لا نَصّ خارج طرابلس

لقد كتبت طرابلس نصّاً جديداً. بالمركب الغاصّ بركّابه، كتبته، بالجثث المُنتشَلة والغارقة. بالمفقودين كتبته، وأيضاً بمَن كُتبت لهم حياة شقية جديدة. طرابلس كاتبة. منذ عقود تؤلّف. منذ سنوات ثلاث، على الأقل، تخطّ سطورها بالمياه المالحة والأجساد اليائسة.

المؤلف يموت لدى اكتمال النص، ويولد القارئ. والمأساة هنا أن النص لم يكتمل، والمدينة عالقة في احتضارها، والقارئ وِلادته متعسرة. في 38 قارباً منذ العام 2020، ركب الخطر نحو 1500 شخص. مات مَن مات، وعاد مَن عاد، ونفذ مَن نفَذ إلى جنّة أو جحيم. والقارب الأخير الذي قيل أنه حمل أكثر من 80 راكباً، عشرات منهم قضوا نحبهم، وما زال العشرات مفقودين، هذا القارب هو الفصل الجديد الذي يُقال فيه ما نعرفه جميعاً ويلوي أذرعنا وأعناقنا، يقتلنا ويحيينا كل يوم. لكن، هكذا هو لبنان، يعاود تأكيد المؤكد بالحِبر الأغلى، بأرواح أبنائه...

هل كنا في حاجة إلى كل هؤلاء القتلى لنقول، أو يقول مسؤولو المنظمات الدولية، إن اللبنانيين تعوزهم المساعدات والدعم المعيشي؟ أن شبكات تهريب البشر والإتجار بهم، يجب أن تُكافح؟ أن الصِّدام بين طرابلس والجيش رعب جديد، ستدفع ثمنه المدينة وأبناؤها قبل أيّ كان؟

المدينة التي جسمها لبّيس، لبّيس التطرف و"المحاوِر" والإرهاب، اللصاقات الجاهزة التي لطالما انتُزعت من سياقاتها. أو بالأحرى، تعمّدت الحلول الأمنية سلخها من مُحدّدات الفقر والضّمور، من دون أن يُسمَح لخطط التنمية أن تتخطى الأوراق التي تُطبَع عليها والخطابات التي ترنّ بها...

"لا شيء خارج النص"؟ خطأ. بل لا نصّ خارجياً. لا بناء آخر مستقلاً، من كلمات أو بشر أو أطلال، يسلط ضوءاً على نَصّ طرابلس المُشعّ من داخله. ولغة طرابلس، أيضاً، نظام مفتوح. المركب الغارق، وخفر السواحل، الجيش، والأزمة والموت والحياة، الأطفال الضحايا، والنساء والرجال الممتلئة رئاتهم بالموج والدموع. علينا أن نفهم تاريخية هذا الذي نتهجأه في الصحف والتلفزيونات والميناء التعِس.

لكن هل كان لا بد من الجثث والمأساة لنعرف ما نعرفه عن أزمة الهجرة اللبنانية، الشرعية، وغير الشرعية؟ لنتأكد من أن العسكر، مثل الطرابلسيين الغرقى، مظاليم ومحرومون ومكسورون في عيشهم وكرامتهم؟ لنتلمّس اهتراء كل شيء، بما في ذلك الكفاءات والتحقيقات التي يجريها عسكر لعسكر، والقضاء ذاوٍ في الزاوية؟ هل كان لزاماً على المعنى أن ينجلي بهذا الثمن؟ معنى المؤسسات اللبنانية المنهارة، الذي يُهدَّد به شعب بأكمله حتى يفهم بأنه، إن لم يصطف خلف الجيش، تحت أي طائلة وكل طائلة، فهو يسلّم رقبته للمليشيات وقوى الأمر الواقع؟ ليدرك المُدرَك من مهازل الانتخابات، وأن الجيش "خط أحمر"؟ ليتذوّق أزمة المهاجرين القسريين بنكهتها اللبنانية، الحرقة الأقسى والعَملَقة الأعظم في تاريخ البلاد؟

أزمة قوارب الهجرة عالمية. لكنها، في كل مرسى وميناء، حكاية خاصة، نظام سردي مفتوح على احتمالات بعدد النسمات العائمة والسائرة... والنسمات تعداد بشري، يقول عِلم الإحصاء. وفي عرض الأزرق الكبير، المراكب مَلحَمة والنسمات أنفاس، ونهاية الأوديسة لا تثبُت على تكهّن.

هل يجب أن نُطعِم مواطنينا للبحر كي يكتسب يخت نجيب ميقاتي المركون في نيس-فرنسا دلالته الأكثر توحشاً؟ طرابلس مُنجِبة أثرى أثرياء المنطقة، والعالم، هي نفسها ولّادة البؤس البشري بالأكوام. هكذا توصف الجثث، الحيّة والميتة: أكوام.

هل كنا قد نسينا انفجار مرفأ بيروت، وانفجار التليل في عكار، لنضطر إلى تذكّرهما في طرابلس، مجدداً؟ هل كان ممكناً تفادي هذا النص الطرابلسي الجديد؟

الإجابات كلها في المكتوب المقروء. موجودة ومكتملة وبائنة كشمس الظهيرة. لا تنتظر تفتيشنا عنها أو تأويلاتنا لها. الإجابات تسبقنا، تتفوق علينا، نحن الذين لم نعثر بعد على الأسئلة.