الخميس 2022/04/21

آخر تحديث: 14:12 (بيروت)

"قودي سيّارتي".. جنس وأكاذيب وفنون

الخميس 2022/04/21
increase حجم الخط decrease
"يا فتاتي، ما أثقل شعوري! أوه، لو تعرفين مدى صعوبة شعوري!"
(تشيخوف، "العم فانيا")

"سألت فتاة ماذا تريد أن تكون، قالت: عزيزي، ألا يمكنك رؤية رغبتي في أن أصبح مشهورة، نجمة سينمائية"/لكن يمكنكِ القيام بشيء في الأثناء/حبيبتي، يمكنك قيادة سيارتي/نعم، سأصير نجماً/حبيبتي، يمكنك قيادة سيارتي/ وربما سأحبك حينها"
(البيتلز، أغنية "قودي سيارتي")

بتوزيع جوائز الأوسكار لهذا العام، يبدأ الفرز الحقيقي لها، والوقوف على أهلية كل متوَّج ومدى استحقاقه. في عالم آخر أكثر إنصافاً، لم يكن لينال فيلم "كودا" جائزته الكبرى، لكن هذه قواعد أكاديمية هوليوود وناخبيها. في تقدير كاتب هذه السطور، كان الأحق بالتتويج واحد من فيلمين: "بيتزا العرقسوس" لبول توماس أندرسون، و"قودي سيّارتي"(*)  للياباني ريوسكي هاماغوتشي. هذا الأخير، المتوّج بأوسكار "أفضل فيلم دولي"، يمثل تذكيراً بالسينما الخالصة الجميلة القادرة على التأثير في مشاهديها، بلمعة في العين ودمعة ثقيلة، كمرآة يتعرّفون منها على ذواتهم، كاشتغال سينمائي متمهّل ورقيق ينفذ تحت الجلد ويسكن الروح.

نشطَ هاماغوتشي (1978) كصانع أفلام منذ مطلع هذا القرن، في البداية كصانع أفلام وثائقية ومخرج إعلانات تجارية، وعلى مدى السنوات العشر الماضية أو نحو ذلك اختط مساراً سينمائياً مختلفاً بأفلام شخصية من تأليفه. ولكن العام الماضي كان عام الاختراق. أولاً، عُرض فيلمه "عجلة الحظّ والفانتازيا" في مهرجان برلين السينمائي في آذار/مارس. بعد بضعة أشهر، ظهر "قودي سيّارتي" كأحد العناوين اللافتة في منافسات المسابقة الرسمية لمهرجان كان السينمائي، حيث حصل على جائزة أفضل سيناريو، من بين أشياء أخرى. ثم تلا ذلك انتصارات وتتويجات في أنحاء العالم الأربع.

موراكامي أكثر من موراكامي نفسه
يستند الفيلم إلى ثلاث قصص قصيرة من تأليف هاروكي موراكامي تحتويها مجموعة قصصية بعنوان "رجال بلا نساء" (صدرت باليابانية في العام 2014، ولم تترجم حتى الآن إلى العربية)، مكونة من سبع قصص قصيرة أبطالها جميعاً رجال فقدوا نساءهم بطرق مختلفة، ليختبروا الفراغ اللاحق لفقد الحبيبة، ويبدأون البحث عن السلوى والعزاء في ما تبقّى من حياتهم. غير أن فيلم هاماغوتشي أكثر من ذلك، فهو موراكامي أكثر من موراكامي نفسه. إذ أن الفيلم أكثر من رواية حكاية شهرزادية حول العديد من مظاهر الحب والفقد، الموضوع الرئيسي للنصّ الأصلي. وأيضاً أكثر بكثير من 24 صفحة موراكامية عن مخرج وممثل مسرحي لم يكن عليه، بعد الموت المفاجئ لزوجته، أن يتصالح مع غيابها فحسب، بل أن يكاشف نفسه بحقيقة أنه لم يكن حاضراً بنسبة 100٪ في حياتها من قبل. كان لديها عشاق. كان لديها قصص. كانت لديها أسرار.

في الفيلم، الدائرة أغلب أحداثه في هيروشيما، نتبع المخرج والممثل المسرحي يوسوكي كافوكو (هيديتوشي نيشيما) أثناء تدريباته وبروفاته لإنجاز مسرحية "الخال فانيا" لأنطون تشيخوف. هذه المسرحية تدور أيضاً حول رجل يمرّ بأزمة وجودية، عليه أن يسأل نفسه ما إذا كان قد سعى لتحقيق الأهداف الصحيحة في حياته، وعن الحبّ الذي بلا مقابل وغير المرئي. مثل تشيخوف، هاماغوتشي أيضاً إنساني ومُشرّح سيكولوجي عظيم. تتخذ شخصياته أحياناً خيارات خاطئة فيما تخشى مستقبلها غير المؤكد، لكنه لا يحكم عليها، بل ينظر بتعاطف.


منظور أنثوي
تيمة الأزمة والحبّ والفقدان التي نراها في نصّي تشيخوف وموراكامي هي أيضاً العمود الفقري لأفلام هاماغوتشي الأخيرة. في فيلم "آساكو 1 & 2" (2018)، تدور الأحداث حول امرأة شابة، آساكو، تقع في حب شاب غامض، وبعد اختفائه، تبدأ علاقة مع رجل أعمال يطابق صورة حبيبها الأول، لكنه شخصية مختلفة تماماً (لمزيد من الارتباك، يلعب كلا الرجلين نفس الممثل). هل هذان الرجلان هما الشخص ذاته؟ هل نبحث دائماً في أحبائنا الجدد عمّا فقدناه مع رحيل أحبائنا السابقين؟

التقط هاماغوتشي التيمة نفسها مرة أخرى في "عجلة الحظ والفانتازيا" المقسّم إلى ثلاثة أجزاء تحتوي ثلاث قصص منفصلة عن الإغراء والعلاقات. تماماً مثل بطلته السابقة آساكو، يتعيّن على أبطال الفيلم اختبار معصرة تغيُّر الهويّات، سواء تلك الشابة التي تكتشف أن الحبيب الجديد لأقرب صديقاتها هو زوجها السابق، أو لقاء امرأتين تعتقدان أنهما تعرفان بعضهما البعض من قبل. قصص دقيقة ومجهرية وأنثوية جداً، مدفوعة بالحوار وفي نفس الوقت مليئة بأسئلة معلَّقة ومكتومة.

شخصياته تدفعها تلك الأسئلة المتعلّقة بالهوية غير أنها تتراءى فقط عندما يقرر الكشف عن أجزاء غير معروفة من الحبكة والقصة، وهذه ميزة أخرى في أفلامه. تدور لعبة "قودي سيّارتي" حول أسئلة مماثلة: من نحن بالنسبة إلى الآخر (أي آخر)، وما الذي نتوقعه، وإلى أي مدى يمكننا التخلّي عن الحب القديم؟

القلب والعقل
هناك قصتان/خطّان متشابكان في الفيلم: عملية الحداد والاستعدادات للمسرحية الجديدة. ونتيجة لذلك، يعاود الفيلم، مراراً وتكراراً، مصادر حياة وفنّ كافوكو، مثلما يذهب إلى البحر حيث يندمج الحاضر والماضي مع المستقبل. تشابك الجمل من مسرحية تشيخوف وموضوعات حياة يوسوكي يضفي على عمل هاماغوتشي الهادئ تركيزاً شعرياً وعاطفياً رائعاً. يمكن للمرء رؤية كيف تتحوَّل عناقيد الكلمات إلى خمر ثقيل للحياة عبر المرشّح المأساوي للقدر وعملية النضج اللازمة لمعالجة مشاعر الحزن والغيرة والذنب. حتى أن بعض المقاطع يُتلفَّظ بها مرتين، وفي السياقات الجديدة ذات الصلة تُظهر كيف تُغيّر التجربة الشخصية للممثل/الممثلة العلاقة بالنصوص وبالتالي تأثيرها. يتضح هذا بشكل خاص في مونولوغ سونيا الأخير ومقطع فانيا حول الإخلاص الزوجي.

كذلك تلعب السيارة دوراً رئيساً، وهي حمراء من طراز ""Saab 900 Turbo. هناك الكثير من القيادة في هذا الفيلم، عبر طرقات اليابان التي ليست جذابة دائماً، حتى لو لم يكن فيلم طريق كلاسيكي. كافوكو يحبّ سيارته كثيراً، وفي رحلاته الطويلة يستمع إلى نصوص مسرحية سجّلتها زوجته بصوتها. وبهذه الطريقة "يذاكر" المسرحيات ويتعرّف عليها بشكل أفضل، والأهمّ يتعرّف على أدواره. المقاطع النصّية العديدة من "الخال فانيا"، المحور الثاني للفيلم، ترتبط وثيقاً بالرحلات داخل السيارة.

في أثناء تلك الرحلات على طول الطرق الساحلية وعبر/وحول هيروشيما، مع سائقته قليلة الكلام ميساكي (توكو ميورا)، التي يماثل عمرها الآن عمر ابنته المتوفاة لو قدّر لها العيش؛ يتشكّل أداؤه لدور عُمره، وتتطوَّر الألفة ببطء، دون حديث كثير، ما يؤدّي إلى تمكّن كلاهما أخيراً من الانفتاح على الألم والشعور بالذنب واليأس.

قام المخرج بجمع فريق عمل عالمي، مع ممثلين من أنحاء آسيا يتحدثون لغاتهم الخاصة، بما في ذلك الماندرين واليابانية والفلبينية، وتلعب دور سونيا في مسرحية تشيخوف ممثلة تتواصل من خلال لغة الإشارة الكورية. فريق آسيوي شامل عابر للحدود الوطنية. كل منهم يعبّر عن نفسه بأفضل ما يعرفه؛ كلهم متحدّون تحت هيكل عالمي للفنّ، حيث يمكن للناس التواصل دون الحاجة إلى فهم لغة من أمامهم. هذا الاستخدام البابلي لجميع تلك اللغات في سبيل أن يحكي ممثلون غرباء قصة متجانسة معاً، عملية دقيقة جداً ورائعة، تلامس القلب أولاً ثم تسكن ثمارها في العقل.

في حوارٍ شهير بين سونيا والخال فانيا حول معنى الحياة، يصبح نصّ تشيخوف بديلاً عن الأشياء التي يودّ كافوكو قولها لزوجته المتوفاة، لكنه لا يستطيع التلفّظ بها. وحتى لو وجدَ الكلمات، فلن يكون قادراً على مخاطبتها بعد الآن. كلمات عتاب ومصالحة. وأحياناً لا توجد كلمات. هناك، في الفنّ والتمثيل، في عمليات مفاوضة ترنو البحث عن الأساسي والمهمّ، في ما وراء كل اللغات والنصوص؛ يتخلَّق برزخ زمكاني حيث يلتقي الحب بالفقد وإدراك الذات.

في معنى القيادة السلسة
في مقابلاته، يتحدّث هاماغوتشي عن الحب والإخلاص والشفاء، ولكن قبل كل شيء عن فوائد التحدث والاستماع: حول الاتصال والتبادل مع الآخرين. وهو يفعل ذلك في فيلمه دون إجبار أو استعجال في المواقف، مع احترام الإيقاع الذي يتطلّبه كل من شخصياته. في الواقع، ليست هناك حاجة للبحث في هذا الفيلم عن صراع درامي (بالرغم من وجود بعض منه)، فضلاً عن تأجيجه بشكل مصطنع. كل سائق متمرّس يعرف كيف يغيّر السرعة دون أن يلاحظ ركابه، ويوصلهم إلى وجهتهم دون إثقالهم بإرباكات الطريق ومفاجآته. هذا الفيلم ترجمة مثالية لمعنى القيادة السلسة، بتوقيع سينمائي ليس مبتدئاً في الفنون السينمائية، على الرغم من تمثيله لجيل شاب من مخرجي بلده، بل يؤكّده كأحد المؤلفين العظماء على الساحة العالمية.

هذه الرحلة، بالمناسبة، تستغرق ما يقرب من ثلاث ساعات: غمضة عين بالنسبة للرجل الذي يراقب عمليات وأحداث لا تبدو مهمة، لكنها في الواقع مهمة. هو يعرف ذلك، وفي النهاية نعرفه نحن أيضاً. فيلمه المذهل دون الحاجة إلى التصريح أو الصراخ، يتألّق بنبرته المتأنية ودقته واعتداله. إنها سينما حقيقية. سينما تحرّكنا بالحقيقة الإنسانية التي تحتويها. بقصصٍ تخاطبنا من خلال النظر إلينا مباشرة. وهذا ما يشكّلنا في الأخير: القصص التي نرويها، القصص التي نترك بها انطباعاً دائماً لدى مستمعينا.

(*) يُعرض الفيلم في "موبي" بدءاً من 1 نيسان/أبريل. كما يُعرض فيلم "آساكو 1 & 2" ابتداء من 5 نيسان/أبريل.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها