السبت 2022/03/05

آخر تحديث: 12:25 (بيروت)

ماذا أكتب؟

السبت 2022/03/05
ماذا أكتب؟
فان غوخ
increase حجم الخط decrease
منذ بدأتُ الكتابة، بعد سنوات طويلة من القراءات والمطالعات، وظروف سانحة في لبنان لأدخل مضمار النشر في بعض الصحف اللبنانية والخليجية من باب ضيق، وأنا أعاني من أزمة في الاتفاق مع القيمين على النشر في هذه الوسائل الإعلامية. فالمادة التي أكتبها، لا تدخل في أي باب من أبواب تصنيفاتها المملة والقاتلة لروح الكتابة. فلكي تكتب، عليك أولاً أن تصنف نوع مادتك وفي أي اختصاص هي، ولأي زمان تصلح، وأي قارئ تريد...

إنها معضلة فعلية أعانيها منذ زمن. فمادتي لا تدخل في باب الرأي، ناهيك بالموقف. ولا هي في باب التحقيقات على أنواعها. وهي بالتأكيد ليست ما استجد من جديد في هذا النوع، عنيتُ الصحافة الاستقصائية الدارجة على عيوبها ونقائصها. يحتار القيمون معي في كيفية مساعدتي لأجل النشر...

أخيراً برز في سوق النشر قسم يدعى المدونات، فوجدوا أن أفضل تسمية لما أكتبه هو من هذه الفئة. وهي يمكن تصنيفها بالكتابة الحرة، أو التجارب أو المحاولات. وهي نصوص غير قابلة للتصنيف، ومفتوحة على نشر الاحتمالات والمعاني والأشكال. إذ يستطيع المرء فيها أن يكون حراً في توليد كثرة من المعاني، من دون أن يكون ملتزماً بالارتباط بصنف أو مسميات بعينها. وهذا الأمر، في اعتقادي، لم تجرِ ملاحظته لغاية الآن في باب النشر في بلادنا بشكل جدّي، وإن كان بعضهم وجد له مخرجاً تحت مسمى المدونات، فلا بأس. المهم بالنسبة إلي ليس تصنيف مادتي، بل أن تُنشر وتأخذ ما أود قوله إلى القارئ أو المتصفح أو الصديق أو البعيد. المهم أن تُنشر النصوص وأن تحيك حياكتها وتغزل غزلها، ونستمتع في هذا اللعب مع الحروف والمعاني الولاّدة لألف معنى ومعنى مع كل قراءة. وكلما ازدادت القراءات، ازدادت معها احتمالات المعاني والأفكار الجديدة.

لذلك يتوجب على المرء أن يتوجه بالشكر إلى التكنولوجيا الحديثة، التي حلّت معضلة كثيرين يرغبون في التعبير عن أفكارهم السيالة، من دون التقيد بقوانين التصنيفات القديمة التقليدية والنمطية ومسمياتها وتقسيماتها. خصوصاً متى ما علمنا أن هناك الكثير من النصوص التي تنشر تحت باب الرواية أو الشعر أو النثر أو المقالات، وهي براء من ذلك. أي جرى تطويع النص ليتماشى مع التصنيفات هذه، وإلا كيف نسمي سُباعية مارسيل بروست "بحثاً عن الزمن المفقود" رواية، وهي ليست أكثر من مدونة، بلغة اليوم، لحياته وسط مجتمع الطبقة الأرستوقراطية، في لحظة زمنية يلتقطها قبل أن تأفل؟ وهل بعض القصائد التي نشرت في الخمسينات والستينات، هي قصائد نثر فعلاً؟ أم أن الشعراء، بعد محاولات نقدية، سموها قصائد نثر لإعطائها شرعية ما؟ وماذا نسمي كتابات مثل كتابات الفرنسي رولان بارت؟ هل هي نقد، أو كما سماها هو، قراءة تحاول توليد المعاني، خصوصاً كتابه "شذرات من خطاب العشق"؟... أين نضع مثل هذه الكتابات، أو بعض كتّاب الفلسفة أمثال جاك دريدا، الذي يُدخل مخزونة الأدبي والألسني للخروج باستنتاجات فلسفية؟

قوة النص أحياناً أنه لا ينتمي لفئة بعينها، حتى ولو اقتصر أمره على مشاهدات تحاول أن توصف حالاً بعينها من دون أن تمسك بيد القارئ لتدلّه على معانيها ودلالاتها. هي تراهن على القارئ ومخزونه المعرفي، ليولد معاني جديدة وإضافية. حتى وإن كانت بلا مرجعيات فكرية مذكورة، فهناك العديد من الأمثلة عن كتّاب كتبوا نصوصاً في غاية الأهمية، من دون أن يذكروا اسم كاتب، فقط اكتفوا بالأحداث وبمجريات ما يجري.

والأن ماذا نستطيع أن نصف هذا كله، أي كل ما كتبت؟ هل هو في باب المدونات أم النقد، أو التعريف أو الجواب أو الردود في معرض مونولوغ داخلي؟ هل هو نص أم حكاية؟ أم كل هذا معاً؟ وبالتالي، لماذا تراني لا أستطيع أن أجد نقطة نهاية لما أكتب؟ لماذا، كلما وضعت نقطة نهاية، انطلق النص من جديد؟ الأفكار تتداعى والنص لا يعرف نهاية. هو في تدفق دائم تتفرع منه جداول وجداول، ولا يعرف التوقف... كما الحياة.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها

الكاتب

مقالات أخرى للكاتب