الثلاثاء 2022/03/22

آخر تحديث: 13:23 (بيروت)

الملك أحمد فؤاد.. كان نائماً حين قامت الثورة!

الثلاثاء 2022/03/22
الملك أحمد فؤاد.. كان نائماً حين قامت الثورة!
الملك السابق احمد فؤاد
increase حجم الخط decrease
مهما بذلنا من جهد، سيكون من الصعب النفاذ للمشاعر الحقيقة لملك مصر الأخير أحمد فؤاد ابن الملك فاروق، أثناء زيارته لقصر عابدين مؤخراً. الصور الملتقطة هناك تبدو سينمائية تماماً، محمّلة بشحنات درامية هائلة. الملك السبعيني يزور محل ولادته -ربما للمرة الأولى- في مملكته التي لم يحكمها يوماً واحداً!

زيارة أحمد فؤاد الثاني لمصر، والتي انتهت قبل أيام، تُعتبر الأطول وربما الأنجح في تاريخه، إذ استمرت قرابة أسبوعين، وزار خلالها الملك، إضافة لقصر عابدين، محل ولادته: القاهرة الفاطمية، مجموعة قلاوون، مدرسة برقوق، بيت السحيمي، متحف المركبات الملكية، متحف الحضارة الجديد، منطقة الأهرامات، متحف قصر المنيل، متحف الفن الإسلامي، المتحف المصري في "التحرير"، متحف القوات الجوية، المتحف القبطي، الكنيسة المعلقة، جامع محمد على الكبير، مسجد السلطان حسن، مسجد الرفاعي ومقابر الأسرة العلوية، قصر القبة، قام بجولة في نهر النيل، وتم تكريمه في "نادي الجزيرة"، وجمعية الكشافة. أماكن ربما لم ينجح في زيارتها من قبل، فالمعلومات متضاربة في هذا الجانب، لكن المؤكد أنّه دخلها للمرة الأولى، بجواز سفر يعترف به رسمياً ملكاً سابقاً على مملكة لم يحكمها!

ابتسامة الموناليزا
قوبل الملك هذه المرة بحفاوة بالغة وباهتمام ملحوظ، واستقبله بعض رجال الدولة، وتأمله المواطنون كتذكار أخير من زمن مضى، وكان سعيداً بالحفاوة، رغم أنه لا يتحدث بلسانهم ولا يعرف عنهم الكثير، وإن ادعى غير ذلك. لكن كان من الصعب الكشف عما أحس به، أو معرفة ما فكر فيه، ومن الصعب أيضاً استنتاج ذلك، وهي الانشغالات نفسها التي أثارتها زيارته الأولى العام 1991. وقتها، وصفته الصحافة بأنه من النوع الذي يعرف كيف يخفي مشاعره، وكيف يقلل من حدة ذكائه، ويكبت انفعاله، وهو ما ثبتت صحته بمرور السنوات وتوالي الزيارات. قال عنه الكاتب الصحافي عادل حمودة، آنذاك، إنه يضع على شفتيه ابتسامة ثابتة، مرسومة بدقة، وبراعة، بحيث لا تفضح ما بداخله، وشبّهها بابتسامة المضيفات والدبلوماسيين والموناليزا! "لكن ما تخفيه الابتسامة تفضحه العينان. فنظراته فيها حزن، وألم، وشجن، وربما انكسار. فيها خوف وترقب، وخاليه من الجرأة والاقتحام. والخجل يسيطر عليها.. ويتسرب منها إلى أصابع يديه التي لا يعرف أحياناً ماذا يفعل بها"، بحسب حمودة. لكن هل كانت النظرات الأخيرة تشبه الأولى؟ بالتأكيد لا، لأن الظروف التي أحاطت الزيارتين مختلفة تماماً، مع الأخذ في الاعتبار أن الزيارة التي يتحدّث عنها حمودة لم تكن الأولى، سبقتها زيارة في 11 يونيو 1990 لحضور حفلة زفاف أخيه من أمّه، المحامي أكرم أدهم النقيب. كانت تلك الزيارة الحقيقية الأولى للبلد الذي تولى عرشه بعد ولادته بستة أشهر، وطرد منه في اليوم نفسه.



لنتمكن من الاقتراب من مشاعر الملك أحمد فؤاد في تلك الزيارات، ربّما يجدر بنا العودة بالزمن إلى الوراء كثيراً، بالتحديد إلى العام 1941 حين تعقدت الأمور بين الملك فاروق وزوجته الأولى الملكة فريدة، ووصلت إلى طلبها الطلاق في وقت مبكر من ذلك العام، بسبب خيانته الواضحة والمتكررة لها، لكنه رفض تطليقها وإن سمح لها بالانفصال والعيش في قصر القبة، في حين ظل هو في قصر عابدين. كانت فريدة قد أنجبت له ثلاث بنات ولم تنجب ذَكَراً، وكان هذا من ضمن أسباب توتر العلاقة بينهما، إلى أن انتهت بالطلاق في نوفمبر 1948. كان فاروق يعرف أنه يخسر كثيراً من شعبيته بالتخلي عن فريدة التي ارتبط بها الشعب ربما أكثر من ارتباطه به هو شخصياً، لكن فكرة البحث عن ولي العهد كانت أقوى، لذا استجاب فوراً لنصيحة المقربين بالزواج مرة أخرى للحفاظ على الأسرة الحاكمة، ووجد ضالته في ناريمان صادق، ابنة الستة عشر ربيعاً، التي سحرت لبّه، رغم أنها كانت مخطوبة بالفعل، وربّما زاد ذلك من سطوتها على تفكيره المحب للاستحواذ والسيطرة. ففسخ خطبتها وعقد قرانه عليها في أيار/مايو 1951. لكن بعد شهر عسل أسطوري، عرفت الملكة الجديدة أن فاروق لن يغير عاداته، وأن إنجاب ولي العهد ربما يكون السبيل الوحيد لتفادي مصير سابقتها، فبدأت في استغلال المسألة وتوالت هدايا الملك المؤجلة للحظة تحقيق الوعد بولادة ولي العهد.

عقدة ولي العهد
وفي يوم الأربعاء 16 يناير 1952، صدرت نشرة طبية مقتضبة من الأطباء التابعين للقصر الملكي، جاء فيها: "في الساعة الثامنة والدقيقة العشرين من صباح يوم الأربعاء 18 ربيع الآخر 1371- 16 يناير 1952، وضعت بحمد الله ورعايته حضرة صاحبة الجلالة الملكة ناريمان، مولودها السعيد، حضرة صاحب السمو الملكي الأمير أحمد فؤاد، وصحة جلالتها وسمو مولودها جيدة". وتشير التفاصيل التي نشرتها جريدة "الأهرام" في صفحتها الأولى، إلى أن الملك فاروق، أصدر حينها أوامر ملكية عديدة، منها أن يطلق على ولي العهد لقب "أمير الصعيد"، كما أمر بإطعام 100 ألف فقير، وصَرف 30 ألف جنيه لأسر الشهداء، وتخصيص 10 جنيهات لكل مولود ذَكَر ولد في يوم مولد الأمير أحمد فؤاد الثاني، إضافة إلى إنشاء مؤسستين اجتماعيتين باسم الأمير في القاهرة والخرطوم. ولم تقتصر الاحتفالات والهبات الملكية حينها على ذلك، بل منح الموظفين إجازة في هذا اليوم، كما تم تعطيل الدراسة أيضًا.

لكن ضجيج الاحتفالات الصاخبة لم ينجح في أن يبعد عن عقل فاروق نبوءة والده التي كانت بمثابة لعنة تطارده. كان والده، الملك أحمد فؤاد الأول، يقول دائماً إن ابنه فاروق سيكون آخر ملوك أسرة محمد علي باشا الكبير، وكاد فاروق أن يؤمن فعلاً بهذه النبوءة خصوصاً بعدما جاءت كل ذرّيته من البنات، وظن أن انجاب ولي العهد سيحطم اللعنة. المدهش أنه أنجب بالفعل ولي العهد، ولم يمنع ذلك النبوءة من التحقق. وكما يقول عادل حمودة في كتابه "الملك الأخير وعرش مصر"، ربما كان من سوء حظ أحمد فؤاد أنه ولد في الوقت غير المناسب، مع أن الجميع كانوا ينتظرونه بفارغ الصبر، حتى يطمئنهم على استمرار بقاء نسل الأسرة على عرش مصر. لكن قدومه جاء برياح لم تكن أسرته المالكة تشتهيها: "أقفل باب التاريخ على أصابعه، وإن لم يقفل على رقبته".

بعد أقل من 7 شهور على الأمر الملكي الذي أصدره فاروق مبشراً بولادة ولي عهده، تصاعدت الأحداث وانتهت بثورة "الضباط الأحرار"، وأجبر الملك على الرحيل واضطر لإصدار الأمر الملكي بالتنازل عن العرش لولي العهد والمغادرة لإيطالي. وقتها ارتعشت يداه ووقّع على وثيقة التنازل مرتين وكأنه يوقع نيابة عن ابنه الذي لم يجلس على العرش مطلقاً، إذ أُلغيت الملَكية بعد شهور من توقيع هذا القرار.

يقول عادل حمودة إن الملك الصغير، أحمد فؤاد، كان يغط في نومه ليلاً عندما وردت الأنباء من القاهرة بأنه لن يتولى المُلك طول حياته. كان عمر الملك في ذلك الوقت 17 شهراً، وكان فاروق متغيباً في فرنسا، وعندما حاصر الصحافيون قصره في إيطاليا لم يجدوا من يتحدثون إليه سوى مربيته التي قالت: "لقد أودعنا الطفل في فراشه في الساعة السادسة مساء كما جرت العادة، ثم جاءت أنباء سقوط الملكية في بلاده... فكانت صدمة لنا ومفاجأة".

النسيان
فرض فاروق على أولاده بعدها الإقامة في سويسرا، لأنها أكثر أماناً من إيطاليا، حيث كان يظن دائماً أن هناك من يترصده وأولاده، في حين بقي هو في روما. ضرب حولهم أسواراً حديدية، ونجح إلى حد كبير في إبعاد أولاده عن دائرة الضوء التي كانت مركّزة عليهم في ذلك الوقت، حتى بهتت تماماً ودخلت الأسرة كلها في الظلمة والنسيان.

انفصلت ناريمان عن الملك المخلوع، بعد موجة فضائح معتادة، وعاش الابن أحمد فؤاد بعيداً من أمه، مع شقيقاته الثلاث في سويسرا، حتى بلغ الـ21 من العمر. تلقى تعليمه الابتدائي في مدرسة عامة بالقرب من منزلهم هناك، حصل بعد ذلك على البكالوريا الفرنسية، ليلحقها بشهادة جامعية في العلوم السياسية والاقتصاد من جامعة جنيف، لتبدأ بعدها قصة الحب التي توجت بالزواج بين الأمير الشاب ودومينينك فرانس بيكار، وهي فرنسية يهودية اعتنقت الإسلام قبل الزواج، واتخذت لقب الملكة فضيلة، ملكة مصر. وانتقل الزوجان إلى باريس حيث عاشا 20 عاماً، عمل أحمد فؤاد خلالها مستشاراً مالياً واقتصادياً لشركات فرنسية وأجنبية، وأنجب الزوجان ثلاثة أبناء، هم: محمد علي الذي ولد في القاهرة العام 1979، وفوزية لطيفة التي ولدت في ولاية موناكو العام 1982، وفخر الدين الذي ولد في الرباط العام 1987. ثم دبت الخلافات بين أحمد فؤاد وزوجته، وتم الطلاق في 9 من مايو 2006 من محكمة سويسرية.

أنور السادات
لكن أحمد فؤاد لم يبق في الظل طيلة ذلك الوقت، فكان قد عاد إلى دائرة الضوء مجدداً في مصر بعدما تأكدت المعارضة السياسية في نهاية السبعينيات وبداية الثمانينيات أن هناك مراسلات ومجاملات بينه وبين الرئيس أنور السادات. إذ قال السادات نفسه وقتها إنه استقبل منه دعوة لحضور زواجه، وأنه وجه إليه تهنئة مصحوبة بهدية قيمة هي سيف من سيوف والده! وهو ما أثار عاصفة ضده على اعتبار أنه ليس من حقه التصرف في شيء آلت مُلكيته إلى الدولة بعد قيام الثورة، لكن ذلك لم يوقف السادات الذي كان معجباً بتلك العلاقة مع الملك الصغير، بعد تبرعه للمجهود الحربي أثناء "حرب التحرير"، فأعاد له الجنسية المصرية وأصدر له أول جواز سفر، وسمح لزوجته بأن تضع مولودها الأول في مصر، وسمح له أيضاً بنقل رفات والده إلى مدافن العائلة في القاهرة.



الضجة التي أثيرت في ذلك الوقت أثّرت في أحمد فؤاد، وأجلت قراره بزيارة مصر حوالى 11 عاماً، لتتحقق في أوائل التسعينيات وكانت معه أسرته، زوجته وأولاده محمد علي، وفوزية، وفخر الدين، وزار بعض الأماكن الأثرية والسياحية. وبقدر الاهتمام الإعلامي الذي صاحب الزيارة الأولى، بقدر ما كان الإهمال متعمّداً، على حد وصف عادل حمودة، في الزيارات التالية. فلا استقبال رسمياً، ولا متابعة من الصحافة التي "صدرت إليها التعليمات بذلك"، ربما نتيجة ما أحدثته الزيارة الأولى من صدى وكثرة الحديث عن حنين الملك لعرش مصر، ومدى قدرته الفعلية على تحقيق ذلك، كما حدث في إسبانيا، بل وحنين المصريين أنفسهم لتلك الفترة، حتى لو من باب "مناكفة" السلطة الحاكمة وقتها. ورغم اختفاء تلك المخاوف واستمرار تأكيد فؤاد على أنه لا يخطط لأي دور سياسي، تباعدت زيارات الملك وساهم توتر الأوضاع في مصر، عقب 2011، في تباعدها أكثر. وفجأة، ومن دون مقدمات، أعلنت الصفحة الرسمية للملك فاروق الأول، في العام 2014، منح الرئيس عبد الفتاح السيسي، أحمد فؤاد الثاني، جواز سفر دبلوماسياً، وقد كُتب في خانة الوظيفة "ملك مصر السابق"، بل وتناثرت أنباء عن تلقيه دعوة لحضور افتتاح قناة السويس الجديدة، أعقبها نفي غير رسمي من الطرفين.

اللغز الأكبر الذي لم يحل أبداً، هو مقدار الثروة التي ورثها الملك الصغير عن والده، إذ كثرت الأقاويل حول ما استطاع فاروق تهريبه خارج مصر، خلال السنوات الأخيرة من حكمه، وقدّرته الصحافة الأجنبية بقيمة 25 مليون دولار، إضافة إلى المجوهرات النادرة، وهو ما حرص أحمد فؤاد نفسه على نفيه في المرات القليلة التي تحدث فيها للصحافة، مؤكداً أن والده أُمهل 24 ساعة فقط للخروج من مصر، وكان في مقره الصيفي في الإسكندرية، ولم يأخذ معه إلا ممتلكاته التي كانت موجودة هناك فقط!

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها