عن بدايات الفيلم يقول المخرج لـ"المدن": "عندما وصلت إلى بيروت، اضطررت إلى الإقامة في فندق، بسبب إجراءات عزل كورونا، وكان مقابلاً للمرفأ. جاءت والدتي لزيارتي في الفندق، وحصل الانفجار حين كنّا نجلس في الشرفة. شعرنا بالانفجار معاً، مررنا به معاً واعتقدنا أننا سنموت معاً. لحظتها تغيّرت فكرة فيلمي الذي كنت أنوي العمل عليه وقررت إنجاز "أخطبوط" آخر".
نشأ قاسم في بيروت ودرس في الجامعة الأميركية، قبل أن ينتقل إلى نيويورك للدراسة والعمل. لكن الصدفة أعادته إلى بيروت ليشهد كارثة الانفجار. عن تأثير هذا العامل في فيلمه، يقول "أعتقد إنني كنت محظوظاً لكوني في بيروت في ذلك الوقت، وليس نيويورك، لأنه من الصعب علي كثيراً أن أكون بعيداً وأستمع إلى الأخبار حول ما يجري في لبنان. يبدأ خيالك في العمل بجنون وخوف عندما تكون بعيداً عن أهلك وبلدك. وجودي في لبنان أشهدني على توابع الكارثة. بعد الانفجار، انتظم الناس، وبمرور الوقت كان هناك المزيد من الأماكن حيث يساعد المتطوعون في الطعام والإمدادات، وحاولت التطوّع ولكن لم أشعر أن لي مكاناً هناك، فقررت أن أفعل ما أجيد فعله: فيلم. كان هذا الفيلم نوعاً من العلاج بالنسبة إلي. كان من الضروري بالنسبة إليّ بشكل شخصي أن أصنع الفيلم، وأعتقد أنه كان من الممكن أن أشعر بالسوء من نفسي لو لم أنجزه".
في تجريبٍ وابتكار واشتغال حثيث وحميم، يتوغّل الفيلم في مسام بيروت وأهلها، بعد استقرار الكارثة، وبعد تأكُّد الموت، لا لاستدرار العواطف وإنما لتفحُّص الأضرار وتظهير ثقل الدمار والخسارة، معطوفين على التماس أمل للنهوض من جديد. يرسم الفيلم صورة معقدة وشاملة ومؤثرة لمدينة تعاني مأساتها، بتصوير سينمائي جريء وتصميم صوتي رائع. وتماماً مثل موضوعاته، يجد قوته بطرق هادئة وغير متوقعة.
يفعل ذلك بكاميرا ثابتة تنفذ لقطاتها الساكنة في أرواح ونفوس وأماكن، تلهج بالصمت، والنظرات الضائعة لناس بيروت الصامتين المتحلّقين حول إبريق قهوة، الجلوس على الطريق يحدقون في الفضاء، المرضى والسائرين، الصغار والكبار، من طوائف مختلفة، بكمّامات تحميهم من الوباء وتكشف عن عيون خدرة زائعة، وآخرين بلا كمّامات، آخر همّهم الوباء في مدينتهم المدمّرة. قهر وخوف، يأس ورجاء، صمت وصخب، موت واضطراب، ومشاعر أخرى تتعرَّش في أنحاء الفيلم الذي لا تزيد مدته عن 64 دقيقة، لتفهمنا عجز الكلمات عن الوصف وبلاغة الصمت حين تقيم الكارثة في النفوس.
"حين حدث الانفجار، صمّ الآذان، وكان الألم واضحاً. لذلك اخترت أن يكون الفيلم صامتاً. في هذه الأثناء، تسأل نفسك: ماذا هناك لأقوله؟ وكيف أقوله؟ هل أقول شيئاً أصلاً، أم أجلس لأفكر في حالي بعد ما حدث وفي مصير عالمي وحياتي؟ الصمت والتفكير يجلوان الرؤية والاستبطان، ومثل هذه الأسئلة الوجودية التي تتبع الكارثة تحدث في داخلنا، في صمت، ودون أن ننطق بكلمة".
بالصمت وفيه، يحيا الفيلم وناسه ومدينته، بعدما ذهبت الصدمة الأولى وأقام الحزن الحقيقي بينهم. لأن ذلك الحزن الحقيقي الثقيل ليس فورياً، بل يستقر بعد الصدمة، ربما فقط عندما ينتهي "التطهير الأول"... عندما يدرك الناس ما حدث. ثم يسألون أنفسهم "حسناً، ماذا الآن؟"، وهذا الـ"ماذا الآن؟" هو بالضبط ما يدور حوله "أخطبوط".
ليست الصدمة الأولى، أو الخوف الأول أو الغضب الأول، بل شعور أكثر ديمومة يتسلَّل لاحقاً ويربض هناك، عميقاً في الداخل.
(*) افتتح الفيلم الدورة الـ17 (6 ـ 14 إبريل/نيسان 2022) لمهرجان" شاشات الواقع" في بيروت.
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها