الثلاثاء 2022/04/26

آخر تحديث: 12:27 (بيروت)

منظّر "النشوء والارتقاء".. شبلي شميّل شاعراً

الثلاثاء 2022/04/26
منظّر "النشوء والارتقاء".. شبلي شميّل شاعراً
الاستاذ الفيلسوف
increase حجم الخط decrease
في مفتتح كتاب "ديوان شبلي شميّل"(*)، يهدي المؤلف والكاتب المسرحي فارس يواكيم، مؤلفه، الى بلدة كفرشيما، "منجبة المبدعين في الآداب والفنون"، ويعدّد منهم الشيخ ناصيف اليازجي وابراهيم وخليل ووردة اليازجي، وسليم وبشارة تقلا، وشبلي وأمين ورشيد الشميل، والياس فرحات، وجورج رجّي وعصام رجّي، وفيلمون وهبي، وملحم بركات، وماجدة الرومي... وهؤلاء، وهم من بلدة واحدة، ساهموا في إرساء الثقافة اللبنانية، الفنية والصحافية والأدبية، وإلى حد كبير ساهم بعضهم في إرساء "النهضة المصرية"، وتحديداً الصحافية والثقافية، وشبلي شميّل، كان واحداً منهم بامتياز...

الطبيب والأديب والعلماني "الإشتراكي" والأستاذ الفيلسوف، كما لقبه أقرانه، مولود في بلدة كفرشيما العام 1850، وهو أصغر أخوته الستة، خليل وملحم وأمين وبشارة وأسعد. خليل هو والد الصحافي رشيد شميّل مؤسس جريدة "البصير" في الاسكندرية، أمين هو رجل الأعمال الناجح، والحقوقي، ومؤلف كتاب "المبتكر الأدبي الفلسفي" وناشر مجلة الحقوق القضائية. ملحم كان أستاذاً في مدرسة الروم الكبرى في منطقة سوق الغرب، عند تخوم مدينة عاليه الجبلية، وله مباحث فلسفية وطبيعية. أراد الوالد ابراهيم أن يكون ابنه شبلي ناجحاً مثل إخوته، فأرسله إلى مدرسة عينطورة اليسوعية و"أمّ المدارس"، وفيها تلقن العلم في مرحلتين الابتدائية والثانوية، ثم التحق بالكلية السورية الإنجيلية (الأميركية لاحقاً) في بيروت 1867 ليدرس الطب. وكان الأديب يعقوب صروف، من زملاء الدراسة (والهجرة لاحقاً)، يسبقه بصف واحد، وقد وصف شبلي شميّل الطالب بقوله إنه "شاب في نحو السابعة عشرة، قصير القامة، أسمر اللون، سريع الخاطر، تلوح عليه مخايل النجابة والذكاء، مرتدٍ الثياب الافرنجية وكان لبسها نادراً بين الوطنيين في ذلك العهد".

نهضة مصر
تخرّج شبلي شميل العام 1871، وكانت رسالته في موضوع "اختلاف الانسان والحيوان بالنظر إلى الإقليم والغذاء والتربية"... أرسله والده إلى فرنسا للدراسة الجامعية، فأقام سنتين في باريس يعمق في دراساته في الطب. وفي فرنسا أتيحت له الفرصة ليطلع على آثار مختلف الاتجاهات الفلسفية والعلمية التي طبعت الحياة الثقافية والسياسية في أوروبا آنذاك. فتأثر بفلسفة فولتير ومونتيسكو وباخ، ومواقفهم النقدية من الكتاب المقدس وتعاليمه، والدين ووجود الإنسان، والأسطورة، مثلما تأثر بأنصار الاتجاه المادي من أتباع أوغست كونت، خصوصاً آرائهم حول نشأة الأديان وتطورها فضلاً عن نظرية التطور عند داروين. وأعجب بتعاليم سان سيمون عن الإخاء والمساواة ودعوته إلى النظام الاشتراكي. وبعدها انتقل إلى اسطنبول واجتاز الامتحان في الطب بنجاح. ثم عاد إلى لبنان، لكن إقامته فيه لم تطُل، إذ توجّه العام 1875 إلى مصر، في مرحلة كان أبرز الكتّاب والصحافيين اللبنانيين والشوام يسافرون إلى القاهرة والاسكندرية ويشاركون في نهضة مصر. أقام شميّل في مدينة طنطا يمارس الطب ويهيئ نفسه لنشر أفكاره المادية التي تكونت قناعاتها لديه منذ الدراسة في الكلية السورية الإنجيلية في بيروت، وبعد خمس سنوات انتقل إلى القاهرة التي أقام فيها حتى آخر حياته، باستثناء هجرة اضطرارية إلى لبنان مع قوافل أبناء الشام بعد ثورة أحمد عرابي سنة 1882، وبعد عام عاد إلى القاهرة.

كان يمارس الطب ويدافع عن آرائه المثيرة للجدل، واستطاع سنة 1885 افتتاح مركز طبي مجاني رفقة عدد من أصحابه وأصدر مع الدكتور خليل سعادة وبشارة زلزل مجلة تعنى بالثقافة الطبية اختاروا لها عنوان "الشفاء". اجتمع بجمال الدين الأفغاني وحاوره. وأسس مع حفني ناصف جمعية "الاعتدال" التي اعتنت بنشر الآداب العصرية. وكتب المقالات الأدبية ضمّنها نظرته إلى أساليب الكتابة ورأيه في الشعر، والاجتماعية التي تناول فيها مسألة الاشتراكية. وكان شميّل شاعراً، ومترجما متمكناً من اللغتين العربية والفرنسية، ومن إبداعه في هذا المجال ترجمة مسرحية "ايفجيني" للأديب الفرنسي راسين، وقد نقلها من الشعر الفرنسي الموزون والمقفى إلى الشعر العربي، العمودي.

والصفة التي طغت على سواها في أذهان الناس، هي تلك المرتبطة بدفاع شبلي شميّل عن نظرية داروين، وكان معجباً بها وقرر أن ينقلها إلى القراء العرب، عبر مقالات تشرح هذا المذهب العلمي المادي، خصوصاً من خلال ترجمته لكتاب الألماني بوخنر "ست محاضرات في شرح نظرية داروين"، وقد نشره العام 1884 وأحدث ضجة، وانهمرت الردود الغاضبة عليه"، وكان العامل الديني هو الدافع الرئيسي، اعتقاداً من اصحاب الردود أن الداروينية فلسفة إلحادية.

"أغرب من آراء شميل"... كادت تلك العبارة أن تذهب مثلًا بين الناس، بعدما أشاع النقاد عن شميّل غرابة أفكاره الدينية والاجتماعية، واتهموه بالإلحاد والخروج عن العُرف والدين. ورغم ضراوة الانتقادات وكثافتها، استمر شميّل في تأليف فصولها والدفاع عنها. ويعود ذلك الى عاملين بحسب تفسير الباحث جان داية، أولهما اعتقاده بأن "الحقيقة يجب أن تقال لا أن تُعلم"، والثاني أن بعض الذين ردّوا عليه لم يقرأوا ما نشره عن فلسفة النشوء والارتقاء. وثمة عامل ثالث لا يجوز إغفاله، وهو موافقة قلّة من المثقفين والكتاب لشميّل وآرائه العمرانية، ومنها داروينيته. من هؤلاء مدير الكلية الشرقية الأسبق، الأب بولس الكفوري، والأديب أمين الريحاني الذي اقتدى بشميّل ودشّن حياته الادبية بكتاب "المحالفة الثلاثية" الذي أغضب رجال الدين المسيحي، والكاتب المصري سلامة موسى.

ومن المرجح أن الدكتور إدوين لويس حضّ طلابه في الجامعة الأميركية على قراءة داروين بتحريض من شميّل الذي كان في غاية الفرح لتمرد هذا المبشر الاكاديمي (ادوين لويس) على منع المؤسسة الدينية التي ينتمي اليها قراءة داروين. ولم يفاجأ شميّل حين طردتْ الإدارة لويس وبعض طلاب الطب والصيدلة المتضامنين معه ومنهم جرجي زيدان، ناهيك بالدكتور كورنيليوس فانديك الذي "طرد" نفسه من الجامعة التي اشترك في تأسيسها، بسبب تضامنه مع زميله وطلابه.

الانتساب إلى الشعر
وشميّل متعدّد المواهب، رجل العلم، واضع مصطلح "النشوء والارتقاء"، كان بين العلمانية والإشتراكية. أما صورة الشاعر التي يسعى فارس يواكيم إلى الإضاءة عليها، فقد بقيت في الظلّ و"لم تنل نصيبها من الأضواء الكافية" ومنشورة في مجلات المقتطف والأديب، ولم يكن شميل يتحمس لفكرة الانتساب إلى الشعراء، بل يتجنبها. ولم ينشر قصائده في ديوان، ولم يجمع أحد بعد رحيله تلك القصائد المتنوعة والموزعة على صحف ومجلات زمانه. بعضها قصائد كاملة، وبعضها مقطّعات أو قصائد قصيرة، وبعضها أبياتٌ كان ينظمها ويضمنها مقالاته العلمية ليشرح بالشعر فكرة أو يدعها، أو ليدوّن خاطرة. وقد استخدم (مثلاً) تعبير "الشوق" الذي نحته العرب قديماً للتعبير عن "الجاذبية". وقال: "مرجع الفضل في اكتشاف نواميس الجاذبيّة وتطبيقها على العلوم الرياضية إنما هو لنيوتن وحده. على أن نيوتن وقف في مذهبه عند هذا الحدّ ولم يُشِر إلى العلاقة بين جاذبيّته وسائر قوى الطبيعة ليردّ هذه إليها أو يجعل تلك منها، حتى انتشر مذهب النشوء والتحوُّل فأتمَّ الرابط وصارت هذه النتيجة لازمة". وجاءت صياغته للفكرة بالأبيات: "لولا الهوى وبديع الشوق يهديهِ/ ما صحّ في الكون معنىً من معانيهِ (...) ولا استقامت حياةٌ في الوجود ولا/ تمّ الوجودُ ولا تمّت مبانيه/ شوقٌ تكامل من أدنى الوجود إلى/ أعلى فأعلى إلى أعلى أعاليه/ حتّى تناهى وقلب المرء تُلهبه/ نارٌ من الحبّ يُذكيها وتذكيه/ نارٌ من الشوق في قلب المشوق ثوَتْ/ تذكو فيُصلى، يغذّيها فتفنيه/ ما زال والنار تذكو في جوانبه/ حتى تفانى بما قد كان يُحييه". عرض في قصيدته التشابه بين المجتمع البشري والجسم الإنساني، "فالرابط بين الكريّات الحيّة التي يتألّف الجسمُ الحيّ منها ليس إلّا الميل البسيط المغروس في كلّ شيء لحفظ ذاته أوّلاً؛ لأن كلّ شيء في الأصل يدور حول مركز نفسه بالشوق الحاصل فيه إليه، وذلك هو محبّة الذات المُنفردة، ثم يتحوَّل هذا الميل في الكريّات إلى ميلٍ مركَّب لحفظ ذاتها بحفظ ذاتٍ سواها؛ لأن اجتماعها بعضها مع بعض اجتماعاً بسيطاً في أول الأمر لا بد من أن يؤثِّر في طبيعتها تأثيراً مهمّاً، بحيث تصبح حياة بعضها مُتوقّفة ضرورةً على حياة البعض الآخر".

حداثية الشعر

ومنظّر فلسفة "النشوء الارتقاء" كان لديه "رؤية حداثية للشعر" مغايرة للسائد ربما، وفي الوقائع لا تبتعد عنه كثيراً، فشميّل يعتبر أن "الشعر لم يكن في كل العصور كما صار في بعض الأزمنة صناعة الذي لا صناعة لهم غير التزلف للحكام، واستنداء اكف أصحاب المال... ولا صناعة المتباكين لاستعطاف الحسان وهن يقابلنهم بالاعراض.. ولا صناعة من أذهلهم الترف فظنوا الحياة خبالاً او خيالاً"... أما في الشكل فكان شميّل يقدّم المعنى على الشكل مع تقديره التام لجمال الأسلوب... وكتب "أنت تستطيع أن تترجم شعر هوغو وموسيه ورستان وتستفيد من ذلك غرضاً اجتماعياً وبحثاً أدبياً وأخلاقياً وعبراً تاريخية. لكنك لا تستطيع أن تترجم شعر المتنبي وأبي تمام والبحتري ولا أن تستخلص منه شيئاً من ذلك غير بعض الحكم والأمثال مشتتة في تلك الأدغال، لا رابط ينسقها"... وسردَ رأيه في مطوَّلةٍ عنوانُها "التحوُّل في الشعر"، جاء فيها: "ليس لي في الشعر مطلَبْ/، إنّما لي فيه مذهبْ/ تارةً أرغب في النظـ/مِ وطوراً عنه أرغبْ/ لستُ بالشاعر لكنْ/ علّ حُكمي فيه أصوب". وأعرب عن أنه لا يحبّذ الشعر الذي على نهج "حادي العيس كما في/ عهد قيس والمهلّبْ/ نتغنّى بسليمى/ وعلى الأطلال ننحب/ نتباهى بعِظامٍ/ ليس فيها اليوم مسحَبْ (...) بئس ما الشعر غدا/ أعذَبُه ما كان أكْذَبْ".

وانفردت الأديبة مي زيادة في الكلام عن شميّل الشاعر في مقال نشرته في "مجلة سركيس" في حزيران/ يونيو 1913، قالت: "طبيبنا شاعر رغم إرادته. لقد وجدت في بعض قصائده شيئاً غير البحر والسجع والرويّ. وجدت تعبيرات جميلة وخيالات فخمة تتهاوى بين اجرام المادة"... و"يندر جداً أن تسمع عواطفه متلكمة لأن شعره كنثره ينحدر من دماغه". وهو، على ما يذكر فارس يواكيم، في شعره، يتفوق المضمون عل الشكل، ويطغى الفكر، لكنه لا يطمس الأسلوب الذي يشي ببلاغة الكاتب، وبتملكه من اللغة العربية. بل إنه يستدعي مفرداته من قاموسه العلمي، يلبسها رداء الأدب"... وأيّد عباس العقاد، مي زيادة، في ما ذهبت إليه. قال: قرأت ما روته الآنسة مي من نظم شميل شعراً... "فعلمت أنه قد ظلم شاعريته كما ظلم سائر الشعراء".

وكان شميّل معجباً بأبي العلاء المعرّي ولم يكن ذلك مستَغرَباً. وقد اعتبره "فيلسوف الشعراء قاطبة، وأكثر شعراء العرب عِلماً وأرجحهم عقلاً، وهو الوحيد بينهم الذي مال عقله عن سِفساف القول إلى الحقائق ومحاربة الضلال". وقد صاغ معارضة شعرية لقصيدة أبي العلاء الشهيرة "هذا جناه أبي عليّ" بأبيات ثلاثة: "فلو ارتضيتُ بما جنا/هُ أبي عليَّ وما انفردْ/ لم أشْكُ إلّا دهرَنا/ وبذاك تعزيةُ الولدْ/ لكنْ جنيتُ أنا عليَّ/ وما جنيتُ على أحد".

وشعر شميّل كثيراً ما يأتي في مناسبات وعلى مفاصل، فنجده مرتبطاً بمواضيع وأحداث تساعد على فهم المرحلة. فقد كتب أحمد شوقي قصيدة "للعظة والتاريخ" ونشرها عام 1913 حزيناً على خسارة تركيا معظم الأراضي التي كانت تحت سيطرتها في البلقان، فرد عليه شميل المناهض للعثمانيين بقصيدة "تهنئة مقدونيا ولسان حالها لنا... بمناسبة مرثية شوقي لها". قائلاً في مطلعها:
كلا وربِّك ما هوى الإسلامُ
لم يهوِ إلا الغاشم الظَّلَّامُ
يا أيها العرب الأُباة إلى متى
طال البلا فَلْتَنْتَخِ الأقوامُ
يا أرض سوريا الجميلة بلغي
بيروت عنّي ولتهبَّ الشامُ
ولأرز لبنانٍ تُساق تحيتي
وعليكِ يا أرض العراق سلامُ

لم يجمع فارس يواكيم قصائد شميل فحسب، بل تتبعها في المجلات والمطبوعات، وسعى إلى البحث عن المحذوف منها، وجمعها في هذا الديوان.. ومن هذيانات بعض العرب أنهم دائماً يركزون من باب الاستغراب، على قصيدة شميل "الملحد" في مدح نبي الإسلام. والنافل أن شميل رغم تنظيره العلمي والمادي، إلا أنه لم يُعادِ الدين، ولم يَمِل إلى وضعه في صدام، يقول: "فعلى الدين أن لا يقف معترضاً في سبيل العلم وأن لا يشتبك معه في خصام مضر للاثنين"، مضيفاً أن مجال الإيمان أوسع من أن يضيق بالتطور العلمي.

وأفكار شميل العلمية، لم تمنعه من أن يصادق الشيخ محمد رشيد رضا، ذلك السلفي تلميذ الإمام محمد عبده، ورغم هذا الخلاف الشاسع بين الطبيب والشيخ، ألا أن رضا أتاح لصديقه أن يكتب رأيه في القرآن والنبي ونشره له في مجلة "المنار" تحت عنوان "رأي الدكتور شميل في القرآن والنبي" في مارس 1908، أشار فيه إلى أن القرآن الكريم أسس إلى دين اجتماعي يتفق مع مصالح البشر المدنية. بعد وفاة شميل رثاه الشيخ بكلمات لم يكتبها في غيره من علماء المسلمين، كتب رشيد رضا تحت عنوان "الدكتور شبلي شميل" في عدد 18 أبريل 1917: "في اليوم الأول من هذه السنة الميلادية اغتالت المنية الطبيب النطاسي، الحكيم الاجتماعي، العالم الطبيعي، الأديب الكاتب، الناظم الناثر، الدكتور شبلي شميل، الشهير بتصانيفه ومقالاته العلمية والاجتماعية في المجلات والجرائد العربية والفرنسية".

(*) ديوان شبلي شميّل، جمعه وحقّقه وقدّم له فارس يواكيم، منشورات الفرات في بيروت.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها