الجمعة 2022/04/01

آخر تحديث: 11:34 (بيروت)

"6 باب شرق".. حلم استعادة الإسكندرية

الجمعة 2022/04/01
"6 باب شرق".. حلم استعادة الإسكندرية
تحويل الشغف بصنع الفن إلى شغف بدعم الساحة الثقافية وتطوير الحركة الفنية
increase حجم الخط decrease
منذ تأسيسها على يد الإسكندر الأكبر (331 ق.م)، والإسكندرية لا تتخلى كلية عن مزاجها، كمدينة حضارية منفتحة على الروافد المعرفية والثقافية المتنوعة، والأقمشة الإبداعية الخلاقة، المحلية والوافدة من سائر أرجاء العالم. وإلى لحظتنا الراهنة، لا تزال المدينة الكوزموبوليتانية العريقة متشبثة بذيول تاريخها كواحدة من كبريات مدن حوض الأبيض المتوسط، ولا تنفك عروس البحر المتعثرة تطارد حلمها الشارد بأن تستعيد دورها التنويري البارز، ووهجها الإشعاعي المؤثر داخليًّا وخارجيًّا، كمركز له ثقل رصين في تعزيز القيم العقلية والوجدانية، وإنتاج القوة الناعمة.


تحت مظلة "استعادة الإسكندرية"، هناك مساران مختلفان يقدم كل منهما استراتيجيته وخططه وآلياته من أجل بلوغ ذلك الهدف الإحيائي في طابعه، الذي يحمل في طياته حيوية واقعية بطبيعة الحال، فليس المراد أن تغدو الإسكندرية متحفًا للذكريات والمومياوات المحنطة، وإنما المقصد أن تواصل حضورها الإشراقي، التفاعلي الإيجابي، بممارسات طليعية مبتكرة، وصيغ ومعالجات عصرية.

يتجسد المسار الأول في الفعل الثقافي الرسمي، وعنوانه الأضخم "مكتبة الإسكندرية الجديدة" (2002) بذخائرها وأدبياتها وفعالياتها المتعددة، كمحاكاة للمكتبة العظمى اليونانية، التي عرفتها المدينة قبل الميلاد بثلاثة قرون، واحتوت كنوز اليونان والهند وفارس وبابل وسورية وغيرها من أمهات الكتب في الفلسفة والرياضيات والأدب والفلك، قبل احتراقها في الصراع مع الرومان. كما تصب في هذا المسار الرسمي أيضًا أبجديات وزارة الثقافة المصرية، بقطاعاتها وهيئاتها وأجهزتها، وما تقيمه من معارض للكتب والفنون البصرية، وما تنظمه من مؤتمرات ومهرجانات وندوات في أجندة زاخمة.

وإذا كانت مشروعات هذا المسار يُحسب لها اتسامها بالضخامة، والوفرة، والشمولية، والتسلح بالميزانيات العريضة، كونها تعكس "إمكانات دولة"، فإنها يصعب النظر إليها خارج منظومة الأداء المؤسسي الرسمي المصري بصفة عامة في السنوات الأخيرة، وهي منظومة تقدّم الكم العددي على حساب الكيف النوعي، وتكرس للنخبوية والتعالي نائية عن الحياتي المعيش والحس الشعبي، وتحشد للشعارية والدعائية أكثر من الإنجاز الجوهري الفني، وتحتفي بما هو تراثي وكلاسيكي ومحافظ ومستقر (آمن)، فيما تتوجس مما هو دينامي وتجديدي ومخالف للسائد (ثوري).

يضاف إلى ذلك، ما تفرضه المنظومة الرسمية بشكل صريح أو ضمني من التزامات وقيود وتعليمات وخطوط حمراء (الوصاية، الانصياع الكامل لإملاءات السلطة، الانتفاعية، التدجين)، وما يشوب الأداء نفسه في أحوال كثيرة من روتينية وبيرواقراطية وتكلس، بسبب هيمنة الموظفين وغير المختصين على الجوانب التنظيمية وإدارتها ارتجاليًّا من غرف معزولة، وهي الأمور الدقيقة والحسّاسة التي تتطلب وعيًا عميقًا وإلمامًا بتفاصيل وأسرار لا يمتلكها غير المثقفين الجادين والمبدعين المنخرطين في المشهد القريب من الأرض.

بعيدًا من تلك الدوائر، بما لها وما عليها، يأتي المسار الثاني الموازي، الأبسط والأشد وضاءة وإنعاشًا للمناخ الحالي في الإسكندرية، وهو مسار الفعل الأهلي الحر، بتمظهراته الفردية والمؤسسية على السواء، التي تنطلق من مبادئ المهنية، والاحترافية، والشفافية، والاستقلالية، وكسر احتكار السلطة، وتفعيل ثقافة الأمكنة المفتوحة والهواء الطلق، والوصول إلى المتلقي أينما كان بسبل سهلة مباشرة، وكذلك عبر الفضاء الافتراضي (المواقع الإلكترونية، المدوّنات، وسائل التواصل الاجتماعي، الخ).

يتمثّل هذا المسار الثاني، في أوضح صوره أيضًا، في المشروع الثقافي "6 باب شرق"، كواحد من أنضج الأفكار البديلة، الهادفة إلى بث روح جديدة في مدينة الإسكندرية، وذلك عن طريق إتاحة مساحة خصبة تعمل على تمكين المبدعين السكندريين، وتعزيز حالة حراك واسعة، قائمة على التواصل والتشبيك، وإقامة الفعاليات، وتنمية البرامج وتطويرها، وتنظيم الملتقيات وورش العمل، وتوفير التدريب، ومنهجة الممارسة الثقافية وفق اعتبارات مدروسة.

يتحسس "6 باب شرق" طريقه إلى الوجود والتحقق منذ قرابة عامين، من خلال معهد غوته الإسكندرية، المبتكر الأساسي للمبادرة في مرحلة التدريب والتنفيذ. ومنذ أسابيع قليلة صار المشروع يعمل بشكل مستقل، كوجه من وجوه الفعل الثقافي الحر. "اليوم، ومنذ بدايات 2022، صار باب شرق جاهزًا للاضطلاع بمساعيه من أجل تطوير المشهد الثقافي في الإسكندرية"، كما توضح لـ"المدن" بسمة أحمد مسؤولة الإعلام، وقد تم تخصيص هذه المساحة الفنية والثقافية المفتوحة كنموذج مؤسسي مغاير، لجلب فوائد ومزايا فريدة للمديرين والممارسين الثقافيين في الإسكندرية، وخارجها.

تنبني فلسفة المبادرة، التي ارتبطت بداياتها بدعم من وزارة الخارجية الفيدرالية الألمانية، على بلورة مشروع مزدوج، يشمل جانبًا تعليميًّا، وآخر عمليًّا يهدف إلى الإدارة الفعلية للمساحة الجديدة. وأقام معهد غوته في المراحل التأسيسية برنامجًا مكثفًا في الإدارة الثقافية لدعم المديرين الثقافيين الناشئين من خلال ورش عمل لبناء القدرات، ومحاضرات حول المكونات الأساسية وكيفية إدارة مساحة فنية، واكتساب خبرات المؤسسات الثقافية محليًّا وعالميًّا، والتدريب على مهارات التفكير النقدي والتصدي للمعوقات التى قد تواجه المشهد الفني والثقافي المستقل في مصر عمومًا، وفي الإسكندرية بشكل خاص.

عمليًّا، انجذب الكثيرون من المبدعين الشباب إلى "6 باب شرق" لإدارة مشروعاتهم الثقافية وتشغيل مساحاتهم الخاصة واختبار كفاءاتهم الإدارية. ومع انطلاق العام الجاري، سلم معهد غوته إدارته إلى فريق جماعي مكون من ثلاثة مشاركين (مصطفى إسماعيل، سلسبيل صلاح، معتز صبحي) من بين اثني عشر مشاركًا خاضوا البرنامج التدريبي، وصارت لهم المسؤولية الكاملة لإدارة التجربة، التي تشهد تناميًا يومًا بعد يوم، وتنوّعًا في مجالاتها الإبداعية، بين الفنون والآداب المختلفة، كالشعر، والسرد، وأدب الأطفال، والتشكيل، والرسوم المتحركة، والفوتوغرافيا، والسينما، والموسيقى، والعمارة، وغيرها.

من بين الإيجابيات الملموسة التي أسفرت عنها تلك النشاطات، تنظيم سلسلة من "الإقامات الأدبية" بقيادة الروائيين والمؤلفين البارزين، وإحياء سير المبدعين المنسيين والمهمّشين من خلال فعاليات خاصة، وعقد مدرسة الرسوم المتحركة التي تمخضت عن إنتاج عشرات الأفلام، وتنظيم ورش عمل للتصوير الفوتوغرافي ومعارض جماعية للمشاركين، وتفعيل الملتقيات والمحادثات والعروض عبر الإنترنت من أجل بناء "شبكة تواصل" بين المبدعين السكندريين وغيرهم. وتتعاون مبادرة "6 باب شرق" في إنجاز مشروعاتها المتشابكة مع مؤسسات كثيرة، خارج السياق الثقافي الرسمي بمصر، منها: مركز الجيزويت الثقافي، مركز الصورة المعاصرة، فيج ليف ستوديو، بساريا للفنون، سينما أمير، دكة، متحف الثقافة العالمية.

وبالإمكان تعيين أهم سمات التميز والفضاءات الجديدة التي تتيحها مبادرة "6 باب شرق"، وذلك من خلال ما يسرده الفنانون والمديرون المشاركون عن تجاربهم ومشروعاتهم الخاصة. من هؤلاء، روان حمدي (مشاركة في برنامج مختبر الفوتوغرافیا)، التي تصف التجربة بأنه مثمرة ومثیرة للاهتمام "تعلمت أن السرد القصصي المرئي من خلال التصویر له أثر كبیر على الفنان والمتلقي. من أھم النقاط التي ساعدتني كفنانة معرفة كیفیة ترتیب الأفكار، والبحث، والمصادر، وتنظیم العمل على المشروع. أفضل ما في المشروع هو التنوع في الإضافة إلى الثقافة والفنون بالإسكندریة، خصوصًا أن الساحة الثقافیة في المدينة منحصرة في أمكنة قلیلة".

ويوضح زیاد باسم (مشارك في برنامج مدرسة الرسوم المتحركة) أن تجربة مدرسة الرسوم المتحركة في باب شرق فریدة من نوعھا "ساعدني مدربو البرنامج بعصارة خبراتھم، وتم إرشادي خطوة بخطوة أنا وكل المشاركین حتى نتمكن من إنتاج أفضل المشاريع. أكبر میزة ھي وجود مشروع نھائي أطبق فيه ھذه المراحل كلها. البرنامج يسهم في دعم الفنانین، وتحریك المجتمع الثقافي في الإسكندریة". أما محمد كسبر (مشارك في برنامج مسودة للكتابة)، فيشير إلى أن التجربة مكنته من التفرغ التام للكتابة، بالإضافة إلى أن اختیار واحة سيوة كمكان للكتابة ساعده في تحقیق العزلة اللازمة، والتركيز، والتعمق.

وعلى مستوى مديري البرامج في "6 باب شرق"، يصف معتز صبحي التجربة بأنها من التجارب الفريدة والثرية على المستويين العملي والشخصي، وبمثابة بوابة نحو المشاركة الفعالة في القطاعين الفني والثقافي، وهيكلة الرؤية والأفكار حول تطوير المشاريع بمختلف أنواعها "ما يميز المبادرة منهجية العمل التي نتبعها، حيث تتيح هذه المنهجية الفرصة لتنفيذ مشاریع فنية وثقافية تخدم أھدافنا كمؤسسة، ودعم الفنانین الناشئين أحد أهم هذه الأهداف، حيث نسعى جاهدين إلى أن لا يكون الدعم مقتصرًا على تقديم الورش والبرامج الفنية، بل يمتد إلى إشراك هؤلاء الفنانین في العملیة الإنتاجیة للمشھد الفني والثقافي بشكل عام".

ومن جهتها، توضح سلسبيل صلاح (مديرة برامج) أن أهم ما يميز "6 باب شرق" أنه مكان للاستكشاف وتجربة مختلفة "أتاح المشروع لي الفرصة لأن أصبح مديرة ثقافية على أرض الواقع خلال فترة قصيرة جدًّا، وأن أنخرط في التنفيذ العملي والتواصل مع مبدعين منتشرين في الساحة الثقافية". فيما يرى مصطفى إسماعيل (مدير برامج) أن من سمات التفوق الأخرى للمبادرة تحويل الشغف بصنع الفن إلى شغف بدعم الساحة الثقافية وتطوير الحركة الفنية في الإسكندرية، وإتاحة البرامج المناسبة للفنانين والمديرين الشباب، الذين لا تتوفر لهم القدرة المادية لاحتراف الفن، والتواصل التفاعلي مع الجمهور.

 

 

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها