الأربعاء 2022/04/27

آخر تحديث: 12:47 (بيروت)

"الضفة الأخرى للنهر".. فدائية نسوية في الشمال السوري

الأربعاء 2022/04/27
increase حجم الخط decrease
الصور التي ظهرت من مدينة منبج شمالي سوريا في صيف العام 2016 أسعدت أطيافاً متنوعة من المجموعات: النسويات والمدخّنين، على سبيل المثال. عندما قامت قوات منطقة الحكم الذاتي الكردية (روج آفا) المعروفة اختصاراً بـ"قسد"، بالاستيلاء على مدينة منبج، من تنظيم الدولة الإسلامية الإرهابي، كان الناس يتباهون بشيئين أمام الكاميرات: تدخين السجائر - التي كانت ممنوعة نهائياً إبان سيطرة الإسلاميين - وخلع النساء للنقاب، المفروض عليهن قسراً في ظلّ "الخلافة".

في تلك الأثناء، ذهبت المخرجة الألمانية أنتونيا كيليان إلى المنطقة، كجزء من حركة التضامن مع "روجافا" التي تشكَّلت بين النشطاء اليساريين في أوروبا. وفي حين لا يُعرف أي شيء عن صلات كيليان بالتدخين أو صناعة التبغ، إلا إنها وفقاً لتصريحاتها "نسوية راديكالية". وعلى هذا الأساس، أرادت الوصول إلى المكان الذي فرّ منه العديد من المهاجرين واللاجئين في السنوات الأخيرة. فسافرت إلى شمال سوريا وأخذت معها الكاميرا. ليس فقط لتصوير نساء منبج المحرَّرات، لكن قبل كل شيء للتعرُّف على مَن حرّروهن: كانت الوحدات النسائية الكردية تقاتل أيضاً ضمن القوات التي استولت على مدينة بعد أخرى من داعش.

تقول المخرجة: "لقد كنّ مثاليات للغاية من ناحية. أضحت لقطاتهن فيلماً كاملاً قائماً بذاته. آخرون رأوا فيهن كائنات إكزوتيكية تقتل رجال داعش. لكنّي أردت أن أعرف أي نوع من النساء هنّ، وما الأسباب التي تدفعهن لحمل السلاح؟". تُركت كيليان مع "عدد لا يحصى من الأسئلة"، ومكثت هناك تراقب وتصوّر لمدة 12 شهراً، لم تقلّ فيها أسئلتها مثلما لم تنحلّ تعقيدات المسألة الكردية في الشمال السوري.

هذا الاهتمام من جانبها، جاء ضمن موجة غربية أوسع لتقديم صورة المقاتلة الكردية، شابتها تنميطات واجتزاءات وتسفيهات. نذكر على سبيل المثال، فيلم "أخوات السلاح" للفرنسية كارولين فوريست، و"بنات الشمس" للفرنسية الأخرى إيفا هوسون. لكن أنتونيا كيليان تذهب في فيلمها الوثائقي "الضفة الأخرى للنهر" إلى ما هو أبعد من التنميطات، في تتبّعها لحياة شرطية كردية تناضل من أجل حياة مستقلة في منبج المحرّرة لتوهّا من سيطرة المتشددين الإسلاميين، لكنها لم تتخلّص بعد من هياكل الأبوية المهيمنة هناك.

من الممكن أن تكون بطلتها (لاحقاً) قد ظهرت في إحدى الصور الإخبارية في ذلك الوقت، لكن هذا ليس بالضرورة محتملاً. هالة مصطفى، ابنة الـ21 عاماً، المتحدرة من عائلة عربية كردية في منبج، كانت واحدة ممن خلعن النقاب بعد طرد إرهابيي داعش. وعندما أراد والدها تزويجها في التاسعة عشرة من عمرها رغماً عنها، هربتْ. انضمت إلى الأكاديمية العسكرية في روج آفا غربي كردستان، وقرّرت مصيرها بالانتماء المطلق للحياة العسكرية، والدفاع عن أخواتها والنساء جميعهن.


هذه هي القصة الخلفية للفيلم. أصبحت هالة الآن امرأة صغيرة تحمل بندقية. تتدرَّب مع قوات الأمن الداخلي الكردية المسماة "الأسايش" وتعود في النهاية إلى مسقط رأسها بالزيّ العسكري. أثناء استراحة من عملها تدخّن سيجارة وتحادث زميلتها شارحة لها سبب حملها لسلاحها حتى في أوقات فراغها: "كما تعلمين، انضم 62 رجلاً من عائلتي وأبناء عمومتي إلى تنظيم الدولة الإسلامية. قُتل 40 منهم، وما زال الباقون يقاتلون". تتلقّى تهديدات كل يوم، ولهذا السبب تحمل قنبلة يدوية. بالنسبة إليها، الموت خير من زواجٍ تُغصب عليه، أو أن يخطفها ابن عمّها الداعشي.

من المحتمل أن يكون العالم الذي تعيش فيه هالة والذي تقدّمه كيليان في فيلمها مزعجاً لكثير من المشاهدين المفترضين للفيلم، أي الغربيين. فمنذ انتهاء المرحلة الساخنة من الثورة السورية التي حوّلها النظام حرباً أهلية ومقتلة عالمية، اختفت سوريا تقريباً من الأخبار. لكن في المناطق الكردية وتلك التي استعيدت من داعش تحت قيادتهم، برزت حكومة ذاتية تغطي الآن أكثر من خُمس مساحة البلاد. بالإضافة إلى الديموقراطية الشعبية والعلمانية، فقد تبنّت أيضاً النسوية، والتي - كما يظهر في فيلم كيليان - هي أيضاً مسلّحة بالمعنى الحرفي. بالنسبة لليسار الأوروبي، المنضوية المخرجة تحت لوائه العريض، لطالما عانى ضعف معرفته بسياقات وتعقيدات النضال الكردي في سوريا والعراق وتركيا، وبالتالي أضحت هذه الدولة الناشئة مكاناً للنظر والتطلًّع وربما حتى الشوق لنضالات التحرير في ستينيات القرن الماضي.

كان من الممكن تصوير فيلم عن كل هذا الارتباك الأوروبي إزاء مسألة معقّدة ضمن منطقة معقّدة الصراعات، لكن بعد بضع دقائق يدور رأس المرء مع توالي اختصارات أسماء الجماعات السياسية، والتواريخ، ومسار الحدود والجبهات. ومع ذلك، لا تشرح أنتونيا كيليان شيئاً، وبدلاً من ذلك تتابع بطلتها هالة. أثناء تأسّيها على افتقاد شقيقاتها اللواتي بقين مع والدهن. أو أثناء تقديمها بفخر شقتها الأولى الخاصة بها، حيث تضع الملابس في الخزائن وتطبخ على أرضية المطبخ. هي التي تحاول أن تبدو قاسية ومهتمة في الوقت نفسه الذي تقود فيه امرأة هربت من عائلتها إلى غرفة خلع الملابس في مركز الشرطة: "اخلعي الحجاب، وارتدي الزيّ الرسمي".

كلّ هذا يمكنه توفير مادة دسمة لفيلم يشيد بالمشروع السياسي في المقام الأول. "بالطبع، كنت مدركة تماماً لمثالية ثورة روج آفا، ورأيت النظام هناك بحماسٍ في البداية". لكن حقيقة أن "الضفة الأخرى للنهر" لن يقتصر عرضه على الأيام الثقافية الكردستانية، أمام لجان التضامن في ألمانيا، وإنما أيضاً في صالات السينما هناك، إضافة إلى فوزة بجوائز في المهرجانات السينمائية؛ يرجع إلى أن كيليان "أرادت أن تعرف أكثر من مجرد اكتفائها بالعثور على شيء لطيف واحتفائي"، على حدّ تعبيرها.



من 200 ساعة من المواد المصوّرة، غالباً ما فهمت كيليان حواراتها فقط عندما شاهدتها لاحقاً مع المترجمين، اختارت بالضبط تلك التي تظهر التناقض. مثلاً، الدروس الأيديولوجية للطالبات في الأكاديمية العسكرية التي أقسمت فيها هالة على العزوبية. "الرغبة الجنسية تقود الإنسانية إلى الهاوية"، تصرخ إحدى الرفيقات في الفتيات. "لم أعد أؤمن بفكرة الزواج والحبّ، وأعد بالتضحية بنفسي من أجل رسالتنا"، تقول رفيقة أخرى. لا يكتفي الفيلم بالاحتفاء بصورة المقاتلات الشرسات، إنما يسائل أيضاً أيديولوجيا النضال الكردي، بما فيها من عنفٍ رمزي يبدو لازماً في سبيل "القضية". تُظهر صور كيليان أحياناً شعار حزب العمال الكردستاني هنا، وأحياناً صورة أوجلان هناك، رغم أن الحركة السورية تحاول دائماً التقليل من أهمية الصلات بالحزب الذي يُعتبر منظمة إرهابية في تركيا المجاورة. تناقضات يوليها الفيلم عنايته، إلا أنه يغفل معضلة أخرى أهمّ، تخصّ بطلته ذاتها، إذ لم يأت سوى مرة واحدة على ذكر أنها من عائلة عربية أو عدم إجادتها التامة للغة الكردية، وبالتالي يحرم نفسه وجمهوره من فهم الأسباب الأولى لاختيارها حياتها على هذا النحو، كما إبراز صراعها المحموم مع والدها وسعيها لإبعاد شبح سلطته عن شقيقاتها وتجنيبهن مصير الزواج القسري.

على أية حال، ربما يكون هذا مطلباً متحاملاً على فيلمٍ لا يدخّر جهداً في مقاربة موضوعية لشخصياته وموضوعاته الحسّاسة والمعقّدة أصلاً، وهذا التصدّي الجاد يُحسب له في الأخير. تؤكد كيليان: "لدي قدر كبير من الاحترام للمرأة. لا يمكن إنكار أنهم تمكنوا من التغيير فيما يتعلّق بحقوق المرأة وتحريرها في المنطقة. لكن وجهة نظري هي تضامن نقدي، لأن الكثير من الأشياء تبقى معقّدة". وهذا ينطبق أكثر على بطلتها هالة، التي تقود في نهاية الفيلم سيارتها إلى منزل والدها، بندقيتها إلى جوارها وتحمل معها قنبلة يدوية، وتجدّد عهدها على نفسها بأن تحمي أخواتها، ليُترك الجمهور مع سؤال كبير حول مصير هالة ومآلات حياتها القادمة، الأمر الذي يفتح الباب لمتابعة حياتها في فيلم تالٍ. ربما في زمنٍ آخر تجد ما تسعى وراءه.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها