السبت 2022/04/23

آخر تحديث: 13:15 (بيروت)

"قوس النصر" الصدامي... أو الأنصاب حين تنقلب معانيها

السبت 2022/04/23
increase حجم الخط decrease
لا يمر عام إلا تكون قضية التماثيل في جدل جديد، وتبيّن الوقائع والسرديات بأن تدمير التماثيل ليس إلا الوجه الآخر لحبّها، أما من وجهة نظر تاريخ الفن والدراسات البصرية، فلم يجد بعضنا مفرًا من التلذذ بمتابعة التفاصيل لطقوس تدمير التماثيل، والتي بدت أكثر من مألوفة منذ انهيار المنظومة الشيوعية في أواخر الثمانينيات وبداية التسعينيات وسقوط صدام حسين العام 2003، وصولاً إلى الربيع العربي(تحديداً سوريا)، من دون أن ننسى طالبان في أفغانستان، والحرب الأهلية اللبنانية (1975 -1990) وما حملته من أخبار حول النصب ورفعها أو تفجيرها. تصرفات تشير إلى سؤال يتربص خلف النقاش المعتاد حول شرّ أو خير التماثيل: لماذا نميل أساسًا إلى معاملة التماثيل ككائنات حية؟ وأولئك الذين ينتظرون اللحظة للانتقام من نصب، هم أنفسهم يريدون نصباً آخر...

والحال أنه قبل أسابيع، أزيل في مدينة خجوفيستي النصب التذكاري لضحايا الجيش الأحمر الذين حرروا بولندا من النازية إبان الحرب العالمية الثانية، في خطوة تتنصل بها وارسو من تاريخها. وتعليقاً على ذلك، قال كارول نافروتسكي مدير المعهد الوطني البولندي للذاكرة القومية: "لا مكان للنجوم الحمراء في الفضاء العام لأوروبا الحرة، لما يخفيه هذا الرمز من جرائم النظام الشيوعي منذ أيام الحرب". وعلاقة بولندا بالتماثيل السوفياتية تشهد نوعاً من المعمعة والحقد على الذاكرة، اذ يقترح معهد الذاكرة الوطنية في بولندا، إزالة نحو 60 تمثالاً وعلامة تذكارية تعود برأيه إلى العهد السوفياتي. وذكر نافروتسكي بأن هذه الخطوات تأتي اعتماداً على القانون حول "حظر الدعاية الشيوعية" الذي تبنته الحكومة البولندية في العام 2016، ورفضت بلدية مدينة غدانسك البولندية، تنفيذ مطلب معهد الذاكرة الوطنية بشأن إزالة دبابة "تي-34" السوفياتية التي تقف على قاعدة خاصة في ساحة زفيتشينستفا (النصر) في المدينة. وكان يوجد في العام 1997 في بولندا 561 نصباً تذكارياً للجنود السوفيات. وتدلّ معلومات الاستطلاع الذي أجراه الدبلوماسيون الروس، ابتداء من منتصف العام 2020، على أنه بقي 112 نصباً تذكارياً فقط في شكلها الأصلي وفي أماكنها الأصلية.

وأوكرانيا التي سعت، خلال الحرب الروسية عليها، إلى حماية تماثيلها الأدبية والقومية بإقامة حواحز رملية حولها، هي نفسها لجأت منذ العام 2014 إلى إزالة 2389 تمثالاً، من بينها 1320 تمثالاً للينين المساهم الأبرز في إعطاء أوكرانيا حق تقرير المصير. وظلت هذه التماثيل موجودة لحقبة طويلة في معظم مدن أوكرانيا، وهي تذكّر مَن يراها بأنه في دولة سوفياتية سابقة، وعمد مؤيدو التقارب مع أوروبا إلى إسقاطها.

قبل ذلك، وفي العام 2003، حاول الجيش الأميركي صناعة صورة للتاريخ، عبر إسقاط تمثال صدام حسين، في بغداد، بعد احتلال البلاد. وكان هناك أكثر من مئة تمثال لصدام في بغداد وحدها. فقد قامت قوات التحالف بإزالة العشرات منها، ولا تقتصر قضية التماثيل على بلدان أو أنظمة توصف بالشمولية، فقد شهد العالم العام 2020 حملات جديدة من تحطيم التماثيل انطلقت من مجموعة مدن أميركية عقب مقتل جورج فلويد، واستهدفت بشكل أساسي تماثيل شخصيات تاريخية مرتبطة بالفوقية البيضاء مثل كريستوفر كولومبوس أو زعماء الكونفدرالية الأميركية المدافعين عن العبودية، رافقتها حملات مشابهة في مدن بريطانية وفرنسية استهدفت تماثيل لرموز الماضي الاستعماري للدولتين. وأعادت تلك الأحداث إلى الواجهة النقاش القديم بين المدافعين عن القيمة الجمالية والتاريخية لتلك المعالم، وأولئك الذين يرون فيها أداةً لمنظومة تمييزية تؤكد سلطتها على الفضاء العام. أعيد النقاش حول أمكنة التماثيل ودورها... هنغاريا مثلاً، رفضت التخلّص من تماثيل الشيوعيين، بعد تعرض الناس لها، إثر انهيار الاتحاد السوفياتي، فجمعتها في حديقة أصبحتْ متحف "ميمنتو بارك"! وعندما سُئل مهندس المشروع كيف قبل بتنفيذه أجاب: "هذه حديقة عن الديكتاتورية، لكن لأنه أمكن بناؤها ووصفها والحديث عنها، فهي عن الديموقراطية، وحدها الديموقراطية تمنحنا الفرصة للتفكير بحرية عن الديكتاتورية"! والحال أن "أولئك الذين لا يستطيعون تذكّر الماضي، محكوم عليهم بتكراره" يقول الكاتب الاسباني - الأميركي جورج سانتيانا.

وبإزاء ما تقدّم وقيل، أعاد الباحث العراقي، كنعان مكيّة، إصدار كتابه "النصب التذكارية، الفن، الابتذال والمسؤولية في العراق" الذي أكمل العمل فيه العام 1990، وصدرت ترجمته العربية عن دار الساقي للمرة الأولى باسمه المستعار آنذاك(سمير الخليل) العام 1991. اعتمد في هذه الطبعة على ترجمة نديم الزعني، لكن مع تغييرات وإضافات كثيرة، حتى أصبح كتاباً جديداً يحمل عنواناً جديداً "قوس النصر، الفن الشمولي في عراق صدام"(منشورات الجمل) أقرب إلى الكتاب الأصل الذي كتبه بالانكليزية كما يقول، إذ لم يتناول بالتحليل كل النصب الموجودة في بغداد، كما أنه لم يكن في الدرجة الأولى كتاباً عن الذاكرة. العمود الفقري للنص كان وما زال، نصباً واحداً، وهو ذلك الذي صممه "الفنان" صدام حسين، وأعطاه اسم "قوس النصر".

والنصب قائم إلى اليوم حاملاً الاسم نفسه، وفي أكبر ساحات بغداد التي سُميت "ساحة الاحتفالات الكبرى". وفي هاتين الحقيقتين اللتين استمرتا من دون انقطاع خلال حروب خارجية وأهلية، مدة تزيد على ثلاثين عاماً، تكمن مفارقات غريبة جداً مستمرة إلى الآن، ويسأل مكية: مَن كان المنتصر حقاً في الحرب العراقية الإيرانية التي دامت ثمانية أعوام، وراح ضحيتها ما لا يقلّ عن مليون إنسان عراقي وإيراني؟ هل انتصر أحد؟ بماذا "نحتفل" وقد أصبح توغّل الحرس الثوري الإيراني في الشأن العراقي بعد العام 2003 أمراً مسلّماً به، وهو ذاك الحرس نفسه الذي نشأ وترعرع خلال تلك الحرب المشؤومة؟ في رأي مكية أسوأ ما في كلمتي "النصر" و"الاحتفال" بهذا النصر، كان ومال زال يكمن في أن الكلمتين تخفيان أعداد القتلى، إنهما بذلك تخفيان قبح تلك الحرب التي تُوّجت عراقياً بتشييد "قوس النصر"، ومعنى كلمة "شهادة" في هذا الظرف، يأخذها إلى الابتذال والكيتش...


ومكيّة الذي تعامل مع قوس النصر، في كتابه، بوصفه مثالاً بارزاً على الفن الهابط والمبتذل، وقارن صدّام بهتلر من وجهة نظر اهتمامهما الشخصي بالفن وبـ"أقواس النصر"، لم يُشر إلى "الفن الشمولي" كظاهرة عالمية، مع التذكير بأن المؤرخ الروسي لتاريخ الفن الحديث، إيغور غولومستوك، أضاف العراق إلى لائحة الدول التي أنتجت الفن الشمولي، إلى جانب الاتحاد السوفياتي الشيوعي، وإيطاليا الفاشية والصين الشعبية، واختار نصب صدام حسين نموذجاً للدراسة. وهو في بحثه، يجمع التشابهات بين أنواع الفن الشمولي للثقافات المذكورة، تحت مفهوم الواقعية الشاملة المطلوبة من الفنان، ما ينتج نمطاً فنياً خاصاً ذا جذور تطوّرت بشكل أكبر في فن الواقعية الاشتراكية وتجربة ثقافة الاتحاد السوفياتي بعد العام 1932. غأصدر ستالين آنذاك بياناً ينص على أن ذلك الفن هو الفن الوحيد المقبول في البلاد من الآن فصاعداً، لأنه يتماشى مع أهداف الحزب الشيوعي السوفياتي. وتولع الماركسيون السوفيات بترداد عبارة "الأدباء مهندسو الأرواح البشرية"، وكان المنظّر الستاليني جدانوف يريد تطبيق المقولة على الفنانين الذي لجأوا إلى التحايل للهروب من عسف أفكاره، ودعواته الى الواقعية الشاملة التي من أهم سماتها، الحاجة المشتركة لدى فناني هذه المدرسة، إلى أن يصنعوا مضموناً أسطورياً لصور الحزب والقائد وإنجازاتهما. لم يكن ممكناً لفناني الاتحادي السوفياتي مثلاً، أن يصوروا ستالين كما في الواقع، قصير القامة، مجدور الوجه، أوقس الساقين.


الفن، ككتابة التاريخ، يخضع للأكاذيب المستمرة التي يرتئيها القائد أو الحزب. وتتجلى الأكاذيب هذه في الانتصارات والاحتفالات. وفي ما يخص العراق، وبحسب هذا المنطق، فإن حرب الخليج الأولى وما تلاها من عقوبات دمرت نسيج المجتمع العراقي، لم تكن كارثة وخسارة فادحة للشعب العراقي، بل هي "أمّ المعارك" التي انتصر فيها وصمد في وجه "العدوان الامبريالي الغادر"، وصار أمراً يفرض على شريحة من الفنانين، ما خلق في نهاية المطاف تشبهات فنية متعددة في الفن الشمولي عبر مختلف الثقافات، الأمر الذي سماه غولومستوك "عالمية آليات الثقافة الشمولية".

ولم يكن استعراض مضمون أسطوري لصورة القائد، بطريقة أحسن من محور اهتمام هذا الكتاب، قوس النصر، لا سيما في قرار صدّام أن يجعل نسخة مصبوبة من ذراعيه تُستخدم هيكلاً للقوس، مع إضافة 2500 خوذة إيرانية مأخوذة من ساحات القتال، ومجمّدة في القاعدة حول ذراعي الرئيس، لترمز الى رؤوس الإيرانيين الذي يزعم أنهم هزموا في الحرب. وقوس النصر ليس نصباً لذكرى موتى تلك الحرب، ككثير من النصب في الغرب، وهي تعدّد قتلى هذه الحرب أو تلك بأسمائهم أحياناً، فأسماء القتلى غائبة تماماً عن النصب، وهو قائم على تمجيد النظام الذي أرسل هذا الكم الهائل من المواطنين إلى ساحات القتال "مجردين من إنسانيتهم".

(نصب الحرية - جواد سليم)

تناول الكتاب قصة نصب النصر ذي السيفين العملاقين، الذي أوكل عمله إلى الفنان خالد الرحال، لكنه توفي فأكمل العمل الفنان محمد غني، وهو نصب غير متوازن لا في فنه ولا في حجمه، ومصممه الأول هو صدام حسين، طبع رسمه البدائي على بطاقة دعوة افتتاح النصب. وتبدو أوزان مكونات النصب هائلة، فالساعدان والقبضتان حاملتا السيفين صُبّتا من مادة البرونز بوزن عشرين طناً لكل منهما، وثُبتتا على هيكل من الحديد بوزن عشرين طناً أيضاً، والسيفان صنعا من مادة الحديد غير القابلة للصدأ، صُهرت من سلاح القتلى العراقيين، بوزن أربعة وعشرين طناً لكل منهما، أما قبضتا السيفين فصبتا من مادة البرونز بوزن أربعة أطنان لكل منهما. وشبكة الخُوذ صبت من ألفين وخمسمئة خوذة إيرانية. إن نصباً بهذه المواصفات والأحجام العملاقة يشير إلى ضآلة الإنسان مقابل عظمة القائد. 

وكنعان مكية على يقين "أن فكرة قوس النصر ترجع الى صدام حسين شخصياً"، إنه هو الذي رسم الفكرة الأصل العام 1986، وتدخل وأقر كل تفصيلاتها وتغييراتها، وبذلك يبدو أن هذا الرئيس، وللمرة الأولى في تاريخ العراق الحديث، قد عدّ نفسه "فناناً"، ومكية في كتابه يأخذ على محمل الجد هذا الاعتبار، إلى الحد الذي قارن صدام بآندي وارهول (1928 – 1987). يقول مكيّة، أن صدام قد لا يكون فناناً محترفاً بالمعنى المألوف لهذه الكلمة، لكنه "تصرّف حسب ظني وكأنه فنان"، ويأخذ النص على محمل الجد فكرة أن قوس النصر هو عمل فني من وجهة نظر المعايير التي تستخدم لتقييم أعمال فنانين كبار من مدرسة البوب آرت، من أمثال آندي وارهول، وأوجه المقاربة بين الفنان الأميركي التي زينت لوحاته أرقى متاحف نيويورك وأشهر صالاتها الفنية، وصدام حسين، هو أنه بقدر ما يتعرض الأميركيون، لألوان ثقافة الدعاية والاستهلاك وتحيطهم الإعلانات من كل جانب في حياتهم اليومية، فإن العراقيين حاصرتهم بالمثل رموز سطوة القائد المريعة، حيث صُور وملصقات صدام في كل المتاجر والمطاعم والمباني... والحضور اليومي في كل وسائل الإعلام. فيَوم طبع وارهول علبة حساء "كامبل" بتقنية الشاشة الحريرية، كان ذلك بمثابة إعلان عن نظرة معينة إلى الفن والثقافة الشعبية، وفكرة "علبة الحساء" تقول: إنكم لم تروا العلبة على حقيقتها أبداً... والأمر نفسه مع الحضور الإعلامي والإعلاني لصدام الذي من شأنه خلق ثقافة تؤثر لا شعورياً، أو من وراء الستار.

لكن قوس النصر شديد القبح، وحجة مكية أن هذا القبح والجانب الفني متدخلان فيه، ويصعب الفصل بينهما، و"وهذا ما يجعل العمل مثيراً للاهتمام". ومدى قبح قوس النصر (لا الجانب الفني فيه)، هو الذي يتطلب منا في الدرجة الأولى، أن نستثني هذا العمل من كل ما صمم ونفذ في العراق من نصب أخرى خلال السبعينيات والثمانينيات، استناداً إلى فحشه الأخلاقي المفرط وغياب أي مشاعر انسانية إيجابية تقترن غالباً بالأعمال الفنية..

 

يطرق مكية تاريخ الحركة الفنية العراقية، التي بدأت بعيدة من السياسة، وتمتلك قرارها. فرغم الرغبة في إضافة صورة الزعيم عبد الكريم قاسم إلى نصب الحرية، استطاع الفنان جواد سليم الرفض، ليكون نصب الحرية خالياً من الإشارات الشخصية، التي لو تحققت ما سَلِم من التدمير، وعكس النصب مسيرة حضارة وعطاء أرض. وطوال الفترة الملكية، لم تحل في بغداد سوى نصب تذكارية ثلاثة، هي: نصب الملك فيصل بعد وفاته يمتطي حصاناً عربياً، وتمثال مود عند بوابة السفارة البريطانية، وتمثال عبد المحسن السعدون، والأخير لم يظهر راكباً الحصان مثل فيصل ومود، وربما كان هذا سبباً في عدم تحطيمه، لأنه لم يظهر فارساً مواجهاً إرادة الثائرين!

يقول كنعان مكيّة إن الهدف الأسمى لأي نصب هو أن يرمز الى مدينته بشكل ناجح وذكي وبعيد المدى. استناداً إلى ذلك يعترف مكيّة، كما يحاجج النص، بأن قوس النصر كان الرمز المثالي لبغداد صدّام. ويسأل: ألم يكن هذا أيضاً ما يصبو إليه جواد سليم من خلال نصب الحرية؟ أن يرمز الى قصة بغداد وثورة الشعب العراقي في 14 تموز/يوليو، ومسيرة ذلك الشعب نحو الرفاهية والحرية في الستينيات؟
 


مدينة صدام ليست مدينة جواد سليم، كما أن مدينة أبي جعفر المنصور المدورة ليست بغداد اليوم، حالها حال المدن العريقة في التاريخ، هي في نهاية المطاف مدن متعددة تختلف الواحدة منها عن الأخرى تماماً، ويجمعها الاسم فحسب، بغداد. صدام كان يعرف مدينته جيداً، مدينة حزب البعث العربي الاشتراكي.

بعد كل ما حدث في العراق "الجديد" منذ العام 2003، وبدأ مع إسقاط نصب صدام في ساحة الفردوس بـ"ونش" أميركي، فإن المشهد الذي كان صورة عالمية ليس موضع اهتمام من مكيّة، إذ يركز على معنى "مواجهة" نصب قوس النصر اليوم؟ يقول مكية: "مواجهة النصب" عملية استذكار تقابلها عملية نسيان. لكن النسيان لا يحدث بتدمير رموز أنظمة الماضي، لأننا في اللحظة التي نختار كشعب أن يتحول هذا النصب إلى رمز لاستذكار قسوة النظام السابق، ينقلب معناه الأصل الذي أراده صدام إلى عكسه تماماً. لن يعود رمزاً يمجّد الاستبداد، بل شاهداً على ذلك الاستبداد نفسه.

وقد يسقط نظام حكم ليحل مكانه نظام حكم جديد، لكن القبح والابتذال المقترن بالأول يتفاقمان في الثاني. هذا هو الدرس الحقيقي لما شيد في ساحات النجف والكوفة، وما يماثلها في سائر مدن العراق. لا شك في أن العلاقة وثيقة بين قبح قوس النصر، الذي ترجع فكرته إلى خطاب ألقاه صدام حسين في 22 أبريل (نيسان) 1985، وبين سيوف النجف والكوفة المبتكرة في نهاية العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين.

يرى كنعان مكيّة أن يُحتفظ بنصب السيفين بعد سقوط النظام، فهو وإن كانت غايته تمجيد العنف والقوة، إلا أنه سيولد عند العراقيين إنطباعاً بأنهم سيواجهون أنفسهم ويراجعون بجدية ما حل بهم من كوارث رمزها هذا النصب. يقول مكية: "هذا النصب لا بد من مواجهته يوماً وليس إزالته، فنير الاستعمار قد زال، وكذلك عرش الملك المفرط في التسامح مع أبناء الأقليات، فالعراقيون الآن لا يواجهون غير أنفسهم. والمسؤولية عنه، سواء كانت فردية أم جماعية، هي قضية تثير كل إشكالات ما حدث في العراق تحت حكم البعث".

وكانت الحكومة العراقية العام 2011، قررت الإبقاء على قوس النصر. وقال علي الموسوي، المتحدث باسم رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي، إن الأخير قرر الحفاظ على التمثال، وأوضح: "لا نريد أن نكون مثل أفغانستان عندما أزال نظام طالبان مثل هذه النصب"، في إشارة إلى قيام طالبان بتدمير تماثيل بوذا في باميان، الأمر الذي أثار حينها سخطاً عالمياً. وأضاف: "نحن أيضاً لسنا مثل الألمان الذين أزالوا جدار برلين"، وتابع: "نحن شعب متحضر، وهذا النصب جزء من ذاكرة هذا البلد". 
 
وبدا كلام الناطق بلسان الحكومة حول تبرير بقاء النصب، فيه شيء من السذاجة... خصوصاً إذا ما راجع المرء ما فعلته حكومة المالكي بالتماثيل والأنصاب.

وكان رد أحد النحاتين العراقيين على بيان الحكومة: "لقد شنت حكومتا إبراهيم الجعفري ونوري المالكي حرباً غير حضارية على النصب الفنية ببغداد، فهدمت نصب المسيرة للنحات الرحال الذي كان قائماً بمنطقة علاوي الحلة، بجانب الكرخ من بغداد، لأسباب سياسية، ونصب باني بغداد، أبي جعفر المنصور لأسباب طائفية، ونصب اللقاء، في ساحة اللقاء بحي المنصور، الذي يرمز للمرأة والرجل، للفنان علاء بشير، وهو نصب اجتماعي عاطفي". 

وأضاف الرد: "الحكومة العراقية لم تستجب لنداءات المثقفين العراقيين بضرورة الحفاظ على النصب الفنية، إذ إن نصب قوس النصر ذاته كان مهدداً بالهدم لولا إصرار مؤسسة الذاكرة العراقية التي يترأسها الدكتور كنعان مكية باعتبار أن مؤسسته مسؤولة عن بقاء هذا النصب"، ومتسائلاً عن مصير عشرات النصب والتماثيل لصدام حسين التي تم رفعها من مناطق مختلفة من العراق.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها