الخميس 2022/03/03

آخر تحديث: 14:13 (بيروت)

إدمون عمران المليح... المنفى والفصام

إدمون عمران المليح... المنفى والفصام
increase حجم الخط decrease
تسعى هذه الدراسة التي نقدم ترجمتها العربية، إلى الاقتراب من تجربة الكاتب المغربي ادمون عمران المليح، الذي رحل عن عالمنا قبل 12 سنة. ولد المليح في مدينة الصويرة المغربية لأسرة يهودية. كان أحد مؤسسي الحزب الشيوعي المغربي، وأبرز وجوه المقاومة ضد الاحتلال الفرنسي. غادر المليح المغرب في العام 1965 قاصداً باريس التي أقام فيها حتى العام 2000. اشتغل في التدريس والكتابة في جريدة "لوموند". وكانت بدايته مع الكتابة العام 1980، بصدور عمله الأول "المطاف الثابت" لتكون مقدمة لأعمال أخرى مثل "ايلان أو ليل الحكي"، "ألف عام بيوم واحد"، "عودة أبي الحاكي"، "ابنير أبو النور" و"العين والابرة: دراسة في اعمال خليل غريب".

تشكل موضوعة المنفى عصب اشتغال الأكاديمية الهولندية، أيام فان دير بول، التي تعمل أستاذة في جامعة أمستردام، وتتقدّم الكتابة السردية عند ادمون عمران المليح بوصفها فعل استذكار للحضور اليهودي في التاريخ المغربي، بما يستدعيه من إرث ثقافي غني ولحمة وتعايش ومحبة وإدانة قوية لجريمة ترحيل اليهود المغاربة الى الكيان الصهيوني، الذي اشتهر الراحل بمناهضته الشرسة له ورفضه الاعتراف بوجوده.

النص:
يبقى المغرب حاضراً في أدب الشتات المغربي المكتوب بالاسبانية والفرنسية والهولندية. علينا ان نفكّر في الأهمية التي تولى في هذا السياق لظاهرة الهجرة السرية. ويجلي هذا المثال ما مؤداه أن رؤية هولاء الكتاب الاوروبيين لأرض أسلافهم، لم تكن مدموغة بالحنين. ونمثل لذلك بتجارب كتاب ذوي تعبير هولندي من قبيل رشيدة المرابط ونعيمة البديوني والتي تحفل بجرعات من النقد حيال بلدهم الأصلي. بينما تبقى صورة المغرب عند حفيظ بوعزة وعبد القادر بنعلي متأسسة بشكل واسع على الاستيهام والغرابة.

يبدو أنّ ثمة اختلافاً جوهرياً داخل الأدب المغربي، بين أدب الهجرة وأدب المنفى الذي يجد اصوله في هجرة اليهود المغاربة السفارديم الى إسرائيل، استشرف هذا الرحيل الجماعي ذروته في سنوات -٩٥٨-١٩٦١. وإذا كان أدب الهجرة يحتفظ بمسافة ما حين حديثه عن البلد الأصلي، يحمل الحاضر داخل أدب المنفى بصمة الماضي. يتعلّق الأمر بمجموع نصوص مشبعة بالحنين لعالم لم يعد له وجود. وبالاحتكام إلى ماري برونيت سبير، مؤلفة إحدى اندر الدراسات المخصصة لادب اليهود السفارديم المكتوب بالفرنسية، فإن هذا الأخير يتأسس على شرخ يؤشر في الآن نفسه على قطيعة على الصعيدين الشخصي والجماعي. ذلك أن هذا الرحيل المباغت والشامل لهذه الأقلية الدينية والعرقية، لم يتسبّب فقط في شتات مختلف الطوائف اليهودية المستقرة في المغرب منذ قرون عديدة، وإنما أنذر بنهاية التعايش بين اليهود والمسلمين في شمال افريقيا.

وعلى الرغم من أن هجرة العمالة المغربية في سنوات الستينات من القرن الماضي، قد خلخلت البنيات الاجتماعية في البلد الأصلي إلا أنها كانت ذات طبيعة مختلفة عن هجرة اليهود المغاربة. سوف نركز تحليلنا بغاية تحديد الطريقة التي جرى وفقها تمثيل هذه القطيعة الفردية والجماعية في الأدب على رواية "الف عام بيوم واحد" للكاتب المغربي ادمون عمران المليح (1917_2010). وكما يتجلي ذلك العنوان، فإنّ الرواية تتحدّث عن الغياب المباغت لليهود عن بلدهم الأصلي المغرب، الذي يقيمون فيه منذ أزيد من الف سنة. وكي نبحث بدقة الخيط الواصل بين المنفى المعيش على المستوى الشخصي والجماعي، فإن موضوعة "الضعف" الأدبية ستشكل عصب اشتغالي. وسنحتكم في هذا الصدد إلى غي دوغاس الذي يتحدّث فيما يتعلق بتجربة المنفى الواردة في النصوص المغربية اليهودية عن انفجار حقيقي للشخصية: ثمة ابتداء من الآن مسافة بين عزلة وخواء الشتات من جهة والغنى والاسراف في الحياة، اللذان كانا يسمان الزمن الماضي من جهة أخرى. ويصل الأمر بالسارد حد التساؤل أحيانا أن كان هو من عاش هناك أو أن لم يكن نهباً لحلم أو هذيان أو أشكال أخرى من تغيير وتحول الهوية.

وبالنسبة لغي دوكاس، هذا التضاعف في الشخصية ينبع مباشرة من الطابع الاستذكاري للكتابة. وهو ما يستلزم افتراض وجود صلة وطيدة بين صورة الضعف والحنين إلى ماض انطوى وإن كان ما يفتا يتخلّل النصوص التي أبدعها الشتات اليهودي المغربي. لكن صورة الضعف تشكّل أيضاً موضوعة حاضرة باطراد في الأدب المهاجر راهناً. يمكننا افتراض أن إستراتيجيات التضاعف التي وضع أسسها كتاب يهود مغاربة، لا تشبه بالضرورة تلك التي بلورها بعض الكتّاب المهاجرين ما بعد استعماريين.

وجوه المنفى في "ألف ليلة بيوم واحد"
نسيم بطل رواية "ألف عام بيوم واحد" باريسي يستدعي طفولته التي قضاها وسط الطائفة اليهودية بمدينة الصويرة المغربية. وما يهم هنا لا يتمثل في أن يكون المؤلف يهودياً وانما أن يبحث داخل كتاباته عن إعادة تشكيل أرث ثقافي خإص يتمثّل في إرث اليهود المغاربة.

يقدّم لنا المؤلف نسيم باعتباره شخصاً موزعاً بين باريس حيث يقيم حالياً ومغرب طفولته. أين يوجد حاليا؟ في باريس أو في هذه الصويرة المفرطة في البعد بسبب انغمارها في زمن لا حدود له.. بعيدة ولكنها قريبة في الآن نفسه. تعطي كتابة عمران المليح الانطباع للوهلة الأولى بأنها مشدودة الى هذا الماضي وهذا الوطن المغربي المفقود. يذكرنا هذا التمزق الذي يعاني منه نسيم بشخصية سولال لكاتب آخر من اليهود السفارديم وهو البير كوهين. ينبغي التذكير بأن الشجن الذي يستشعره سولال المنحدر من جزيرة كورفو اليونانية ولا يستطيع الفكاك من ذكرى الغيتو اليهودي حيث أمضى طفولته وقد اصبح أثراً بعد عين لا يشبه ذاك الذي استشعره بطل "ألف عام بيوم واحد"، لا ترتبط الماساة التي تستبطنها كتابة عمران المليح بمحو أو استئصال  اقلية عرقية ودينية، وانما بغيابه من أرض الأجداد والذي يعزى الى رحيل مباغت وعنيف يحيل اليه عنوان الرواية. حضور لازيد من الف سنة يمحى في يوم واحد.

يرتبط مفهوم الضعف في رواية "الف عام بيوم واحد" في البداية بدخول الطائفة اليهودية لمدينة الصويرة الى زمن الحداثة. ولأنها استشرفت ذلك من خلال اللغة والثقافة الفرنسيتين، يتقدّم الضعف بوصفه دليلاً على الاستلاب الثقافي. يشعر نسيم بالانبهار حين اكتشافه أن اسمه الشخصي يكتسب رنة مغايرة على لسان عشيقته. يتضاعف نسيم اليهودي المغربي ابن الصويرة بنسيم آخر اندمج في الثقافة الفرنسية. وفي تماهيه مع ثقافة الآخر التي تجسدها اللغة الفرنسية، لا ينكر نسيم لغته الأم أي العربية فقط وإنما أيضا هويته "الشرقية" التي تبدو كما لو انها تعرضت للطمس. يكسب هذا التضاعف نوعاً من السلطة للبطل؛ اذ يلعب دور الفرنسي كلما لذ له ذلك. ويبدو أن هذه الهوية الجديدة المكتسبة لا ترتبط إلا بشخصه.

واذا كان استشراف ثقافة الأخر يقينا مصدر غنى وخصوبة هنا، فإنها قد تودي أيضا الى نوع من الهشاشة الهوياتية. ويجلي ذلك المقطع الذي يعبر في سياقه نسيم عن قلقه من أن يشبه في نظر أصدقائه الفرنسيين، ذلك اليهودي التائه الشريد الذي يتصبب عرقاً من فرط الخوف والقذارة والخنوع، ويلبد مثل صرصار في الزوايا الرطبة والعطنة. وباحتكامه الى الصورة النمطية لليهودي التي رسخها خطاب معاد للسامية، فإن البطل نسيم يسعى الى التخلّص من يهوديته. يسقط نسيم خوفه الخاص على شخص مضاعف يكون في مقدورنا تنميطه. لكنه يعرف جيداً أنه رغم تصرفه مثل الفرنسيين لكنه لن يستطيع الفكاك من هذا الشخص المضاعف الغريب والعجيب الذي يلتصق بجلده.

يجري التمثيل لصورة الضعف في رواية "الف عام بيوم واحد" بشخصية تحمل الاسم نفسه للبطل، أعني نسيم والذي سنتبين فيما بعد انه جده الراحل. وخلافاً لما نعثر عليه في الادب العجائبي حيث يمثل الأموات غالبا قوة تدميرية وقرينة للشر، فإن شبح الجد يمثل قوة حماية ورعاية يمكننا أن نصلها بالاولياء الصالحين حسب المعتقدات السائدة في المغرب العربي. واذا كان صحيحاً كما يقول مارتن هايدغر أن اللغة هي الوطن فإن تواصل الجد مع حفيده باللغة العربية يبدو حابلا بالدلالة. توقف نسيم وقد عصف به التردّد: كيف سيكون في مقدوره مخاطبته وباية لغة. سوف يتم ذلك باللغة العربية حتماً وخصوصا حين يتعلق الأمر بأمور وقضايا جسيمة ومفرطة في حميميتها المثيرة الحابلة بالألم.

سوف يتذكر نسيم بعد مغادرته للمغرب في اتجاه باريس، طريقة أمه في الحديث والكلمات التي كانت توشوش بها والتي كانت تحرسه وتحميه مثل ظل حارس. وفي كلتا الحالتين يكون الحاضر حاملاً بقوة لبصمة الماضي. وتتيح الذاكرة للبطل مواجهة العالم الجديد والمجهول.

يمثل الجد واللغة الأم بوصفهما شخصاَ مضاعفاً إنسانية عابرة لكل العصور والأجيال. وسيقودني ذلك إلى تقديم تجسيد آخر للشخص المضاعف سوف اطلق عليه اسم المضاعف الجدلي. وخلافاً لشخصية سولال لالبير كوهن الذي يبقى اسيراً للماضي، فإن بطل عمران المليح يبقى مأخوذا في أن واحد بالماضي والحاضر، أقصد سنوات الثمانينات من القرن الآفل. سوف تلاحقه والحالة هاته صورة الطفل الفلسطيني الذي نكلت بجسده قنبلة في غمرة الحرب في لبنان.

أفلحت رواية عمران المليح بفعل مزجها بين العنصرين المشكلين للحكي، أقصد الرغبة في إعادة التذكر ووطاة الحدث الراهن على من يتذكر في تجاوز الشعور بالشجن كي يستشرف نوعاً من التعالي. أتاحت صدمة صورة الطفل الفلسطيني المنكل بجسده لنسيم، أن يتجاوز المأساة الشخصية التي كانت تلح عليه اقصد اندثار الطائفة اليهودية التي ولد داخلها. وهو يتخيل عودته إلى الصويرة، مرتع طفولته وحيث يجد في انتظاره حشداً هائلاً من الرؤوس الادمية المغطاة بشال الصلاة اليهودي الأبيض المخطط بالأزرق وهم يقيمون صلاة الموتى – الكاديش- على الطفل الفلسطيني. وباستناده إلى ماض يعرف جيداً أنه انطوى، فإن البطل يروم ترميم حاضر يلقي بثقله عليه بوصفه يهودياً، وإن كان لا يملك حياله شيئًا.

يقول إدمون المليح في أحد حواراته مع ماري رودوني: اكتشف بل بالأحرى أزداد يقينا وقناعة وهذا له ارتباط بتاريخ المغرب بوجود قيم ومبادئ تزداد عمقاً ورسوخاً في الوقت الذي تتعرض فيه للمحو والتدمير الدموي والمأسوي. وهي تستمر في الحياة في الوقت الذي تكون فيه عرضة للتدمير والخراب في إسرائيل…

سوف تتم استعادة هذه الفكرة في "ألف عام بيوم واحد" من لدن السارد في اللحظة التي يزور فيها نسيم مخيم شاتيلا للاجئين الفلسطينيين الواقع في جوار مطار بيروت، بعد وقت قصير من مجزرة ١٦ سبتمبر ١٩٨٢. نسيم قاب قوسين او أدنى من الجنون. تبدو ذكرى الطائفة المغربية اليهودية التي ينتمي إليها أشبه بقوة راعية تنقذ البطل من الجنون حين يجد نفسه وجها لوجه امام ضحايا مجزرة صبرا وشاتيلا التي نفذت بتواطؤ مع الجيش الإسرائيلي. وكما هو الشأن بالنسبة لصورة الجد الراحل التي كانت بمثابة نقطة ارتكاز في محيطه الباريسي الجديدـ فإن ظل الطائفة اليهودية المندثرة التي كان يجد فيها أصوله، كان يسنده في غمرة صراعه مع حاضر صهيوني دموي، كان يقض مضجعه ويشعره بالحرج حيال يهوديته الخاصة.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها