الخميس 2022/03/17

آخر تحديث: 13:21 (بيروت)

أندي وارهول الصورة والمنتج... إخفاء الجنسانية كمحرّك إبداعي

الخميس 2022/03/17
أندي وارهول الصورة والمنتج... إخفاء الجنسانية كمحرّك إبداعي
لم يترفع يوماً عن المال والانتاج الآلي للفنّ
increase حجم الخط decrease
لعلّ أشدّ الإهانات التي يمكن توجيهها الى فنان، هي نعته بالتجاري. لكن ليس آندي وارهول. فالمؤسس الأبرز لحركة "البوب آرت"، لم يترفع يوماً عن المال والإنتاج الآلي للفنّ، بل وجد فيه غرض الفن نفسه. طارحاً نفسه كـ"فنانٍ تجاري"، و"آلة هدفها الإنتاج والتكرار"، أثار وارهول حفيظة زملائه من فناني الحركة الثقافية المضادة التي كانت سائدة في الستينات. وإن أردنا تصوير هذا السجال بين التيارين، كمعركة فكرية من أجل التعريف بهدف الفن للأجيال القادمة، فهي معركة كسبها وارهول بلا شك؛ عن حق أو من دونه.

يصعب تحديد الإنجاز الذي قدّمه أندي وارهول (1928-1987). فنظراً لغزارة إنتاجه في مجالاتٍ عديدة، من السينما الى الترويج الموسيقي والرسم والموضة، ارتبط إسمه بالعديد من الفنانين والمتعاونين، والتبس دوره الفعلي في عملية إنتاج كل ما حمل اسمه. لكن ذلك لا يهمّ، لأن المنتج الأهم الذي قدّمه وارهول، هو صورته. كان ذلك قبل عصر السوشال ميديا، وقبل بزوغ نموذج "المؤثر"، ذلك الذي لا نعلم ما يفعله بالضبط، لكن الجميع يلحق صيحاته.

منتج أندي وارهول ما زال قيد الاستهلاك حتى يومنا هذا، وآخر مستهلكيه منصة "نتفليكس" التي أطلقت، مؤخراً، سلسلة وثائقية مبنية على مذكرات الفنان الراحل. وقد أفردت منصة البثّ ستة أجزاء لنبش "مذكرات أندي وارهول"، والبحث بين سطور كاتبها، او بالأحرى صاحبها الذي تلاها على مسمع كاتبة ومحرّرة هي بات هاكيت، عن ملامح الذات التي خلقت الأسطورة.

على امتداد الحلقات الست، يقرأ وارهول مقاطع من مذكراته بصوته، الذي أعيد إنتاجه بواسطة برنامج ذكاء اصطناعي. بنبرته الخافتة والجامدة، يضفي صوت وارهول على المزاج العام للسلسلة شعوراً عميقاً بالوحدة والميلانكوليا، في محاولة من المنتجين لإبراز الشرخ بين الحياة الجامحة التي عاشها الفنان في العلن، بوصفه المركز النابض للمشهد الفني، وبين اغترابه الذاتي وسط الأضواء.

أما دواعي هذا الاغتراب، فهي أحادية المصدر بالنسبة لمنتج نتفليكس، ويمكن اختزالها في سببٍ واحدٍ لا ثاني له، هو جنسانية وارهول ومثليته المستترة.. الى حدّ ما. يفيض الوثائقي بتفاصيلٍ حول علاقات وارهول الحميمة برجالٍ وعشاق، في مقابل تصريحاته العلنية حول لاجنسيته وارتيابه من الجنس باعتباره "عملاً صعباً". 


في الحقيقة، لا تقدّم المذكرات أو حتى شهادات أصدقائه والمقربين، صورة دقيقة عن مدى حميمية هذه العلاقات، بالمعنى الجنسي، مركزةً على التوتر الذي ساد جنسانيته. فبين ميله للحميمية والاشباع العاطفي من جهة، وعزوفه الكاثوليكي عن كل ما يمتّ للجنس بصلة بسبب شعور دفين "بالعار" من جهة أخرى، عاش وارهول صراعاً داخلياً دفعه، بحسب النقاد، الى إدارة ظهره لحركة "الميم عين" في أشدّ لحظاتها حرجاً، أي عند تفشي وباء الإيدز.

وعليه، يستنتج الوثائقي أن حاجة وارهول إلى حجب واخفاء جنسانيته، هي الدافع المحرّك لنشاطه الابداعي، بدءاً بلوحات "الظلال" التجريدية، وصولاً الى أعمالٍ أكثر بوحاً وصراحةً كأفلامه الإيروتيكية (بلوجوب، بلو موفي). فالمسافة المتذبذبة التي اتخذها وارهول من الجنس هي نفسها المسافة التي تفصل بينه وبين موضوع فنه، أي صورته التي يقدّمها الى العالم.

لكن المفارقة هنا هي أن وارهول لم يدخل الثقافة السائدة عبر اخفاء ما هو غير مقبول اجتماعياً، وتقديم صورة منقحة لسلوكٍ منسجم مع قواعد المجتمع. بل فعل العكس تماماً، عبر تأسيسه "مصنع" الفنانين، حينما ترأس جماعة من المشاكسين الذين عرفوا بتحديهم للتابوهات الاجتماعية والجنسية بل وحتى الفنية. على حدّ تعبير أحد النقاد "لقد تمسّك وارهول بما يحمله المجتمع ضدّه، بالغ فيه، وتبناه كستايل".

هذا الانقسام في شخصية وارهول هو النقطة المحورية الأساس للسلسلة. حتى في موقفه الصريح وغير الملتبس من التماهي الرأسمالي للفنّ، وجد البعض مسحةً مقنعة من التهكم والسخرية من حال المجتمع المعاصر. رداً على نقاده الذين رأوا فيه "فناناً من دون موضوع"، معتبرين فنّه ضرباً من ضروب النصب الاستطيقي، كان وارهول يقول باقتضاب وبعض المكر "ليس لديّ ما أجيب به... إنهم على حق".

السردية التي تحيكها نتفليكس حول ذاتية "فنان علب الحساء وزجاجات الكولا"، هي سردية تستمدّ قوامها من النموذج الحداثي لسياسات الهوية. فهو بالدرجة الأولى، رجل مثلي. وبالدرجة الثانية ابن أسرة كاثوليكية. كل ما عدا ذلك لا يعني سلسلة نتفليكس، التي انشغلت في عرض تفاصيل مجهرية حول علاقاته العاطفية، وما إذا كان صديقه المقرب ينام الى جانبه أو في غرفةٍ في الطابق الرابع. في المقابل، لم يقترب الوثائقي من معالجة أسئلة مهمة حول سلطة وارهول وكيفية إدارته لمستعمرته الفنية، ولم يتناول سوى بشكل هامشي المزاعم التي تشير الى استغلاله لفنانين عملوا معه وتسلقه سلّم الشهرة على ظهورهم.

لكن هذا ليس ذنب نتفليكس وحدها. فوفق المحررة، كان وارهول يوثق سيرته الذاتية بهدف نشرها لاحقاً، وكان من اللحظة الأولى انتقائياً لما يجب أن يورده في المذكرات، وما عليه إبقاؤه خارج المعرفة العامة، كما قام لاحقاً بتعديل بعض أقواله وذكرياته. حتى في مذكراته، التي يفترض أن تكون شديدة الحميمية والصدق، كان وارهول حريصاً على الصورة التي سيعكسها، وقد قام بتلميعها أو ربما فبركتها من أجل الاستهلاك الجماهيري.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها