عقدة ولي العهد
وفي يوم الأربعاء 16 يناير 1952، صدرت نشرة طبية مقتضبة من الأطباء التابعين للقصر الملكي، جاء فيها: "في الساعة الثامنة والدقيقة العشرين من صباح يوم الأربعاء 18 ربيع الآخر 1371- 16 يناير 1952، وضعت بحمد الله ورعايته حضرة صاحبة الجلالة الملكة ناريمان، مولودها السعيد، حضرة صاحب السمو الملكي الأمير أحمد فؤاد، وصحة جلالتها وسمو مولودها جيدة". وتشير التفاصيل التي نشرتها جريدة "الأهرام" في صفحتها الأولى، إلى أن الملك فاروق، أصدر حينها أوامر ملكية عديدة، منها أن يطلق على ولي العهد لقب "أمير الصعيد"، كما أمر بإطعام 100 ألف فقير، وصَرف 30 ألف جنيه لأسر الشهداء، وتخصيص 10 جنيهات لكل مولود ذَكَر ولد في يوم مولد الأمير أحمد فؤاد الثاني، إضافة إلى إنشاء مؤسستين اجتماعيتين باسم الأمير في القاهرة والخرطوم. ولم تقتصر الاحتفالات والهبات الملكية حينها على ذلك، بل منح الموظفين إجازة في هذا اليوم، كما تم تعطيل الدراسة أيضًا.
لكن ضجيج الاحتفالات الصاخبة لم ينجح في أن يبعد عن عقل فاروق نبوءة والده التي كانت بمثابة لعنة تطارده. كان والده، الملك أحمد فؤاد الأول، يقول دائماً إن ابنه فاروق سيكون آخر ملوك أسرة محمد علي باشا الكبير، وكاد فاروق أن يؤمن فعلاً بهذه النبوءة خصوصاً بعدما جاءت كل ذرّيته من البنات، وظن أن انجاب ولي العهد سيحطم اللعنة. المدهش أنه أنجب بالفعل ولي العهد، ولم يمنع ذلك النبوءة من التحقق. وكما يقول عادل حمودة في كتابه "الملك الأخير وعرش مصر"، ربما كان من سوء حظ أحمد فؤاد أنه ولد في الوقت غير المناسب، مع أن الجميع كانوا ينتظرونه بفارغ الصبر، حتى يطمئنهم على استمرار بقاء نسل الأسرة على عرش مصر. لكن قدومه جاء برياح لم تكن أسرته المالكة تشتهيها: "أقفل باب التاريخ على أصابعه، وإن لم يقفل على رقبته".
بعد أقل من 7 شهور على الأمر الملكي الذي أصدره فاروق مبشراً بولادة ولي عهده، تصاعدت الأحداث وانتهت بثورة "الضباط الأحرار"، وأجبر الملك على الرحيل واضطر لإصدار الأمر الملكي بالتنازل عن العرش لولي العهد والمغادرة لإيطالي. وقتها ارتعشت يداه ووقّع على وثيقة التنازل مرتين وكأنه يوقع نيابة عن ابنه الذي لم يجلس على العرش مطلقاً، إذ أُلغيت الملَكية بعد شهور من توقيع هذا القرار.
يقول عادل حمودة إن الملك الصغير، أحمد فؤاد، كان يغط في نومه ليلاً عندما وردت الأنباء من القاهرة بأنه لن يتولى المُلك طول حياته. كان عمر الملك في ذلك الوقت 17 شهراً، وكان فاروق متغيباً في فرنسا، وعندما حاصر الصحافيون قصره في إيطاليا لم يجدوا من يتحدثون إليه سوى مربيته التي قالت: "لقد أودعنا الطفل في فراشه في الساعة السادسة مساء كما جرت العادة، ثم جاءت أنباء سقوط الملكية في بلاده... فكانت صدمة لنا ومفاجأة".
النسيان
فرض فاروق على أولاده بعدها الإقامة في سويسرا، لأنها أكثر أماناً من إيطاليا، حيث كان يظن دائماً أن هناك من يترصده وأولاده، في حين بقي هو في روما. ضرب حولهم أسواراً حديدية، ونجح إلى حد كبير في إبعاد أولاده عن دائرة الضوء التي كانت مركّزة عليهم في ذلك الوقت، حتى بهتت تماماً ودخلت الأسرة كلها في الظلمة والنسيان.
انفصلت ناريمان عن الملك المخلوع، بعد موجة فضائح معتادة، وعاش الابن أحمد فؤاد بعيداً من أمه، مع شقيقاته الثلاث في سويسرا، حتى بلغ الـ21 من العمر. تلقى تعليمه الابتدائي في مدرسة عامة بالقرب من منزلهم هناك، حصل بعد ذلك على البكالوريا الفرنسية، ليلحقها بشهادة جامعية في العلوم السياسية والاقتصاد من جامعة جنيف، لتبدأ بعدها قصة الحب التي توجت بالزواج بين الأمير الشاب ودومينينك فرانس بيكار، وهي فرنسية يهودية اعتنقت الإسلام قبل الزواج، واتخذت لقب الملكة فضيلة، ملكة مصر. وانتقل الزوجان إلى باريس حيث عاشا 20 عاماً، عمل أحمد فؤاد خلالها مستشاراً مالياً واقتصادياً لشركات فرنسية وأجنبية، وأنجب الزوجان ثلاثة أبناء، هم: محمد علي الذي ولد في القاهرة العام 1979، وفوزية لطيفة التي ولدت في ولاية موناكو العام 1982، وفخر الدين الذي ولد في الرباط العام 1987. ثم دبت الخلافات بين أحمد فؤاد وزوجته، وتم الطلاق في 9 من مايو 2006 من محكمة سويسرية.
أنور السادات
لكن أحمد فؤاد لم يبق في الظل طيلة ذلك الوقت، فكان قد عاد إلى دائرة الضوء مجدداً في مصر بعدما تأكدت المعارضة السياسية في نهاية السبعينيات وبداية الثمانينيات أن هناك مراسلات ومجاملات بينه وبين الرئيس أنور السادات. إذ قال السادات نفسه وقتها إنه استقبل منه دعوة لحضور زواجه، وأنه وجه إليه تهنئة مصحوبة بهدية قيمة هي سيف من سيوف والده! وهو ما أثار عاصفة ضده على اعتبار أنه ليس من حقه التصرف في شيء آلت مُلكيته إلى الدولة بعد قيام الثورة، لكن ذلك لم يوقف السادات الذي كان معجباً بتلك العلاقة مع الملك الصغير، بعد تبرعه للمجهود الحربي أثناء "حرب التحرير"، فأعاد له الجنسية المصرية وأصدر له أول جواز سفر، وسمح لزوجته بأن تضع مولودها الأول في مصر، وسمح له أيضاً بنقل رفات والده إلى مدافن العائلة في القاهرة.
الضجة التي أثيرت في ذلك الوقت أثّرت في أحمد فؤاد، وأجلت قراره بزيارة مصر حوالى 11 عاماً، لتتحقق في أوائل التسعينيات وكانت معه أسرته، زوجته وأولاده محمد علي، وفوزية، وفخر الدين، وزار بعض الأماكن الأثرية والسياحية. وبقدر الاهتمام الإعلامي الذي صاحب الزيارة الأولى، بقدر ما كان الإهمال متعمّداً، على حد وصف عادل حمودة، في الزيارات التالية. فلا استقبال رسمياً، ولا متابعة من الصحافة التي "صدرت إليها التعليمات بذلك"، ربما نتيجة ما أحدثته الزيارة الأولى من صدى وكثرة الحديث عن حنين الملك لعرش مصر، ومدى قدرته الفعلية على تحقيق ذلك، كما حدث في إسبانيا، بل وحنين المصريين أنفسهم لتلك الفترة، حتى لو من باب "مناكفة" السلطة الحاكمة وقتها. ورغم اختفاء تلك المخاوف واستمرار تأكيد فؤاد على أنه لا يخطط لأي دور سياسي، تباعدت زيارات الملك وساهم توتر الأوضاع في مصر، عقب 2011، في تباعدها أكثر. وفجأة، ومن دون مقدمات، أعلنت الصفحة الرسمية للملك فاروق الأول، في العام 2014، منح الرئيس عبد الفتاح السيسي، أحمد فؤاد الثاني، جواز سفر دبلوماسياً، وقد كُتب في خانة الوظيفة "ملك مصر السابق"، بل وتناثرت أنباء عن تلقيه دعوة لحضور افتتاح قناة السويس الجديدة، أعقبها نفي غير رسمي من الطرفين.
اللغز الأكبر الذي لم يحل أبداً، هو مقدار الثروة التي ورثها الملك الصغير عن والده، إذ كثرت الأقاويل حول ما استطاع فاروق تهريبه خارج مصر، خلال السنوات الأخيرة من حكمه، وقدّرته الصحافة الأجنبية بقيمة 25 مليون دولار، إضافة إلى المجوهرات النادرة، وهو ما حرص أحمد فؤاد نفسه على نفيه في المرات القليلة التي تحدث فيها للصحافة، مؤكداً أن والده أُمهل 24 ساعة فقط للخروج من مصر، وكان في مقره الصيفي في الإسكندرية، ولم يأخذ معه إلا ممتلكاته التي كانت موجودة هناك فقط!
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها