القلب والعقل
هناك قصتان/خطّان متشابكان في الفيلم: عملية الحداد والاستعدادات للمسرحية الجديدة. ونتيجة لذلك، يعاود الفيلم، مراراً وتكراراً، مصادر حياة وفنّ كافوكو، مثلما يذهب إلى البحر حيث يندمج الحاضر والماضي مع المستقبل. تشابك الجمل من مسرحية تشيخوف وموضوعات حياة يوسوكي يضفي على عمل هاماغوتشي الهادئ تركيزاً شعرياً وعاطفياً رائعاً. يمكن للمرء رؤية كيف تتحوَّل عناقيد الكلمات إلى خمر ثقيل للحياة عبر المرشّح المأساوي للقدر وعملية النضج اللازمة لمعالجة مشاعر الحزن والغيرة والذنب. حتى أن بعض المقاطع يُتلفَّظ بها مرتين، وفي السياقات الجديدة ذات الصلة تُظهر كيف تُغيّر التجربة الشخصية للممثل/الممثلة العلاقة بالنصوص وبالتالي تأثيرها. يتضح هذا بشكل خاص في مونولوغ سونيا الأخير ومقطع فانيا حول الإخلاص الزوجي.
كذلك تلعب السيارة دوراً رئيساً، وهي حمراء من طراز ""Saab 900 Turbo. هناك الكثير من القيادة في هذا الفيلم، عبر طرقات اليابان التي ليست جذابة دائماً، حتى لو لم يكن فيلم طريق كلاسيكي. كافوكو يحبّ سيارته كثيراً، وفي رحلاته الطويلة يستمع إلى نصوص مسرحية سجّلتها زوجته بصوتها. وبهذه الطريقة "يذاكر" المسرحيات ويتعرّف عليها بشكل أفضل، والأهمّ يتعرّف على أدواره. المقاطع النصّية العديدة من "الخال فانيا"، المحور الثاني للفيلم، ترتبط وثيقاً بالرحلات داخل السيارة.
في أثناء تلك الرحلات على طول الطرق الساحلية وعبر/وحول هيروشيما، مع سائقته قليلة الكلام ميساكي (توكو ميورا)، التي يماثل عمرها الآن عمر ابنته المتوفاة لو قدّر لها العيش؛ يتشكّل أداؤه لدور عُمره، وتتطوَّر الألفة ببطء، دون حديث كثير، ما يؤدّي إلى تمكّن كلاهما أخيراً من الانفتاح على الألم والشعور بالذنب واليأس.
قام المخرج بجمع فريق عمل عالمي، مع ممثلين من أنحاء آسيا يتحدثون لغاتهم الخاصة، بما في ذلك الماندرين واليابانية والفلبينية، وتلعب دور سونيا في مسرحية تشيخوف ممثلة تتواصل من خلال لغة الإشارة الكورية. فريق آسيوي شامل عابر للحدود الوطنية. كل منهم يعبّر عن نفسه بأفضل ما يعرفه؛ كلهم متحدّون تحت هيكل عالمي للفنّ، حيث يمكن للناس التواصل دون الحاجة إلى فهم لغة من أمامهم. هذا الاستخدام البابلي لجميع تلك اللغات في سبيل أن يحكي ممثلون غرباء قصة متجانسة معاً، عملية دقيقة جداً ورائعة، تلامس القلب أولاً ثم تسكن ثمارها في العقل.
في حوارٍ شهير بين سونيا والخال فانيا حول معنى الحياة، يصبح نصّ تشيخوف بديلاً عن الأشياء التي يودّ كافوكو قولها لزوجته المتوفاة، لكنه لا يستطيع التلفّظ بها. وحتى لو وجدَ الكلمات، فلن يكون قادراً على مخاطبتها بعد الآن. كلمات عتاب ومصالحة. وأحياناً لا توجد كلمات. هناك، في الفنّ والتمثيل، في عمليات مفاوضة ترنو البحث عن الأساسي والمهمّ، في ما وراء كل اللغات والنصوص؛ يتخلَّق برزخ زمكاني حيث يلتقي الحب بالفقد وإدراك الذات.
في معنى القيادة السلسة
في مقابلاته، يتحدّث هاماغوتشي عن الحب والإخلاص والشفاء، ولكن قبل كل شيء عن فوائد التحدث والاستماع: حول الاتصال والتبادل مع الآخرين. وهو يفعل ذلك في فيلمه دون إجبار أو استعجال في المواقف، مع احترام الإيقاع الذي يتطلّبه كل من شخصياته. في الواقع، ليست هناك حاجة للبحث في هذا الفيلم عن صراع درامي (بالرغم من وجود بعض منه)، فضلاً عن تأجيجه بشكل مصطنع. كل سائق متمرّس يعرف كيف يغيّر السرعة دون أن يلاحظ ركابه، ويوصلهم إلى وجهتهم دون إثقالهم بإرباكات الطريق ومفاجآته. هذا الفيلم ترجمة مثالية لمعنى القيادة السلسة، بتوقيع سينمائي ليس مبتدئاً في الفنون السينمائية، على الرغم من تمثيله لجيل شاب من مخرجي بلده، بل يؤكّده كأحد المؤلفين العظماء على الساحة العالمية.
هذه الرحلة، بالمناسبة، تستغرق ما يقرب من ثلاث ساعات: غمضة عين بالنسبة للرجل الذي يراقب عمليات وأحداث لا تبدو مهمة، لكنها في الواقع مهمة. هو يعرف ذلك، وفي النهاية نعرفه نحن أيضاً. فيلمه المذهل دون الحاجة إلى التصريح أو الصراخ، يتألّق بنبرته المتأنية ودقته واعتداله. إنها سينما حقيقية. سينما تحرّكنا بالحقيقة الإنسانية التي تحتويها. بقصصٍ تخاطبنا من خلال النظر إلينا مباشرة. وهذا ما يشكّلنا في الأخير: القصص التي نرويها، القصص التي نترك بها انطباعاً دائماً لدى مستمعينا.
(*) يُعرض الفيلم في "موبي" بدءاً من 1 نيسان/أبريل. كما يُعرض فيلم "آساكو 1 & 2" ابتداء من 5 نيسان/أبريل.
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها