الخميس 2022/04/21

آخر تحديث: 14:17 (بيروت)

ابراهيم نصرالله وثلاثية الأجراس...المرأة، الفنّ، وآلة القتل

الخميس 2022/04/21
ابراهيم نصرالله وثلاثية الأجراس...المرأة، الفنّ، وآلة القتل
ابراهيم نصرالله
increase حجم الخط decrease
عقد نادي "قا"ف في طرابلس ندوته الدوريّة عن شهر آذار قبل أيام، حول رواية ابراهيم نصر الله ظلال المفاتيح، إحدى روايات ثلاثيّته الأجراس. وقد استضاف النادي، في اللقاء الذي انعقد عبر تطبيق زوم، الكاتب نفسه من عمّان، إضافة إلى بعض الأعضاء الذين يواصلون المشاركة حتى بعد هجرتهم، من فرنسا وكندا والولايات المتحدة الأميركيّة.

ذكّرت رئيسة النادي، الدكتورة عايشة يكن، في كلمتها الترحيبيّة بـ"أنّنا نستقبل الكاتب للمرّة الثانية، بعد استضافته حضوريّاً في أيلول 2018 إثر فوزه بجائزة "بوكر للرواية العربيّة" عن روايته حرب الكلب الثانية. وما ذلك إلا من باب إيلاء الأدب الفلسطينيّ اهتماماً خاصّاً كونه يعبّر عن قضية فلسطين التي باتت قضيّة عربيّة وإنسانية. وأثنت على أعمال ابراهيم نصر الله الروائية والشعريّة التي يُثبت فيها مرّة بعد أخرى أنّه "ذاكرة فلسطين الحيّة".

ثمّ قدّمت الكاتب وأدارت النقاش الدكتورة وفاء الشعرانيّ التي وجّهت تحية تقدير واحترام إلى الكاتب لما يبذله في سبيل القضية، لافتة إلى ما في الرواية من براعة في سّرد أخبار الأرض والناس، بأسلوب آسر يقطع الأنفاس، وعبر بنية روائيّة متينة نجحت في تصوير مرحلة مهمة من التاريخ الفلسطينيّ زمانيّاً ومكانيّاً. وردّ الكاتب شاكراً على الحفاوة والثناء، مؤكّداً أنّه ينطلق في أدبه من اعتباره القضايا الكبرى بحاجة إلى مستويات عالية للتعبير عنها، ولذلك يجد نفسه حاملاً مسؤوليّة كبيرة في حمل القضيّة إلى الفنّ أولاً وإلى العالم ثانيّاً، وذلك انطلاقاً من مقولته المعروفة "إنّ فلسطين هي امتحان يوميّ لضمير العالم".

انطلاقاً من هذه النقاط جرى النقاش بين الكاتب والأعضاء الذين أثنوا على أسلوب الكاتب الرشيق والمشوّق، وعلى تمكّنه من جمع هذا الكمّ من أخبار الناس والأرض في فلسطين، منذ ما قبل النكبة وإنشاء دولة إسرائيل. واللافت أن بعض الأعضاء أتموّا قراءة الثلاثيّة بصفحاتها الثمانمائة، وتحدّثوا عنها.

والحقيقة أنّ فكرة الثلاثيّة، التي يبدو أنّها تستكمل أعمال الكاتب في "الملهاة الفلسطينيّة"، لا تكتمل وتصل إلى القارئ من الرواية الأولى موضوع النقاش ظلال المفاتيح، بل هي لا تتبلور إلا مع إتمام قراءة الروايتين التاليتين سيرة عين و دبابة تحت شجرة عيد الميلاد. فالكاتب زرع في الرواية الأولى أسماء أعلامٍ أوحى سلفاً بالأدوار (أو استبقها) التي ستلعبها لاحقاً في مسار النضال الفلسطينيّ اليوميّ، زمانيّاً قبل النكبة وبعدها، ومكانيّاً في بلدات وقرى فلسطينيّة اشتُهرت لاقتران اسمها بتاريخ هذا النضال. وعمليّاً يمكن إعطاء كلّ من الروايات الثلاث عنواناً دلاليّاً توحي به الفكرة التي انطلق منها الكاتب لبناء روايته.

فرواية ظلال المفاتيح هي رواية "التشبّث"، حكاية انزراع الفلسطينيّ في أرضه وتعلّقه بها، وإصراره على العودة حتى بعد أنّ دُمّرت بلداته وقراه ومُحيت عن الخريطة. هذا ما تفعله أم جاسر التي ظلّت ترفض الإقامة الدائمة خارج بلدتها، وتحوّلت القضيّة معها هوساً مرضيّاً بشكلٍ ما، وإذا بها، في ما يشبه الجنون، تعيد بناء المنازل ورسم الطرقات بالحجارة في المكان الذي كانت قريتها "رأس السرو" قائمة فيه. وهي في ذلك كغيرها من أبناء الأرض الذين حملوا معهم مفاتيح بيوتهم على أمل العودة، حتى تحوّلت هذه المفاتيح ظلالاً، لا يمكن إفناء أصحابها، ومحوهم من التواجد في المكان إلا بمحو هذه الظلال والقضاء عليها.

الانطباع الأول الذي يأخذه القارئ عن هذه الرواية هي أنها رواية تقريريّة، تعتمد أسلوب الحكاية في استعادة أخبار المأساة الفلسطينيّة ووقائع المجازر التي ارتُكِبت بحقّ الشعب الفلسطينيّ بغية ترهيبه وتهجيره من أرضه. حتى ليتساءل القارئ أما نزال حتى اليوم بحاجة إلى عملية "التحسيس" هذه (sensibilisation)، عبر هذه الأخبار التي زرعت فينا العاطفة والنقمة في مطلع شبابنا، ودفعتنا إلى الثورة والتزام النضال من أجل القضيّة الفلسطينيّة؟ فبدلاً من تكرار هذه الأخبار، من مجزرة دير ياسين وغيرها، إلى أعمال التنكيل البشعة بحقّ الأطفال والنساء، إلى جرف الأراضي ونسف القرى والبلدات، أما آن الأوان لنخرج من البكائيّات إلى أفكار وطروحات أخرى مختلفة؟ أما بات من الأجدى الاهتمام أكثر ببناء أعمال روائية وفّنية جديدة ومتجدّدة، تنمّي الذوق العربيّ وتصقله وتطوّره، وتقرّبه من الفنون عموماً ومن الجَمال المطلق الذي هو قوّة حياة من نواحي متعدّدة؟ نقرأ على لسان مرتا في الرواية الثالثة دبابة تحت شجرة عيد الميلاد: "الجمال كالوطن، للجميع، والموسيقى هي أعلى مراتب الجمال، مثلما الانسان أعلى مخلوقات الله مكانة". فالجمال عندما نسعى إليه ونطلبه، بالفنّ، هو قوّة صقل وشحذ وترسيخ وإقناع وحماس وثبات... هو قوة تطوير وتغيير نحو الأفضل والأمكَن. ثمّ أليس من الأفضل ربّما التطلّع في الأعمال الروائيّة إلى المستقبل، كما حاول الكاتب نفسه أن يفعل في روايته حرب الكلب الثانية؟ فيضيء لمجتمعه على الاحتمالات المتوقَّعة لكي يتحضّر لها سواء أكان سلباً أم إيجاباً؟



في الروايتين الثانية والثالثة من الثلاثيّة، سيرة عين ودبابة تحت شجرة عيد الميلاد، يجد القارئ المتسائل جواباً عن تساؤله هذا، إذ تبدأ كلتاهما من مدخلٍ على علاقة بالفنّ. سيرة عين تروي حكاية كريمة عبّود المصوّرة الفوتوغرافيّة الفلسطينيّة، الأولى كامرأة في فلسطين وفي العالم العربيّ في النصف الأوّل من القرن العشرين. وما العين التي يروي الكاتب سيرتها سوى عينَي كريمة اللتين توحّدتا في عين واحدة هي عين الكاميرا. وعبر حكاية كريمة يمسك الكاتب بفكرة لافتة لها دلالتها الرمزيّة. فمهنة التصوير الفوتوغرافي لم تعد بالنسبة إلى كريمة مجرّد هواية، تتفنّن فيها بتحديد الوضعيات وضبطها، وفي إنزال الألوان وتنقيتها، ولا هي مجرّد متعة ورفاهية وإرضاء الناس الذين تلتقط ظلالهم، بمقدار ما باتت وسيلة نضاليّة لها دورها في تكذيب الإدّعاءات الصهيونية في أوروبا، وفي تثبيت حقّ الفلسطينيّ في تواجده في أرضه. وعليه يمكن إعطاء هذه الرواية عنواناً دلاليّاً رديفاً، فهي رواية "التّثبيت"، من خلال الإصرار على إبراز الوجود البشريّ، الحياة البشريّة، في الصورة المنقولة.

فقد كان همّ الصهيونيّة، كما يروي نصر الله، أن تغري اليهود في أنحاء أوروبا بالهجرة إلى فلسطين حيث أعدَّت لهم الأرض والأماكن لحياة رغيدة تنتظرهم. وحتى أنّها، لتحقيق هدفها هذا، راحت ترسل المصوّرين إلى فلسطين، لتصوير المناظر الطبيعية الخلّابة، والمنازل والدور الفاخرة، والمزارع الغنيّة، على أن تكون كلّها مقفرة خالية من البشر. والغاية من ذلك طبعاً إيهام اليهوديّ الأوروبيّ بأنّ هناك من أعدّ له الأرض والمزارع والمنازل للإقامة، وإقناعه بالهجرة إلى أرض الميعاد. تصل الفكرة إلى كريمة من قِسٍّ صديق والدها، فتأخذ على عاتقها أن تصوّر هذه الأماكن على طريقتها، على أن تكون آهلةً بالسكان. وتصل صورها إلى أوروبا، فيحسّ الصهاينة، هنا وهناك، بخطرها، ويقرّرون التخلّص منها، بالسعي إلى اغتيالها. هذا ما لم يتحقّق لهم، بالرغم من حدّة الصراع ومتانة الردّ الذي جاءهم منها بإيصال الحقيقة حيث يجب أن تصل. الحقيقة أنّ المواجهة المباشرة لم تحصل، وقضت كريمة بداء السلّ كما قضى أشقاؤها من قبل وأفراد عائلتها من قبل.

وكما في سيرة عين، تبدأ رواية دبابة تحت شجرة عيد الميلاد، بمشهد من صلب الحياة الفنّية. في إحدى الحفلات في حيفا، العام 1943، تؤدّي مرتا، ابنة بيت ساحور، وبحضور زوجها اسكندر، أمام فريد الأطرش إحدى أغانيه. وإذ أعجِب بصوتها عرض عليها أن يعطيها أغنية "ليالي الأنس في فيينا" (الأغنية الشهيرة التي غنتها لاحقاً شقيقته أسمهان)، الجاهزة في حينه، لتؤدّيها إن هي وافقت على احتراف الغناء والانتقال إلى مصر حيث توقّع لها مستقبلاً واعداً. ترفض مرتا العرض بالرغم ممّا فيه من مغريات. ومن هنا يعود بنا الكاتب إلى مرحلة صبا مرتا وشبابها، واشتراطها على من يريد الزواج بها أن يكون مهرها "بيانو" يشتريه لها قبل الزواج. وهذا ما رفضه إدواردو العنيد، الذي طلب يدها، فيما هي رفضت أن يقدمه لها هدية بعد الزواج. يوافق ابن خالتها اسكندر على شرطها ويحصل الزواج...

يؤسّس اسكندر ومرتا عائلتهما في بيت ساحور، وتنصرف مرتا في أوقات فراغها، وعزفها، إلى تعليم الأولاد الموسيقى والغناء، ويؤازرها في ذلك أهلها والجيران. ويتزامن ذلك مع قيام الكيان الصهيوني، ومع سياسات القمع والاقتلاع التي مارسها هذا العدو... ومن ضمن المواجهات الكثيرة، تشتدّ المواجهة بين آلة الفنّ، البيانو وموسيقى مرتا وغناء الأولاد، وبين آلة القتل، وحشيّة المحتلّ وإجرامه. وعلى خلفيّة هذا المشهد، يروي الكاتب أخبار مقاومة الشعب الفلسطيّنيّ وثورته، منذ قيام الكيان وحتى انتفاضة بين ساحور الشهيرة.

فكما عملت الصهيونيّة على انتزاع البشر من الصور، حاول عسكرها المحتل والمغتصب، أن يقضي على الحياة والتناسل الفلطسيني في بيت ساحور. عندما يُعتَقل بشارة ابن مرتا واسكندر، يتعمّد الضابط ناحوم، أن يضربه ويركله بكلّ وحشيّة على أعضائه التناسلية، في مشهد رمزيّ أراد به الكاتب تصوير عزم الصهيوني على قطع نسل العربيّ. لكنه لم يفلح بذلك إذ يشفى بشارة ويتزوج ويُرزق أولاداً ومنهم ابنه البكر زيدان الذي، سيُعتقل ويُعذّب يوماً ما، في شبابه، كما اعتُقل وعذّب والده، وجدّه اسكندر.

وليست الحياة فقط ما يحاول الاسرائيلي أن يقضي عليه، بل الجمال بكل أشكاله، الطبيعية منها والفنّية، الجمال بما هو قوّة كما ذكرنا. الضابط شاؤول، العائد من حرب فييتنام ليطبّق أساليب القتل والتعذيب، التي تعلّمها وأتقنها هناك، على الشعب الفلسطينيّ، لم يستطع تحمّل جمال صبيّةٍ أجنبيّة متطوّعة شاركت في إيصال مساعدات لأهالي بيت ساحور المحاصَرين. كان جمالها باهراً لدرجة أنّه فقد إدراكه العالم حوله، ولشدة خوفه من هذا الجمال أعدمها مفرغاً في صدرها كلّ ما في بندقيته من رصاص، وعندما سأله جنوده لماذا قتلها وهي لا تشكلّ أي خطر عليهم أجاب: "كانت جميلة، جميلة أكثر ممّا يجب". وهو رأى في "وجود هذا الجمال في بيت ساحور، أكبر دعمٍ للمدينة".

فإذا كانت ظلال المفاتيح  هي رواية "التشبّث" وسيرة عين رواية "التثبيت" فإن دبابة تحت شجرة عيد الميلاد هي رواية "بثّ الروح"، طبعاً في صور البشر الممثَّلين في الصور الجامدة. تلك هي المحطّات الثلاث في هذه الثلاثية التي أرداها ابراهيم نصر الله ملحمة تصوّر صمود الشعب الفلسطينيّ وبطولاته، على مدى القرن العشرين تقريباً، وهو أعزل يقاتل باللحم الحيّ عدوّاً بآلته العسكريّة والبشريّة العاتية (الاسرائيليّين وقبلهم الإنكليز الذين مهدّوا لهم طريق إقامة الدولة). وإن يكن أفرد للفنّ، تصويراً وموسيقى وشعراً، حيّزاً مهمّا في سياق السَّرد، إلا أنّ الدور الذي يمكن أن يلعبه هذا الفنّ بقي في خلفيّة المشهد، وطغى عليه السّرد التقريريّ والوصفيّ، في سعي واضح إلى تدوين وقائع الصراع الفلسطينيّ- الصهيونيّ، وإضفاء الطابع الملحميّ (المستحَقّ) على نضال الشعب الفلسطينيّ. فكريمة عبود ماتت بداء السلّ وليس في مواجهة العدو، وبيت ساحور هُزِمت بالرغم من موسيقى مرتا التي ظلّت تصدح مع أصوات صغارها "العصافير"، لكنها كانت هزيمة مشرّفة بفعل الصمود العظيم، وأساليب المواجهة المُبتكَرة، وصلابة إرداة أهلها وتضامنهم المتين. هذا التضامن الذي حرص الكاتب على إبرازه بين المسيحيّين والمسلمين مشدّداً على الدور القياديّ الذي لعبه المسيحيّون في التصدّي للعدوان وللسياسات الصهيونيّة، ومذكّراً بالتضحيات التي قدّموها في أرواحهم وممتلكاتهم، ومستعيداً في ما استعاده الهتافات التي كانت تطلق مشدّدة على وحدة الشعب الفلسطينيّ في قضيّته ونضاله:

"إحنا إل رمينا الهويّة

في بيت ساحور الأبيّة

مسلمين ومسيحيّة

كلنا فلسطينيّة..."


طغى على الروايات الثلاث الأسلوب السرديّ التقريريّ المتخفّف من الوصف المطوّل ومن الصور البيانيّة، إلا حيث احتاج الأمر توضيح المشهد أو الصورة، وهذا ما أضفى على الجملة خفّة ورشاقة جعلت توالي الأحداث متسارعاً ومكثّفاً، وجعل القرّاء يشعرون بالحاجة إلى تتبّع الأخبار فيها بتشوّق "يقطع الأنفاس". ويمكن القول إنّ الأسلوب اتّبع هذه الوتيرة وحافظ عليها حتى الرواية الثالثة، حيث بدت الأمور أكثر تعقيداً، من الناحية الروائيّة، وحيث ارتسمت بنية روائيّة فنّية قائمة على التناقض والتعارض، وتجلّى فيها الصراع بين البعدين الإنساني والوحشي الذي حرص الكاتب على إبرازه منذ الرواية الأولى. وهنا لا بدّ من الإشارة إلى الكثير من الثنائيّات الضدّية التي أبرزها الكاتب لإيصال فكرته. ففي ظلال المفاتيح هناك "العربيّ-الإنسانيّ" المتمثّل بأم جاسر، التي حمت ناحوم الجندي وخلّصته من القتل، يقابله "الإسرائيلي-المتوحّش" المتمثّل في ناحوم نفسه الذي لم يردّ الفضل إلا بتدمير القرية التي حمته وبتهجير أهلها، ثم بممارسة أشدّ أنواع التنكيل بالعرب على مدى الروايات الثلاث.


وفي سيرة عين هناك "كريمة-الحقيقة" التي تصوّر المنازل والأماكن الآهلة بالسكان لتكذِّب  "موشيه- الزّيَف" أو "ليفي-الزَّيف" الذي كان يرسل صور الأماكن فارغة من البشر. وفي دبّابة تحت شجرة عيد الميلاد  هناك "مرتا-الموسيقى" تنشر الفنّ والجمال وتزرعه في نفوس الأولاد، وتحيي به المكان، يقابلها "ناحوم- القبح" أو "شاؤول-القبح" كاره الجمال الذي لا همّ له سوى خنق الحياة.

هذا التعارض أخذ مداه في الرواية الثالثة حيث اشتدّ الصراع في انتفاضة بيت ساحور التي تقصّى الكاتب تفاصيلها، وقدّم ثبتاً بالوسائل والوسائط النضاليّة التي ابتكرها الفلسطينيّون، مسلمين ومسيحيّين، للتعبير عن رفضهم ومواجهة المحتلّ، فاكتملت بذلك البنية الروائيّة وبلغت الأحداث ذروتها مع العصيان المدنيّ، فانشأوا مزرعة الأبقار لتأمين الحليب للكبار والصغار تسهيلاً لمقاطعة الحليب الإسرائيلي، ورفض دفع الضرائب ورمي الهويّات في وجه المحتلّ، لتؤول الأحداث إلى وضع نهائيّ منتفح على شتّى الاحتمالات، وسط عودة مرتا، في مشهد موصوف جميل، إلى العزف لجوقة الأولاد (عصافيرها) الذين يغنّون ربّما من أشعار الصبية رولا التي أحبّت الشعر وكتبته من زمنٍ مبكّر. لم يستطع الاحتلال قتل البيانو (الموسيقى) ولا دفتر رولا (الشعر). إنه دوماً الفنّ والجمال في مواجهة القتل والإجرام.

عبر عمليّة السرد هذه، يطالعنا ابراهيم نصر الله بلوحات مشهدية لافتة ومؤثّرة. نتوقّف هنا عند مشهد مريم، أم جاسر، تشتري اللوز من السوق وتدفع ثمنه حصى. فعبر الجنون ترميز واضح إلى قيمة الأرض وغلاؤها. وكذلك في سيرة عين مشهد كريمة تأخذ صورة الجنود الإنكليز بالمقلوب، أو في الرواي الثالثة، حيث تكاثرت المشاهد، مشهد الهيليكوبتر تحوّم فوق بيت ساحور وهي تبث ّ من مكبّرات الصوت أصوات الحيوانات بختلف أنواعها وذلك بغية إقلاق راحة أهاليها وحرمانهم الراحة والنوم في ما سمّاه الكاتب "ليلة إطارة النوم".

ويبدو أنّ هذه الثلاثيّة هي إبراز لدور المرأة في النضال، فمن الواضح أنّ الكاتب يوجه فيها تحيّة إلى نساء ثلاث، مريم، أم جاسر، في الرواية الأولى، وكريمة عبود في الثانية، ومرتا في الثالثة.

لقد لامس ابراهيم نصر الله في ثلاثيّته هذه "جدليّة" الفنّ بما هو قوّة حياة وانتصار وتفوّق، في مواجهة القهر والظلم والاستبداد، لكنه لم يَغُصْ فيها كثيراً، وترك لقلمه أن ينساق وراء أخبار الشعب الفلسطينيّ في مواجهة الاحتلال الانكليزي ثمّ التعدّي الصهيوني وصولاً إلى ممارسات عسكر الدولة الإسرائيليّة. وكأنّه سعى إلى توثيق هذه الأحداث وحفظها مجدّداً للأجيال القادمة خوفاً عليها من الضياع إن هي ضاعت القضيّة. هذا الخوف ماثل في ضمير كلّ عربيّ اليوم، مع الانقسامات داخل السلطة الفلسطينيّة، ومع غياب قيادة عربية وازنة وعدم وجود أي استراتيجية واضحة. فليس مصادفةً، ولا تفصيلاً، غياب أي ذكر للدول العربيّة أو قياداتها التاريخيّة أو الحاليّة، في سياق الروايات الثلاث بالرغم من ضخامة وفداحة الأحداث المرويّة. فقط ذَكَرَ بيان او نداء القيادات العربية زمن الاحتلال الانكليزي والذي دعا الفلسطينيّين إلى إنهاء إضرابهم لأنّ الإنكليز وعدوا (الشريف حسين) بضمان حقوقهم... لتقع النكبة بعد ذلك!

ثلاثية ابراهيم نصر الله الأجراس، الملحمية النفَس، حكايات قوّة الفنّ والعلاقات الإنسانيّة والنضالات البطوليّة التي ستظلّ ماثلة في ذاكرة الشعوب، وتخزّ ضمير العرب والعالم وتمتحنه، كما أراد الكاتب، إزاء قضيّة شعب لم يعد يجد من ينصره...

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها