الأحد 2022/03/06

آخر تحديث: 08:42 (بيروت)

معرض بيروت العربيّ للكتاب..عودة إلى قِيَم الفكرة اللبنانيّة

الأحد 2022/03/06
increase حجم الخط decrease
هل سيتعوّد اللبنانيّون، عشّاق القراءة والمطالعة، أو القائمون بالأبحاث، الأسعار الجديدة للكتب؟ هل سيتوقّفون عن استهوال الرقم وهم يقفون أمام رفوف المكتبات، أو عند صناديق الدفع؟ أم سيدفعون تلقائيّاً من دون تساؤل ولا مقارنات بين الأمس واليوم، تماماً كما باتوا يفعلون وهم يدفعون ثمن ربطة الخبز الجديد، أو كيلو اللحم، أو تنكة البنزين، أو ثمن العلكة مثلاً الذي قفز من 250 ليرة إلى 11000 ليرة أحياناً، قبل أن يتراجع إلى حوالى 8000 ليرة؟ نعم، بالرغم ممّا بات معروفاً عن هذه الأزمة، يبدو أنّ القرّاء سيتعوّدون ذلك، وسيدفعون هذه الأسعار تلقائيّاً كما تؤكّد سوزان سركيس مسؤولة المبيعات في مكتبة أنطوان في طرابلس.

ليس التساؤل هنا من باب الاستغراب أو التهويل، بل من باب توصيف الواقع الثقيل الذي فرض نفسه على عالم صناعة الكتاب وتسويقه وترويجه، منذ أن انفجرت أزمة الدولار، وغزتنا جائحة كورونا، وكأنّه لم يكن بدّ من أن يواكبهما ارتفاع أسعار الورق ومستلزمات الطباعة عالميّاً حتى يكتمل الإطباق على الكتاب من كلّ الجهات.

كلّ من يفكّر في نشر كتاب، ويتّصل بإحدى دور النشر يأتيه الجواب سريعاً وصادماً. إما الاعتذار وتمنّي التوفيق مع دارٍ أخرى، وإما نصائح بالتريّث في النشر في انتظار تحسّن الوضع وتراجع أسعار الصرف على أمل انخفاض الكلفة ومعها سعر مبيع الكتاب. وإما اشتراط الطبع على نفقته، أي الكاتب، أو أن يتحمّل نصف الكلفة، ليجد نفسه أزاء لاحلّ ولا نشر. والسبب طبعاً وراء كل هذه النصائح هي الكلفة التي ستصل بسعر الكتاب إلى ما بين 250000 و350000 بحسب عدد الكلمات... فهل سيُباع الكتاب بهذا السعر، خصوصاً إذا بقي مرتبطاً بسعر صرف الدولار الأميركي واحتمالات ارتفاعاته؟ ومَنْ مِنْ دور النشر أو الكتّاب سيدعو الناس، وإن من أصحابه، إلى توقيع كتابٍ بهذا السعر؟ أعرف مَنْ دعا فعلاً إلى حفل توقيع وفاجأ الناس بسعر الكتاب البالغ 250000 ليرة يوم كان سعر الصّرف بحوالى 15000 ليرة، ومن لم ينسحب من الحضور اعتبرها "بَلْفَة".

إزاء هذا الواقع وجد بعض الكتّاب المحلّيّين، في بعض المناطق، مُتنَفَّساً في مساعدة بعض الجمعيات أو المؤسّسات الثقافية الخاصّة، أعني تلك التي أسّسها أفراد تخليداً لذكر أبٍ أو جدٍّ شاعر أو كاتب، مثل مؤسّسة شاعر الفيحاء سابا زريق الثقافيّة في طرابلس، ومنتدى شاعر الكورة الخضراء عبد الله شحادة الثقافيّ في الشمال. تتكفّل هذه الجمعيات بطباعة الكتاب على نفقتها، ويوزّع مجّاناً بشكلٍ عام. وقد  شهدت هذه الجمعيّات في الآونة الأخيرة إقبالاً كثيفاً ربّما يفوق قدرة أصحابها المادّية والتشغيليّة، ولكنها مستمرّة. وربّما تعمّمت هذه الظاهرة على نطاق الوطن، لكن إن كانت "حسكة تسند خابية" كما يقول المثل الشعبيّ، فإنّ هذه المبادرات لا يمكن أن تحلّ المشكلة على صعيد الوطن لأسباب كثيرة أهمّها أنها لن تكون قادرة على سدّ العجز أو تأمين الانتشار الواسع، وربّما أهمّها أنّ الكتّاب المعروفين  قد لا يرضون الاستعانة بخدماتها.


ولا حاجة بنا إلى التذكير بأسعار الكتب والمجلات الأجنبيّة التي قد تفوق الخيال، وإن كانت بعض دور النَّشر قد قامت بعمليّة توأمة مع بعض دور النشر التي تتعامل معها في أوروبا، لكي تُطبع بعض كتبها في لبنان بدلاً من أن تُستورَد جاهزة، فتبقى الكلفة أقلّ والسعر ضمن نطاق قدرة القارئ، لكن لا نعرف إلى أي مدى يمكن أن تعوّض هذه الطريقة أو أن تحلّ المشكلة، من دون إنكار فائدتها وأهمّيتها.

في ظلّ أزمة الكتاب هذه أتى معرض بيرت العربيّ والدوليّ للكتاب بدعوة من النادي الثقافيّ العربيّ وتنظيمه، وذلك بعد انقطاع ثلاث سنوات بسبب الظروف والأحداث الناشئة عن التحرّكات الشعبيّة بعد 17 تشرين 2019، والتدابير التي رافقت جائحة كورونا، وبسبب انفجار المرفأ المدمّر. وقد أكّدت رئيسة النادي السيّدة سلوى بعاصيري في كلمتها أنّ "العودة في هذا الظرف هي واجبٌ ثقافيّ معرفيّ"، وفي ذلك "التزام بصيغة لبنان الحضاريّة ومتطلّباتها".

لكن، بالرغم من النوايا السليمة والأهداف السامية، نظّم المعرض في ظلّ مقاطعة من نقابة اتحاد الناشرين اللبنانيّين التي يلتزم بقرارها كلّ دور النشر تقريباً (ما ينمّ عن انقسام ممضّ ومؤلم في أوساط أهل لكتاب). ويبدو أنّ لهذه المقاطعة أسبابها غير البعيدة عن الأزمة الضاربة في عالم الكتاب، كما أنّ لها انعكاساتها السلبيّة على المعرض عموماً في ظلّ غياب دور النشر الكبيرة، إن من حيث الحجم أو من حيث النوعيّة، وهو ما يُفقِد المعرض غناه وتنوّعه، وربّما تكون بعض التجارب السابقة قد أنذرت بهذا التراجع على صعيد الكمّية والنوعيّة.

الأستاذ بيار صايغ، صاحب مكتبة لبنان، وأمين سرّ نقابة اتّحاد الناشرين اللبنانيّين، لا يخفي استياءه من تنظيم المعرض في هذا الوقت. فهو يعتبر التوقيت غير مناسب، وذلك لأسباب كثيرة، منها الظروف الاقتصادية الضاغطة على اللبنانيّين، واستفحال ازمة كلفة الكتاب وأسعاره التي لم يتوفّر لها حلٌّ حتى الآن، ثم الظروف السياسيّة ونحن على مشارف إنتخابات نيابيّة ورئاسيّة. كما أنّ المدارس، بسبب جائحة كورونا والأوضاع الاقتصادية، لن تتمكّن من إحضار طلابها كما درجت العادة، وفي رأيه أن هذه المقاطعة لا بدّ أن تؤثّر على النوعيّة. وهو كان يفضّل لو أنّ المنظّمين اقتنعوا بالاكتفاء بالمعرض الواحد، الذي ينظّم تقليدياً سنويّاً، في شهر كانون الأوّل، خصوصاً في هذه السنة، على أمل أن تُجرى الانتخابات وتتغيّر الأوضاع نحو الأفضل، وتحلّ أزمة الأسعار أو تستقرّ على صيغة معيّنة، ويوجَّه الدعم كلّه، وبقوة، إلى هذا المعرض الأساس، وبذلك تتضافر الجهود والظروف العامة لإنجاحه.

بدوره أكّد ناصر جرّوس، صاحب دار "جرّوس برس" (غير المشارِكة) ما ذكره صايغ عن سوء التوقيت. فلا الأجواء السياسية، ولا الاجتماعية، ملائمة في ظلّ الأزمة الاقتصادية الراهنة، والمنعكسة بقوّة على سوق الكتاب، وليس بمقدور دور النشر أن تجد الحلول وتواجهها وحدها. وهو يذكّر في الوقت نفسه، أنّ معرض بيروت كان يُعوّل كثيراً على الحضور العربيّ. فالمثقّفون والمعنيّون بشؤون الكتاب من الإخوان العرب، كانوا على موعدٍ سنويّ مع بيروت للإطلاع على جديد النشر والتزوّد بما يلزمهم منه. والحال أن لبنان هذه السّنة محروم هذه المشاركة للأسباب المعروفة. يضاف إلى الظروف المذكورة أعلاه أنّ معظم دور النشر ما تزال مشغولة بالمعارض الكبرى التي تنظّم في الخارج، في دول الخليج على الأخصّ (في مسقط حاليّاً)، وهي لن تتمكّن بالتالي من توزيع نشاطها هنا وهناك.

على سيرة المعارض الخارجيّة، نسأل ناصر جرّوس عن مدى إسهامها في مساعدة دور النشر على الصمود، فيؤكّد أنّه لم يعد بالإمكان التعويل عليها كثيراً، وربّما أصبحت عبئاً على الناشرين المضطرين إلى المشاركة. فبسبب الأكلاف، وظروف جائحة كورونا، والظروف السياسيّة، تراجعت نتائج هذه المعارض بنسبة 60 في المئة. وإن تكن بعض الدول، مثل قطر، قد أعفت دور النشر اللبنانيّة من رسوم المشاركة، وأمّنت لها سائر التسهيلات (وهناك محاولات جارية مع مسقط لمعاملة مماثلة) إلا أن هذا الدعم يبقى دون المستوى المطلوب، وما هو إلا لتُثْبِت دُور النشر اللبنانيّة وجودها، وتؤمن استمراريّتها. وإذا خفّف هذا الدعم عن كاهل دور النشر، تأتي التكلفة المتزايدة، والمتفاقمة، لتفقده قيمته، خصوصاً مع تراجع نسَب البيع. فعندما يكون عدد النسخ المبيعة قليلاً يضطرّ الناشر إلى توزيع هذه الأكلاف على عددٍ متدنٍّ من النسخ ما يرفع سعر النسخة الواحدة، وهذا ما يزيد الطين بلّة ويعوّق عملية البيع والتسويق.

أنطوان سعد، صاحب دار سائر المشرق، لا يغفل أبداً عن أزمة الكتاب هذه وعمقها وخطورتها. لكنّه يريد التشبّث بالأمل، ولذلك قرّر المشاركة في المعرض، من باب موقفٍ، يمكن وصفه بالسياسيّ الوطنيّ، قائم على قناعة راسخة بضرورة التمسّك بكلّ ما يحافظ أو يستعيد صورة لبنان الثقافية في العالم. فقد أكّد، في جوابٍ عن سؤال، أنّه يراهن إلى حدّ كبير جدّاً على هذا المعرض، على أساس أنّ "مَنْ تبقّى من النخب بعد التهجير القسريّ، مدركٌ تماماً خطورة المرحلة وضرورة العودة إلى الثوابت التي قامت عليها الفكرة اللبنانيّة". ويضيف: "بعد الضربات الهائلة التي تعرّضنا لها في السنوات الأخيرة ليس أمام النخب سوى الانخراط في هذا المعرض والقيام بكلّ ما بوسعهم لإنجاحه والاستفادة ممّا سيأتي به، فنحن كمن يركب درّاجة، لا يمكننا التوقف عن الحركة وإلا سقطنا". ويكرّر ثلاثاً: "لا خيارّ! لا خيار!لاخيار أمامنا سوى الإقدام وسنكمل حتماً". ويشير إلى مثلٍ افريقيّ يقول: "عندما تضيّع البوصلة، عُدْ الى مِنْ حيث أتيت" ويؤكّد: "نحن سنعود إلى من حيث أتينا، هناك الثقافة والكتاب، العمود الأساسيّ وحجر الزاوية في الهيكل اللبنانيّ الضخم، ضخمٌ ومحترم ومهيب، وإذا كان هناك من لا يتذكّرون ذلك، فلأنّهم صغار، وصغار جدّاً".

لكن هل يمكن الاتّكال على النخب الثقافيّة لإنجاح المعرض والتعويض على دور النشر؟ فالمعرض كان مناسبة لفتح نوع من سوق شعبيّة، يمكن لعامة الناس أن تشتري منه بأسعار مخفّضة أو مدعومة، وهذا ما كان يزيد من حركة البيع ويرفد صناديق دور النشر بمداخيل تعينها على التشغيل والاستمرار. أما اليوم ومع هذه الأسعار فهل يمكن التعويل على مشاركة شعبيّة واسعة (الطلاب مثلاً)؟

يعترف سعد بهذا الواقع، ويقول إنّه لذلك أبقى أسعار كتبه على سعر الـ 1500 ليرة للدولار، وعليه "تتراوح الأسعار على رفوفنا ما بين خمسة آلاف وثلاثين ألف، باستثناء بعض العناوين التي شارفت على النفاذ، فأسعارها أغنى بقليل". فلطالما كانت الغاية "دمقرطة" الثقافة وانتشارها واجتذاب أناس جدد إلى عالمها، أما اليوم فبالطبع لن يتمكّن الناس العاديّون من الشراء. لكن همّنا الأساسي في هذه الظروف هو تأمين الشروط اللازمة للاستمرار. وعن إمكانيّة إصدار طبعة ثانية من الكتب النافذة أكّد أنّ ذلك مستحيل تماماً، إلا إذا كان صاحب الكتاب قادراً مادّياً على دفع تكاليف الطبع.

لا أحد يُنكر إذن أزمة الكتاب والنشر، لكن كلّ فريق ينظر إليها من زاوية معيّنة، في انتظار انفراج الأوضاع وإيجاد الحلول. وهذا ما يدعو إليه ناصر جرّوس إذ يرى أنّ "الوضع مأساويّ" بكلّ معنى الكلمة، ولا بدّ من توفّر "خطّة إنقاذيّة" لمعالجة الوضع. ويلفتنا إلى خبرٍ توقيع الاتفاقية بين البنك الدولي والحكومة اللبنانيّة لدعم الصناعة الثقافية في لبنان. وقد استوضحنا حول حقيقة هذا الخبر، وعلمنا أنّه بالفعل جرى حفل التوقيع في القصر الحكومي، بين الرئيس ميقاتي وممثل البنك الدولي في لبنان ساروج كومار جاه، وكان اللافت غياب وزير الثقافة المفترَض ان يكون المعني الأول بهذا الأمر. كما أنّ التمويل سيكون من الصندوق الائتماني المخصّص للبنان. وقد أكّد كومار جاه في كلمته أن ّ" الدعم للعاملين في المجال الثقافي يساعد على استعادة الحياة الثقافية وتزويدهم بالحوافز للاستمرار في الإنتاج الثقافي ويساعد على استعادة المدينة لحيويتها وهي المعروفة بكونها مركزا ثقافيا على المتوسط". لكن حتى الآن لم يرشح أيّ شيء عن طبيعة هذه الإتفاقية، وشروطها وتقديماتها.

فعلى أمّل أن يؤتي هذا المشروع ثماره، لا بدّ من الاستمرار والمثابرة و"الصمود على قيد الحياة" كما يرى أنطوان سعد، و"لإبقاء الشعلة على كلّ معنّي أن يقوم بما يتوجّب عليه للحفاظ عليها متالّقة ولحمايتها من العواصف المهدّدة بإطفائها" وما ذلك في رأيه إلا "في انتظار أيام أفضل، للانطلاق بها مجدّداً في عمليّة تبشيريّة إذا جاز التعبير، ولإعادة إعلاء شأن لبنان، وإرجاع دوره الإقليميّ في المجال الثقافيّ الذي طالما برع فيه".

 

 

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها