساعده على شراء أول كاميرا ذات نوعية جيّدة. وبمجرّد أن بدأ في الخروج ليلاً لالتقاط الصور، وجد نفسه على الفور أسير هذا المناخ الليلي المختلف. كان هناك شيء ما يجذبه في هذه الحالة، إضافة إلى  القدرة على التحكم الكامل في الإخراج، وعدم الاضطرار إلى الاعتماد على العديد من المتغيرات مثل الوسائط الأخرى: "لقد كنت أنا والكاميرا فقط مع الدافع للخروج لاستكشاف محيطي، وإمكانية إنشاء قصص باستخدام صورة واحدة"، كما يقول.

يصف المصوّر أسلوبه في التصوير الفوتوغرافي على أنه النتيجة النهائية للكثير من التجارب والإختبارات والأخطاء. لم يكن في نيته التوجّه نحو أسلوب معين، ومع ذلك، فقد استلهم الكثير من نتاج صانعي الأفلام والرسامين لتطوير فكرته عن التصوير الفوتوغرافي. وهو اليوم  يترجم أسلوبه الفوتوغرافي في "المشهد السردي"، ويركّز بشكل خاص على إبتكار القصص، واضعاً أدلّة خفية في كل إطار من القصة التي يريد أن يرويها.

قصة سلسلة صور The Velvet Kingdom، أي المملكة المخملية، هي عبارة عن سلسلة من المشاهد السردية، التي نُفذت خلال ربيع العام 2021، والتي تم تخيّلها في قرية Guarda في البرتغال حيث نشأ المصوّر. من أجل هذا الهدف، عمد بريستس إلى إنشاء سلسلة من اللحظات الانطباعية في الأماكن التي ميّزت طفولته. وقد استخدم، من أجل ذلك، الحقول والجبال التي عبرها مع أسرته عندما كان طفلاً كخلفية لسلسلة المناظر الطبيعية الخاصة به. وفي الواقع، فإن هذه المجموعة من المشاهد – اللقطات كانت التقطت في مناطق عدة جنوب أوروبا، وتظهر فيها حقول ضبابية وجبال مغطاة بالثلوج وقرى صغيرة. التًقطت معظم الصور ليلاً، وهي عادة كان دأب عليها المصوّر، وقد نرى في كل لقطة شخصاً واحداً لا ينظر إلى عدسة الكاميرا، محاطاً بمشهد طبيعي مظلم وضبابي، ليُستشف، من خلال ذلك، حكايات الوحدة والكآبة.

عالم حزين وسوريالي
تشير كلمة "مملكة" إلى وصف نوع من الإطار المغلق الذي يبدو موجوداً في مكان معين. كون مهيب من شأنه أن يرتبط بهذه الأماكن، لكن كان من الممكن تصويره في أي جزء من العالم. لكنه، كما يبدو، مستوحى من أعمال المخرج السينمائي ديفيد لينش ومن الأجواء الغامضة، القريبة من قلب لينش، المحيطة بأفلامه على الدوام، كما تُعدّ كلمة "Velvet" إشارة إلى فيلمه "Blue Velvet". علاوة على ذلك، فهو يشير إلى نوعية الألوان المستخدمة في سلسلته ذات المظهر "التشكيلي" المتناغم، والبعيد من التعاكس contrast. من أجل خلق هذا الجو السوريالي، يستخدم بريستس الضباب وضوء الشمس الخافت لإعطاء انطباع معين عن الرسم في لقطاته، وكأنه، في هذه الحال، يصبح كاتب سيناريو هذه القصص الفوتوغرافية القاتمة، في تلك الأماكن التي لا يستطيع نسيانها. يشير الجو الغامض الناتج من هذه الصور، أيضًا، إلى الطقس البعيد من الإستقرار، والمتغير غالباً، الذي تتميز به تلك المنطقة التي شعر فيها براحة أكبر، حين كان طفلاً يعبر تلك الأماكن. لقد شاء بريستس أن يصوّر الوحدة، ولكن أيضًا الجمال الإستثنائي الذي يسكن هذه الأماكن.

الغرابة من ناحية سينمائية
من خلال استلهامه اللوحات والأفلام، كان المصوّر يهدف إلى زيادة المشاعر المتدفقة من صوره، عبر اختيار الألوان المناسبة، وهو يدرك أن الألوان يمكن تفسيرها بشكل مختلف لكل عارض، لذا، فإنه يصف أسلوبه على أنه مشابه لنهج الرسّام. وهو يستخدم الألوان والظلال بدرجات متفاوتة حتى يحقق الغرض المطلوب من صورته. وبمجرد إنشاء قاعدة اللون، فإن العمل على المنتج قد يستغرق أسابيع حتى يجد الإحداثيات المناسبة قبل الوصول إلى التعديل النهائي لصورته. ومن خلال استخدام الألوان والأضواء الأصلية في صوره، فهو يحاول جعلها أكثر دراماتيكية. بهذه الطريقة يمكنه نقل الحالة الذاتية الأصلية في الوقت الذي أخذت الصور فيه. ومن خلال العمل بطريقة عضوية للغاية، فإن صوره تبدو مرتجلة، وهو يصف نفسه بأنه مصور وثائقي، وخلال هذه العملية، يقوم بتجربة صوره من جميع الزوايا والأماكن الممكنة، وصولاً إلى الشعور باللحظة المناسبة، وما يختبره حدسياً أمام العدسة. أما في ما يتعلق بالطريقة التي يلتقط بواسطتها صوره، فهو يقول: "في معظم الأوقات لا أعرف بالضبط ما الذي سأقوم بتصويره؛ لدي فكرة فقط عن الحالة المزاجية التي أريد التقاطها. أقوم، أحياناً، باستكشاف منطقة ما مسبقًا ثمّ أخرج إليها عندما يكون الطقس مناسباً، وذلك مع انتشار الضباب أو أثناء هطول الأمطار، وعادة ما أنجذب إلى بيئات أكثر عزلة تذكرني بالاستكشاف الذي كنت أسعى إليه حين كنت طفلاً".

ولا شك أن ما يهتم به الفنان حقًا هو محاولة إنشاء لحظات سينمائية، ترتكز في الغالب على الواقع، باستثناء واحد أو اثنين من التفاصيل الصغيرة التي لا تبدو صحيحة تمامًا. هناك ما يشبه الكابوس، إلى حد ما، عندما يكون لديك انطباع بأن شيئًا ما على وشك الحدوث. ويبدو أن هذا يُشعره بعدم الراحة، وهذا هو بالضبط هدف المصور، إذ يعتبر بريستس أن هناك ضربا من المازوشية في المسألة. الليل المظلم، الضباب، عدم الرؤية... إن ذلك كلّه يبدو مخيفاً. لكن هذا الجو المظلم المقترن بالكآبة هو ما يسعى إليه هنري بريستس في تلك اللقطات التي يظهر أبطالها جميعاً من الخلف، وكأنهم في صدد سرد قصة غامضة لا يعلم أحد فحواها. 
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها