الثلاثاء 2022/04/12

آخر تحديث: 12:40 (بيروت)

"أسوأ شخص في العالم" ليواكيم ترير..فصل في معرفة الذات

الثلاثاء 2022/04/12
increase حجم الخط decrease
"أسوأ شخص في العالم"(*)، الفيلم النروجي الفائز بجائزة أفضل ممثلة في مهرجان "كان" السينمائي 2021، صورة شخصية وجيلية تُسرَد في شكل حلقات أو مقالات قصيرة. يوليا (ريناتي رينسف، الفائزة بالجائزة المعنية) هي بطلة هذه القصة التي تأتي للتركيز، بشكل عام، على فترة أوائل العشرينات من عمرها وثلاثينياتها، وهي مرحلة تقول الكتب عن صاحبتها، إنها صارت امرأة مرّت بتجارب قادتها إلى التمتُّع، شيئاً فشيئاً، باستقرارٍ - رومانسي، شخصي، عائلي - في حياتها. لكن هذه ليست حالة يوليا. أو، إذا كان الأمر كذلك، فإنها لا تصل إليها بالطرق المتوقعة.

في بنيته المقالية/الفصلية القصيرة - العنوان الفرعي للفيلم هو "يوليا في اثني عشر فصلاً ومقدمة وخاتمة"، وهو أوثق صلة من العنوان التجاري - وفي طوله الذي يزيد عن ساعتين، يمكن تخيُّل الفيلم متحولاً إلى موسم كامل من مسلسل أميركي. فقط سيتعيّن على المرء تمديد الفصول قليلاً ولن يختلف الكثير. في الواقع، هناك الكثير من القواسم المشتركة بين الصعود والهبوط الشخصي والعاطفي ليوليا مع تلك التي في مسلسلات مثل "Love/Life" أو "Girls"، الفارق هنا فقط يتمثّل في المزيد من اللمسات السينمائية وبعض العادات الثقافية الأكثر شيوعاً في النروج - حيث تقع أحداث الفيلم – المختلفة عن بلدان أخرى.

روائية الفيلم يؤكّد عليها في عنوانه، ثم في مقدمته الموجزة والبليغة التي تعرّفنا على بطلة الفيلم ورحلتها خلال "عشرينياتها": تغييرات مستمرة في دراستها الجامعية (تنتقل من الطبّ إلى علم النفس عندما تدرك أنها تهتم "بالروح أكثر من الجسد"، لكنها ستتركها لاحقاً لدراسة التصوير الفوتوغرافي)، وتغييرات سريعة بالقدر نفسه للشركاء العاطفيين من الأكثر أو الأقل ثباتاً، إلى العَرَضي البحت، وشعور بأنها تفضّل خوض الحياة من دون البقاء ثابتة في أي مكان. مثل الكثير في هذا الفيلم المنظَّم بدقة، تُلخَّص هذه المقدمة في تسلسل مونتاجي يربط معاً لحظات مهمة محددة. ومثل أكورديون ينفتح ويُعاد ضمّه، يتدفق السرد من سريع إلى بطيء، من لحظي إلى مركّب، من كوميديا إلى دراما.

يبدأ هذ البورتريه الجلي لحياة جيل الألفية في الانحراف نحو شيء يبدو أكثر استقراراً عندما تلتقي يوليا بأكسِل (دانييلسن لي، وجه مألوف في أفلام ترير)، رسّام كاريكاتور وكتب مصوّرة استفزازي يكبرها بخمسة عشر عاماً. يعرف الرجل منذ البداية أن المسألة لن تنتهي بشكل جيد، وفي الواقع، يحاول أن ينأى بنفسه عن يوليا "في الوقت المناسب". لكن هذه المحاولة بالذات ستأتي بنتائج عكسية: يوليا تريد الآن أن تكون معه على الرغم من علمها أنه، عاجلاً أم آجلاً، سيرغب في إنجاب الأطفال ولن توافقه. ليس الآن، كما تقول، وإنما سيحدث "في مرحلة ما".

تجربة يوليا وأكسِل في العيش معاً تعمل على ترسيخ هذا الصراع، فعندما تلتقي بأصدقائه وأطفالهم، تريد الهروب من هناك. وهذا الاستقرار المزعج لها ينتهي بها إلى التسلّل إلى حفلة زفاف، لتلتقي أيفيند (هربرت نوردروم)، وهو رجل متزوج، لكنه أقرب في السنّ، ترتبط به بطريقة مضحكة، ويلعبان نوعاً ما محاكاة ساخرة لعلاقة حبّ عابرة. بعد مرور بعض الوقت سيلتقيان مرة أخرى وستفسح المحاكاة الساخرة المجال للواقع (هنا يُدرج ترير فصلاً يخصّ شخصية فاتنة لإظهار هذا التغيير في الحياة)، وما يترتّب على ذلك من انفصال بين يوليا وأكسِل.


أيفيند من جيلها نفسه، وتداخله الشكوك ذاتها والمخاوف التي تسكنها. لا يريد أطفالاً أيضاً، ومعه يبدو أن يوليا - التي تعمل طوال الوقت في محل لبيع الكتب ولا تحبّ نشر كتاباتها - تعود إلى الوراء سنوات قليلة، وتجرّب المخدرات وتقوم على ما يبدو بأنشطة برجوازية أقل مما كانت تفعله من قبل. لكن الوضع الجديد لن يكون سهلاً، بعد فترة، لبطلة الرواية/الفيلم المضطربة والمربكة أحياناً. وستقود سلسلة من التطورات مرة أخرى يوليا إلى السير في مسارات غير مؤكدة، ربما لأنها لا تسير في الطرق المحددة، ينتهي بها الأمر بإثراء حياتها بطريقة مختلفة.

لا يحكم الفيلم أبداً على شخصياته. في مقابلة مع المخرج، أوضح أن "أسوأ شخص في العالم" تعبير شائع في النروج "تستخدمه عندما تفعل شيئاً غبياً. إنه تعبير عن كراهية الذات يصف به الشخص ذاته". ومن المثير للاهتمام، أن هذا المصطلح ذاتي المرجعية كلياً لا يمكن تطبيقه على أشخاص آخرين. وهو ما يتناسب بشكل جيد مع موقف الفيلم الذي يمتنع باستمرار عن تأليب شخصياته أخلاقياً على بعضهم البعض. في مقابلة أخرى، يشير المخرج إلى أنه "في الوقت الحالي، لكل شخص رأي قوي. لكن ليس كل شيء في العالم أسود أو أبيض. كثيرون غير آمنين، ولا يريدون فعل أي خطأ. لقد أصبحنا جميعاً حذرين للغاية". لهذا السبب، كما يقول، هذا هو الوقت المثالي لفيلم كوميدي يتفحّص بطريقة هزلية حياة العلاقة بين جيل الألفية وما قبله.

قديماً عرف نيتشه أن "ما نفعله من أجل الحبّ يتجاوز دائماً مفهوم الخير والشرّ". في المسار ذاته تقريباً يسير "أسوأ شخص في العالم"، كبورتريه حسّاس وسخي ولطيف وربما أيضاً انتقادي إلى حد ما، لكن سرده ينطلق دائماً من تعاطف وتفهُّم بأن ما تفعله يوليا قد لا يكون التصرف الأكثر "ملاءمة" أو "مناسبة"، لكنها على طول الطريق تستجيب لرغباتها، مهما بدت قابلة للنقاش. سيستغرق الفيلم وقته للتحدث عن قضايا مثل العلاقة الفارغة التي تربطها بوالدها البعيد، وفي فصلٍ شديد الراهنية، سيعرض أكسل مدافعاً عن نفسه أمام ناشطة نسوية عتيدة ومقدمة إذاعية تتهمانه بالإساءة للنساء والترويج لكراهيتهن وتعنيفهن في رسومه الهزلية، الأمر الذي سيؤدي إلى نقاش عامٍ ممتع، لكن متوتر، حول "ثقافة الإلغاء". مسائل تبدو "أوروبية" تماماً، لكن صداها بالطبع يتردّد في كافة أنحاء العالم، وإن بمفاعيل أخفّ تأثيراً.

على الرغم من انفصالهما، سيكون رسام الكاريكاتير شخصية مهمة في حياة البطلة. وبالنسبة للفيلم، ستكون مفيدة أيضاً مواجهة يوليا بطريقة فهم حياة فرد من الجيل السابق (لنسمّيه الجيل "X")، لديه أهداف حيوية أخرى وصعوبة أكثر في فهم جيل يوليا المفتون والمتأثر بكل شيء تقريباً، بالرغم من صعوبة إدراج يوليا ضمن هذه الفئة. المونولوغ الذي يخبرها فيه أكسل عن نشأته من دون إنترنت أو هواتف محمولة، مشيراً إلى أهمية أن تكون الأشياء الثقافية (الكتب والتسجيلات والكوميديا ​​والمجلات) مادية وملموسة وليست رقمية فقط؛ يعيد التذكير بفارق السنّ بينهما. تتفهَّم يوليا، بالطبع، لكنها تعلم أنها تجربة لا تخصّها تماماً. هو يميل إلى العيش في الماضي، بينما كل شيء بالنسبة لها هو مستقبل.

لا يفلت ترير من بعض الصيغ والكليشيهات حول كيفية تصرُّف جيل أو آخر، وفي الفصول الأخيرة، يلقى بعض التقلبات السردية غير المتوقعة نسبياً، والتي ربما تعتبر "لقطات رخيصة". لكن صاحب "أوسلو، 31 أغسطس" اسكندنافي بما يكفي لمعرفة كيفية إيقاف نفسه قبل الذهاب بعيداً. تجربته في السينما الأميركية (صنع الفيلم الطموح لكن غير الناجح "أعلى من القنابل") واضحة تماماً، ليس فقط في شكل وإيقاع القصة، وإنما أيضاً في الطريقة التي يتمّ بها تنظيم السرد والمضي قدماً بطريقة أقل عشوائية بكثير مما يبدو (الفضل في ذلك يعود أيضاً للكاتبة إسكل فوكت، شريكة ترير طويلة الأمد). ما يميزّه ربما هي اللحظات التي تحاول أن تكون شاعرية، وبعض الإيماءات البصرية اللافتة والغريبة، ونظرته غير المتحيزة إلى حد كبير على موضوعات معينة.

ككوميديا ​​رومانسية، يقدّم الفيلم خاتمة مفاجئة، لكن سلسة في نهاية المطاف، لـ"ثلاثية أوسلو" لترير. الجزأ الأول والثاني - "تكرار" (2006)، مع أصداء الموجة الفرنسية الجديدة وطاقم العمل الشاب، ثم "أوسلو، الحادي والثلاثين من أغسطس" (2011)، بقصته الكئيبة عن إدمان المخدرات - وثّقا تجربة المخرج صاحب "الروح الحرّة"، لكن في كثير من الأحيان بنبرة أكثر سوداوية.

"أسوأ شخص في العالم" فيلم مرح وحزين في آن، يقدّم تأملات غنائية ومحفّزة في الذاكرة ومعرفة الذات وقلق جيل الألفية ومشهد تغيّر الهوية في أوروبا اليوم، لكن الأمر الأساسي هنا هو حياة يوليا، بوصفها شخصاً لا نموذجاً. وبفضل أداء رينسف الممتاز والمنضبط، ينجح الفيلم في رسم خريطة غنية نفسياً وفكرياً لما يبدو أنه عَقدٌ من حياة شخصية قد لا تكون "أسوأ شخص في العالم" - يتحدث العنوان في الواقع عن شيء آخر – لكنها تدرك أن العديد من الخيارات التي تتخذها في الحياة ستؤذي مَن تحبهم.

إنها مفاوضات مستمرة تجريها في حياتها، وحتى عندما تتخذ قرارات ربما تكون خاطئة (أو يمكن رؤيتها بهذه الطريقة، في وقت لاحق)، فإنها تعطي الانطباع بأنها شخص لا يشعر بأي ندم. تمضي قدماً، يدفعها عدم اليقين وتتغذّى عليه في الوقت ذاته.

(*) رشّح الفيلم لجائزة أوسكار أفضل فيلم دولي.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها