الإثنين 2022/03/21

آخر تحديث: 13:33 (بيروت)

الأمومة المتوحشة: سيدة أفلام الرعب

الإثنين 2022/03/21
الأمومة المتوحشة: سيدة أفلام الرعب
"طفل روزماري" للمخرج رومان بولانسكي
increase حجم الخط decrease
في محاكاتها الدور الأمومي، بأشكاله وأبعاده المختلفة، قدمت السينما نماذج وصوراً تكاد لا تحصى لشخصية الأم. هناك الأم العطوفة والمتفانية. الأم المتسلطة والمهيمنة. الأم الغائبة أو غير المتوافرة عاطفياً. الأم الداعمة. الأم التي تمارس الابتزاز العاطفي، وغيرها كثر. بالرغم من تنوعها، تخضع هذه النماذج كافة لثنائية الأم الصالحة/السيئة، وهي ثنائية تصنف النساء بناءً على تمتّعهن أو افتقادهن لصفات الأمومة الفطرية.

لكن ثمة نموذج يتجاوز هذا التقسيم الثنائي ويتملّص منه، وذلك بتجسيده تناقضات الأمومة وتحولاتها التي تثير، الى جانب التقدير والاجلال، رعب مجتمعات لطالما خافت من جسد المرأة وقدرته على التناسل، فشيطنَته وحاكت حوله أساطير وأفلام رعب. إنها الأم المتوحشة. شريرة أفلام الرعب، تلك التي تتحوّل، بفعل أمومتها، من حالة النقاء والبراءة الى حالة بهيمية متوحشة وخارقة للطبيعة.

غالباً ما تلعب الشخصيات الأنثوية أدوار الضحية في أفلام الرعب. هذا باستثناء شخصية الأم التي يتم توظيفها أحياناً بوصفها الدافع الكامن خلف ارتكاب السلوك الوحشي، وأحياناً باعتبارها وحشاً خارقاً للطبيعة أو شخصية ممسوسة من قوى خارقة للطبيعة. في كتابها "المؤنث المتوحش"، تطرح المؤلفة والباحثة باربرا كريد، مفهوم "الرحم المتوحش"، كأحد موضوعات أفلام الرعب، بالاضافة الى "المهبل المسنن"، و"الأم/المرأة الخاصية"، و"الوحش الممسوس"... وهي جميعها صور مستمدة من أساطير وخرافات حاول عبرها البشر نفض الغموض المحيط بجنسانية المرأة وقدرتها الانجابية، فحملوها عناصر مرعبة وفتاكة.

الرحم المتوحش
من أبرز أفلام الرعب التي تبنت نموذج الرحم المتوحش، "طفل روزماري" للمخرج رومان بولانسكي، الذي يروي قصة تحوّل مروعة لامرأة أنجبت ابناً من الشيطان. في بداية الفيلم، تظهر روزماري بوصفها الزوجة الجميلة، النقية، والمطيعة. هي المرأة اليافعة التي تترقب حملها بكل ما أوتيت من تصورات وخيالات رومانسية تضع الأم في مرتبة القديسة. لكن مع اغتصاب الشيطان لها في الحلم، تُنتهك نقاوة روزماري وقدسيتها، وتتحوّل إلى وحش آكل للحوم وقادر على ارتكاب أفظع الأفعال.

في مقابل القداسة، يطرح الفيلم الاشمئزاز بوصفه الوجه الآخر والأكثر خجلاً لتجربة الحمل والأمومة، كما تعيشها النساء وكما يتلقفها المجتمع. تنتفض روزماري اشمئزازاً حين ترى انعكاس صورتها وهي تقضم قلب دجاجة نيء. لكنها، في نهاية المطاف، تصالح بين الوجهين المتنافرين للأمومة، وإن من طريق التضحية بنفسها، فنراها تهزّ مهد الطفل وتستميت في الدفاع عن ذريتها، وإن كانت الشيطان بعينه. هي الأم القديسة والمتوحشة في الوقت نفسه.

يمكن ربط هذا التصوير المريع للرحم، بتقليدٍ قديم كان قد بدأه فلاسفة مثل أبوقراط وأفلاطون اللذين اعتبرا أن للرحم شهيته الخاصة، وهو يعمل كقوة مستقلة عن ذات المرأة وعقلانيتها، وقادرة على إغراء قوى غريبة ومظلمة من أجل اجتياز حدود هذا الجسد، إن عبر "المساس به" أو الامتزاج به أو اغتصابه أو زرع طفل داخله.

السلطة الأمومية: عالم بلا عار
من جهته، يروي فيلم "ذ اكزورسيت" قصة تحوّل أخرى، هذه المرة موضوعها فتاة في سنّ البلوغ، يمسّها شيطان، ويسلب منها كل صفاتها الأنثوية اللطيفة والطفولية، فتغدو مسخاً غريباً وقحاً ومثيراً للاشمئزاز. ولعلّ أكثر ما يتأثر بهذا المسّ هو علاقة الطفلة بأمها، التي تبدأ مليئة بالحب والحنو، ثم يغلب عليها العنف والحقد المشحونين بنزوات سفاح القربى. بالنسبة لسارة آرنولد، مؤلفة كتاب "أفلام الرعب الأمومية"، ان هذا المسّ الشيطاني ما هو إلا استعارة لتمرّد الطفلة النابع من رغبتها بالبقاء في علاقة الذوبان الأصلية بالأم.



أما فيلم "سايكو" للمخرج ألفريد هيتشكوك، فيقدّم نموذج الأم الخاصية، اي تلك الطاغية المتسلطة التي ترفض فكّ الرباط بابنها فينتهي به الحال الى التماهي الكلّي معه، أي الى حالة من الذهان والجنون. في هذا السياق، تميّز الباحثة والمحللة النفسية، جوليا كريستيفا، صاحبة كتاب "قوى الرعب"، بين القانون الأبوي والسلطة الأمومية التي تعدّ احتكاك الطفل الأول مع مفهوم السلطة، والتي تصفها كريستيفا بأنها "عالم من دون عار وذنب" لأن هذه المفاهيم لا يتعرّف عليها الطفل سوى مع دخوله عالم اللغة والنظام الرمزي الذي تضبطه سلطة الأب.

قلق الخصاء
إن هذا الانقسام بين العالمَين والقانونَين، هو ما يولّد الذهان، وفق كريستيفا، كما نرى في حال نورمان بايتس، بطل فيلم "سايكو". وعليه، فإن علاقته بكافة النساء تصبح مبنيةً على خوفٍ من الخصاء وعلى تساؤل مفاده: هل هذه المرأة مخصية أم خاصية؟ ومع اختلاف السمات الشخصية لصورتي الأم في "ذ اكزورسيست" و"سايكو"- الأولى عطوفة والثانية متسلطة- الا أن ما يجمع الأُمَّين هو تجاهلهما لقانون الأب، أي قانون المجتمع الذي يحتم انفصال الأم عن أبنائها.

إن السبب خلف شعبية ثيمة الأمومة في أفلام الرعب، يعود الى كونها موقعاً تتحقق فيه الرغبات والفنتازمات الطفولية اللاواعية المرتبطة بالانصهار والانفصال الأمومي (الفطم). بالاضافة الى الخوف من الخصاء. وخلافاً للسردية التقليدية التي تبجّل مؤسسة الأمومة وتشيطن كل من ينبذها، يصور بعض هذه الأفلام، الامتثال المتعصب لمؤسسة الأمومة على أنه فعل الرعب نفسه. فمصدر الوحشية لا يتجسّد في هجر الأم لأطفالها، بل في فشل القانون الأسري الذي يضمن انفصالها عنهم. ووحشية الأم ليست في كراهيتها لأبنائها بل في حبها الزائد لهم، واستعدادها للتضحية بنفسها في سبيلهم. إنها "الغريزة الأمومية المفسدة"، على حدّ تعبير سارة آرنولد.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها