الأربعاء 2022/04/13

آخر تحديث: 12:53 (بيروت)

بعد 40 عاماً...نيويورك تعيد اكتشاف عاشقها الإسكندراني أحمد مرسي

الأربعاء 2022/04/13
increase حجم الخط decrease
عندما وقف للمرة الأولى وجهاً لوجه مع اللوحات الشاهقة بعظمتها، والمنتشرة على الجدران الكبيرة في فُسحة MoMa Ps1 العريقة، "شاور عليها وقال لي: These Are Mine". لا تعرف شيرين، ابنة الناقد الفني، الشاعر، الفنان، المُصوّر، مُصمّم الأزياء، والكاتب المصري الكبير أحمد مرسي (مواليد الإسكندرية 1930)، لمَ اختار اللغة الإنكليزيّة ليُعبّر من خلالها وبكلماته القليلة عن انفعالات تلك اللحظة التي كان عليه أن ينتظرها 40 عاماً، قبل أن تُلقي مدينة نيويورك الجامحة والمُعتدة بجنونها، التحيّة لأعماله، ولتعترف، على طريقتها، بأنها أخطأت في التغاضي عن هذا الرجل الانطوائي الذي عاش شوارعها وأرصفتها ومقاهيها أرجوحة عزلته الجميلة التي لا يعرف مذاقها إلا الباحثون، بحسب ما يروي لـ"المدن" عبر البريد الإلكتروني من نيويورك، عن ملاذ آمن مؤلّف من "متاحف وغاليريهات ومسارح ودور سينما وقاعات موسيقى ومكتبات محليّة وشوارع المُخصصة للمشي ومقاهي الرصيف".


كان بإمكانه أن يُظهر القليل من الحسرة أو أن يشعر بما يُشبه الحقد لأنه توغّل في حنايا المدينة طوال 40 عاماً، لكنها لم تلتفت إلى "قامته المهيوبة" وهذا الهدوء الظاهري الذي يخفي عشرات العوالم الداخليّة السريّة، إلا بعدما أقامت له مؤسسة الشارقة للفنون في الإمارات العربيّة المتحدة معرضاً استعادياً ضخماً في العام 2017 بعنوان A Dialogic Imagination. 

لكنه اكتفى بالإشارة إلى هذه الأعمال التي تسكنها الكائنات القادمة من رصيف الأساطير، و"نظر إلى ابني، حفيده، ابتسم وقال: أنا سعيد جداً. And That Was That. فهو رجل قليل الكلام"، بحسب شيرين التي استقالت من وظيفتها المرموقة لتكرّس وقتها لتسليط الضوء على أعمال والدها والإهتمام بأموره الصغيرة بحنان وأمومة كانا ظاهرين خلال محادثاتنا التي استمرت شهوراً طويلة.

تُعرض لوحات ابن الإسكندرية حتى الـ18 من الجاري، ضمن معرض جماعي ضخم يشمل أعمال 47 فناناً آخر يصغرونه بأجيال عديدة في مركز MoMa Ps1 للفنون الذي أُلحق بمتحف MoMA(متحف الفن الحديث) منذ كانون الثاني 2000.

عنوان هذا المعرض السنوي الذي يُظهر من خلال عشرات الوسائط الفنيّة، صورة حميميّة عن نيويورك، هو Greater New York، ويطل بنسخته الخامسة بعد تأخره عاماً كاملاً بسبب جائحة كورونا. وبفعل نجاحه الساحق وتميّز لوحات مرسي، التي تعكس كائنات لا يُعرف جنسها وتُعبّر في الدرجة الأولى عن هذا الشعور الجميل بعدم الانتماء والغربة في كل الأمكنة، ضمّ متحف MoMa  لوحة Walking The Bird I التي أنجزها الإنطوائي الساحر في العام 1971، إلى إحدى مجموعاته الخاصة.


يُنسب مُجمل أعمال أحمد مرسي إلى "مدرسة الإسكندرية" التي تألفت، ماضياً، من فنانين شباب كانوا، في أربعينيات القرن الماضي، نجوم السورياليّة والحريّة والأفكار مُستقبليّة الطلّة. وكان هذا الحالم جزءاً محورياً من المشهد الفني المُزدهر في بغداد، كناقد فني (وهُناك، إنساب وترنّح في عشق قهوة الإسبريسو التي يعيش معها فصول الإفتتان كاملة)، وبعدها في عالم تصميم الأزياء في مصر. وشارك في تأسيس مجلّة Galerie 68، وكتب ما سُمي بأول دراسة باللغة العربية عن بيكاسو. وعندما انتقل وعائلته الصغيرة إلى نيويورك في العام 1974، اضطلع بدور محوري في تطوير النقد الفني العربي.


ويروي مرسي لـ"المدن" بأسلوب أدبي ساكن مينيمالي، أن يوميّاته في نيويورك التي يعرفها عن ظهر قلب، تُشبه يوميّات الصبا في الإسكندرية التي ما زال يبحث عنها في كل الأماكن وهو يعرف سلفاً بأنه لن يجدها مُجدداً. فمن خلال الطقوس الشاعريّة، تمكّن أحمد مرسي الذي التفتت إليه نيويورك بعد 40 عاماً من اللامبالاة (المدروسة؟) من أن يبني لنفسه موطنه الصغير. وأحياناً، يسمح لنفسه بأن يقول إن الإسكندرية المزروعة في كل طقوسه النيويوركيّة، هي في الواقع رواية جميلة لا يمل من سردها لنفسه ليُهدهد غربته. هو الانطوائي الذي لم يشعر يوماً بالوحدة في المدينة التي تمايل على إيقاع جنونها بحثاً عن القليل من الأمان.

زوجته أماني، القارئة المُجتهدة والمُتمكنة من اللغة، هي الرفيقة والخليلة التي ما زالت تُشاطره سطور الحُب الأولى. تُشاطره يوميّاته ولحظات الإلهام الهاربة. جرت العادة عبر السنوات أن "نزور الوست فيلادج في الباص". أماني تجلس بالقرب من زر التوقف. وأحمد مرسي يُغمض عينيه ما أن يتحرك الباص، ويسمح للقصائد التي لم تُكتب بعد بأن تزوره، كلمة فأخرى. لتستقر في مُخيلته المؤلفة من موطن يعرف سلفاً بأنه لن يجده. وعندما يصلان إلى مقهى "ريجيو" حيث يطلب، بطبيعة الحال، الإسبريسو، يُفرّغ على المحارم، القصائد التي زارته في الباص. وفي المنزل ينقلها إلى الدفاتر المُخصصة للشعر.

شيرين مرسي تروي لـ"المدن" أن والدها اختار العمل على لوحات كبيرة الحجم إثر انتقال العائلة إلى نيويورك، بعدما تمكّن من الحصول على طلاء الأكريليك سريع الجفاف. وكان يعمل في منزل العائلة التقليدي الطويل والضيق وسط مانهاتن، والمعروف بالـTown house. 

"وابتداءً من العام 1974، راحت الأعمال تُصبح أكبر حجماً. ووصلت بكبرها لدرجة أن الغاليريهات أشارت إلى والدي أن هواة جمع الفن قد يعجزون عن اقتناء هذه الأحجام الخياليّة. وهو كان يُجيبهم باستمرار: على العمل أن يكون أكبر حجماً مني. ولم يعد إلى الكانفا صغيرة الحجم إلى أن صار في عمر الـ88. عندئذٍ صارت مسألة التعامل مع هذه الأحجام الكبيرة وصعود السلالم والدرجات، للتحكم بها، مسألة خطرة".


بدايةً، كان يمد الكانفا (التي هي في الواقع أقمشة)، في الأستوديو، ولهذا السبب تمكّن من مُعالجتها في المنزل الطويل الضيق.
وعندما حان الوقت لنقل بعض هذه الأعمال من منزل العائلة إلى المتحف، خاف أحمد مرسي عليها من العمّال الذين حضروا لينقلوها بعناية، وجلس في الطابق السفلي، و"لم يتمكن من مُشاهدة عمليّة النقل" التي تمّت من خلال توسّل الشرفات وأيضاً من خلال تدلّي اللوحات داخلياً من طابق إلى آخر.

وعن طفولتها، تروي شيرين أنها كانت وشقيقتها تتوجهان مباشرةً إلى استديو الوالد في الطبقة الثانية من المنزل، حيث كانتا تمضيان معه كل الوقت إلى أن تعود والدتهما من وظيفتها. "كان يُحضّر لنا المشهيّات. ويُقدم لنا الأوراق وأقلام التلوين. ويسمح لنا بأن نُعبّر عن أنفسنا فنياً بأية طريقة تروقنا، وإن كانت خارجة عن التقاليد. لا أذكر يوماً أنه خاف على لوحاته منا. كان يضعها أمامنا بلا خوف".

أحمد مرسي، الإنطوائي الحالم، يعشق المطبخ. "يعيش قصة حب مجنونة مع الخبز (العَيش). وبما أنه جنتلمنان من الإسكندرية، كانت مسألة محورية بالنسبة إليه أن نأكل السمك. وكان يزور "تشاينا تاون" باستمرار لإحضار السمك الطازج. يطهوه ويُحضر معه الأرز. هو أيضاً The Salad man في المنزل. مُتخصص في صلصة البندورة. وعندما كان يزور منطقة "ليتل إيتالي"، كنا نعرف سلفاً أن هذا المساء أبي سيتولى عملية الطبخ. وهذه كانت دائماً مسألة جيدة".

عمله في تصميم الديكور والأزياء في المسرح، في مصر، غرس فيه عشق المسرح. "كان يتابع المسرحيات بعشق وشغف. يقرأ بلا توقف".

اليوم، بفعل تقدمه في السن، أحمد مرسي يمضي الوقت مع أماني في المنزل. الكثير من القراءة. والكثير من الموسيقى. وها هي نيويورك تُلقي له التحيّة بعد 40 عاماً. وهو يكتفي بإبتسامة صغيرة. "الهدية الحقيقية بالنسبة إلي هي العمل".

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها