الجمعة 2022/03/18

آخر تحديث: 12:56 (بيروت)

حول الأغلفة واللياقات ومحقق الشرطة وجوليا كريستيفا

الجمعة 2022/03/18
حول الأغلفة واللياقات ومحقق الشرطة وجوليا كريستيفا
"أولاد حارتنا".. غلاف الاختزال والرهافة
increase حجم الخط decrease
لست أدري أين قرأتُ أن الوجه هو خريطة الروح، وغلاف الكتاب في بعض مضامينه الشكلية، هو بمثابة روح الكتاب. لا أقصد بالغلاف في هذا السياق تلك اللوحة أو الصورة أو الفراغ المستحكم بواجهة الكتاب، إنما الغلاف كتزاحم مَشروع بين اللوحة أو الصورة أو الفراغ من جهة، والكلمات التي تعطي للكتاب عنوانه من جهة أخرى. فمفهوم الغلاف لا يستقيم في ذهني إلا عبر هذا التمازج بين البصري والقولي المدوّن. 

قد يكون للبَصَري في هذا الكتاب أو ذاك، سبق الوجاهة على كلمات العنوان، وقد تكون هذه الكلمات هي صاحبة الوجاهة، بالمقارنة مع خطوط وألوان وفراغات الغلاف، إنما الريبة تقع صريعة لدى تآلف الصورة والعنوان، وأكثر ما يستحضرني في هذا الصدد ذلك التواشج الأنيس في إحدى طبعات رائعة أنيس فريحة "إسمع يا رضا".

بشكل عام يتجاوز الغلاف عن أن يكون كلمات وشكلاً فنياً ليتحوّل إلى عتبة قد تثير الفضول أو السأم أو المراوحة بينهما، إنما بكل الأحوال يبقى الغلاف عتبة المتن. يرقى الغلاف كعتبة تقوم على تمازج البصري والقولي من كونه مجرّد هيئة برّانية للمتن ليصير عندئذ بمثابة حقل توقعات.

قد لا يوافق النص توقعات المتلقي إزاء روعة الغلاف، لكن ثمة حالات يكون التوالف بين المتن وغلافه على أقصى درجات الإنسجام، وبغية توضيح هذه النقطة لا بأس بالإشارة إلى بعض أغلفة الروائي الليبي، إبراهيم الكوني، حيث تأخذ الصحراء بالتشكّل من برّانية المتن عبر جمالية الغلاف لتتخلل كل سطور العمل وصولاً إلى نقطة النهاية – وكوننا نتكلم عن الكوني – من الأصح القول النهاية المفترضة. إن الغلاف إزاء التوالف الذي من هذا النوع، يصير أقرب إلى المسمار الذي ينغرس في الذهن عميقاً، أو لعله بهذه الحال مثل قماش مطويّ باتّقان داخل أحد أدراج الرأس. ثمة أغلفة يتراوح تآلفها مع المتن ضمن مساحة البَيْن بَيْن، فهي عندئذ أقرب إلى الجوارب، التي بعضها داخل الدرج، وبعضها الآخر متدلٍّ خارج الدرج بلا مبالاة وبإهمال.

أن يردف الغلاف المتن بالدلالة، لهو من الأهمية بمكان ولا سيّما عندما يتعلّق الأمر بالنص الروائي بشكل خاص، إذ يستبطن هذا الأمر تخلل الغلاف للمتن من جهة، واختزال المتن في رهافة الغلاف كهيئة بصرية من جهة أخرى، وأكثر ما يراودني في هذا الصدد إحدى طبعات "أولاد حارتنا" لنجيب محفوظ. 

أكثر ما تتجسد غرابة الغلاف عندما ينقلب هذا الغلاف برسمه ونصه إلى واقعة شفاهية محل تتداول وحكي يومي... "مئة عام من العزلة"، "موسم الهجرة إلى الشمال"، "حفلة التيس"، "المتشائل"، "ساعي بريد نيرودا" وإلى آخر هذه اللائحة من "البديهيات"... ثمة تداعيات عندئذ لا تبرح ترسم مشاهد بصرية غالباً ما لا تكون في الحسبان. فالمتلقي عند هذا المستوى إزاء ترادف بين صورة الغلاف وعنوان الكتاب، مع كل نطق لساني لهذا العنوان. إن الشفاهية في هذا المحل تعزّز من وقع الكتاب بكلّه... وهل أقوى من الشفاه في التواصل بين البشر على كل المستويات! الشفاه قارة بلا حدود والغلاف عند هذا المستوى قارة الكتاب. حينئذ الشفاه سفر، الكتاب سفر... الجسد محطة وكذلك الغلاف.

ثمة استبداد غالباً ما تمارسه تلك الحروف المبثوثة فوق الغلاف، على الشكل الفني للكتاب، وهو استبداد يستمد حضوره من قوة النطق سواء كرج هذا النطق فوق اللسان أو بقي طي الصمت. بيد أن ثمة أبّهة لا يمكن التغافل عنها تتموضع عبر التناص الحاد بين الشكل والكلمات أو عنوان الكتاب، وثمة ما يغري في هذا المطرح للنقوزة على الكاتبة جوليا كريستيفا، إذ إن التناص الحاد بين الشكل الفني للغلاف وكلمات عنوان الكتاب، يحيل إلى ما أسمته كريستيفا "العيّنة اللغوية" وإن كان بسياق مختلف. فإذا كانت كريستيفا تقصد بـ"العيّنة اللغوية" تلك الكلمات التي تشكل أفقاً إشكالياً، ليس في السياق الذي وردت فيه فحسب، إنما في كل سياق، فإن الغلاف الذي يقوم على هذا التناص الحاد بين شكله الفني والعنوان يشكّل أيضاً أفقاً إشكالياً في وعي المتلقي يستحثّه بقوة للحفر عميقاً في المتن الذي يقع بين دفتي الكتاب... كأني بالمتلقي يقول: العتبة مغرية لشدّة تآلفها (الغلاف)، لكن ماذا عن داخل البيت (المتن)؟!


بالنسبة إليّ، أروع الأغلفة هي تلك التي لا تستقيم ضمن محض الورق السميك الذي يحتويها، وأقصد في هذا السياق تلك الأغلفة التي تستثير ذكرى، فاجعة، أول قبلة، أول فندق، لحظة حنين أو حتى جثة عزيز ممددة قبل الدفن بلحظات. قد لا يكون من اللائق ذكر غلاف إحدى رواياتي إنما ومن الباب العريض لـ"تباً للّياقات"، تحدوني الرغبة لذكر الوقع الذي أثاره فيّ غلاف رواية "الإرهابي الأخير" لحظة خروجها من المطبعة. قبل النشر قلت للناشر آنذاك أن يتصرف بالغلاف كيفما يشاء، فإذا بي إزاء صورة ولد هو أنا إلى حدّ كبير. خامرني الشك حيال نفسي وتساءلت: هل أعطيت ناشري العزيز صورة لي؟! لكني عدتّ إلى رشدي وإلى عادة ورثتها عن أمي منذ كنت صغيراً مفادها توقير الصدف وتدابير القدر الذي هو أحكم من عقلنا الفقير. 

روعة الغلاف تكمن في أن يكون دفعاً للحواس؛ ثمة أغلفة تجعلك تشم، تسمع، تتذوق، تلمس وترى ما يفوق القدرة الوظيفية للعين بكثير وهو ما حصل معي لما وقعت على أغلفة بعض روايات الجزائري ياسمينة خضرا والأمر خاص إلى أبعد الحدود.

لن أتناول المسكوت عنه السيكوأنثروبولوجي في هذا الغلاف أو ذاك، على الرغم من الإغواء الذي يمليه هذا التناول، فالمادة لا تحتمل كل هذا الشطط. إنما من متع الأمور أن يَطْلَع الواحد منا بسيناريو متخيّل وربما بنصّ قصير عطفاً على تحديقه بهذا الغلاف التناصّي أو بذاك.

بعض الأغلفة مضنون بها على غير أهلها، كما تقول العرب في تراثها الجليل، وأغلفة أخرى ممدّدة ككشك فوق سطوح بيوت القرى. الكشك طيب الطعم ولذيذ، إنما تلك الأغلفة المتوارية خلف خدع وضوحها تستحثّ الذهن لرسم مآلات أخرى وردف هذا الذهن المتأني بموج تلاطم التوقعات.

الغلاف في بعض مضامينه قد يكون لصاً تافهاً لا يستحث حشرية المتلقي بالحد الأدنى من السؤال، إنما بعض الأغلفة هي مثل اللص الذكي الذي لا يستجيب بيسر لحشرية المتلقي وتساؤلاته (بعض أغلفة يوسف السباعي لأعماله المنشورة عن مكتبة الخانجي أو أغلفة بعض الروايات الصادرة عن مؤسسة الأبحاث العربية). إنما في كل من الحالتين، من الممتع أن يكون المتلقي مثل محقق الشرطة الذي يجيد استجواب صورة الغلاف، وما يحايث هذه الصورة من كلمات. 
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها