الثلاثاء 2022/03/15

آخر تحديث: 13:02 (بيروت)

التلوث والمناخ والبيئة.. ملتقى الكاريكاتير العربي في قضاياه الآمنة

الثلاثاء 2022/03/15
increase حجم الخط decrease
في تفجيره للضحكات الساخرة عبر رسوم مكتفية بذاتها أو مصحوبة بتعليقات إبداعية، لا يكتفي "الكاريكاتير" بما هو جمالي مجرّد كفن نقيّ، صافٍ وخالص. فهذا الفن بطبيعته الخاصة منذ نشأته، ولارتباطه بالصحف ووسائل الإعلام عادة ومن بعدها السوشيال ميديا، ليس بإمكانه في أحلك أحوال الرقابة والتضييق والملاحقة أن ينأى كليّة عن محاولة لعب دور جماهيري، وطرح قضية مشتركة، والتعبير عن الشأن العام، ليظل محتفظًا بقدر من وهجه، أو حتى ظلاله، كفن للهزل الموجّه، والتعرية، والكشف، والمصارحة، والغوص تحت الجلد، وانتقاد الأوضاع السلبية القائمة في بعض المجالات، ومن ثم الإسهام في خدمة الفرد، والمجتمع المحلي، والإنسانية.

وفي ظل تراجع الحريات في العالم العربي، وانغلاق ملاعب الكاريكاتير التاريخية الأساسية في سنوات نهضته خلال القرن الماضي، وعلى رأسها الملعب السياسي ومراجعة السلطة وتقييم الأداء الحكومي وما إلى ذلك من الميادين المحظورة حاليًا، يصير للكاريكاتير العربي الجديد اختياران؛ أولهما: التوقف والامتناع عن ممارسة فن منقوص القدرة والطاقة (جورج البهجوري نموذجًا)، وثانيهما: البحث عن بدائل للتعبير والتأثير، لا تخلو من السخرية والانتقاد وإثارة القضايا بطبيعة الحال، لكن تلك البدائل يُشترط بالضرورة أن تكون آمنة، بالمعنى الأمني الحرفي. ويضاف إلى ذلك، ما يمكن أن تقوم به معارض الكاريكاتير للفنانين الراحلين والروّاد، وكذلك المعارض الاستعادية، من دور توثيقي وتسجيلي وأرشيفي (الحفاظ على تراث الفنانين).
إلى هذا الاختيار الثاني (الثيمات المفلترة) تنتمي عشرات المعارض والتجارب الفردية والملتقيات والمهرجانات الجماعية، المحلية والعربية، التي يجري تنظيمها وتشترك فيها مصر وفنانوها مع نظرائهم العرب في هذه المرحلة، وأحدثها "الملتقى العربي للكاريكاتير" في دار الأوبرا المصرية بالقاهرة (مارس/ آذار 2022) بقضاياه البيئية التي يناقشها. ومن نماذج المعارض السابقة: رمضانيات، أزمة كورونا، خروف العيد، البدانة، لا للتحرش، وغيرها من العناوين ذات الطابع العائلي والاجتماعي والاحتفالي.

يمضي "الملتقى العربي للكاريكاتير"، كما يوضح الفنان المصري عماد جمعة، مدير الملتقى، لـ"المدن"، في أكثر من مسار، بمشاركة قرابة مئة فنان مصري وعربي. فهناك محور أساس يعالج فيه الفنانون المشاركون برسومهم الحديثة القضايا البيئية الملحّة، كالتلوث بأشكاله المختلفة، والتغيرات المناخية، والاحتباس الحراري، والمخاطر التي تهدد البشرية والعالم في هذا السياق.

وهناك محور "البورتريهات"، التي يرسمها الفنانون المشاركون لضيف شرف الملتقى الفنان الأرمني المصري الرائد صاروخان (1898-1977)، إحياء لذكراه، واعترافًا بفضله، وتحية لتجربته الزاخمة في الكاريكاتير على مدار أكثر من نصف قرن. 

كما يهتم الملتقى في محور ثالث بالحفاظ على تراث فن الكاريكاتير، وذلك بعرض مجموعة من أعمال الفنانين الآباء والروّاد الأصلية، التي يُعرض بعضها للمرة الأولى. ومن هؤلاء الفنانين، إلى جانب ضيف الشرف صاروخان: عبد المنعم رخا (أبو الكاريكاتير المصري)، طوغان، حجازي، صلاح جاهين، بهجت عثمان، زهدي العدوي، مصطفى حسين، وغيرهم. ويتوازى ذلك مع تكريم الملتقى عددًا من كبار الفنانين، منهم أيضًا صاروخان، فرج حسن، حسن المصري.

وإن ما يستدعي التركيز في هذا المقام، وسط الأدوار والجهود الطيّبة، الفنية والتاريخية، التي يضطلع بها الملتقى، هو عنوانه الرئيسي الذي تنتظم تحته أعمال الفنانين العرب، المعاصرين والجدد. هذا العنوان، الذي لا يتجاوز خطًّا أحمر في مصر والدول العربية المشاركة كما هو متفق عليه، هو "أزمة البيئة"، إذ تسمح هذه اللحظة للكاريكاتير (فن الانفلات والمشاكسة والجرأة والتمرد) بأن يتحول إلى تلك القضايا ذات الطابع الإنساني، وأن ينهض رسام الكاريكاتير؛ مثلما يضيف الفنان عماد جمعة، بدور يتمثل في "خدمة المجتمع العالمي بالتعبير بالريشة والأفكار عن خطورة التغيرات المناخية التي أصبحت تهدد الكرة الأرضية، وتنذر باختفاء مدن بأكملها حول العالم".

من أبرز الفنانين المعاصرين المشاركين: فوزي مرسي، فرج حسن، سارة نويجي، سعيد أبو العينين، حسن فاروق، عبد الرحمن بكر، أحمد علوي، حسني عباس، شيماء الشريف، خالد المرصفي، أنس الديب، مصطفى الشيخ، هاني طلبة، هيكا الشيخ (من مصر): جبار صابر قادر، أركان الزيدي، قاسم قبلان (العراق)، أحمد خبالي، الناجي بن ناجي (المغرب)، العجيلي العبيدي، عبد الحليم القماطي (ليبيا)، أمين الحبارة (السعودية)، سامي المك (السودان)، صخراوي طارق (الجزائر). 

واللافت للانتباه في أعمال الفنانين المعاصرين والجدد، أنها ملتزمة بموضوع الملتقى على نحو مباشر، إذ لم تتخذ الرسوم الكاريكاتيرية ثيمة التدهور البيئي غطاءً مثلًا أو رمزًا أو قناعًا للإسقاط على تدهور آخر أو التلميح إلى كوارث أكثر ضراوة تهدد المجتمعات العربية، أو توجيه رسائل ضمنية تحيل إلى المسكوت عنه والممنوع الاقتراب منه، مثلما تفعل فنون أخرى مثل المسرح مثلًا، الذي يلجأ كثيرًا إلى التاريخ والرموز والأقنعة للإسقاط على الحاضر. وهذا يعني ببساطة أن رسامي الكاريكاتير أنفسهم لديهم قناعة تامة بأن فنّهم لا يضيره أن يقتصر أحيانًا على إدهاشه الجمالي وتوجهاته الاجتماعية والإنسانية المتزنة المنضبطة.

ولعلّ ما يطرحه الفنانون من أفكار مبتكرة ولمحات ذكية ومهارات تعبيرية وتصويرية وتقنيات جديدة في التناول والمعالجة لهذه القضايا البيئية هو نوع من التعويض عن السخونة والحدّة والجسارة والفوران التي كانت معتادة في الكاريكاتير السياسي والانتقادي الصارخ في عهود سابقة، إذ تبدو الأعمال الجديدة أقرب إلى التابلوهات الفنية التشكيلية التي تتقصى بعمق واصطبار جذور الأزمة البيئية، ومسبباتها، وظواهرها، وانعكاساتها على البشر والحياة فوق الأرض.

وفي هذه الأعمال الكاريكاتيرية الجديدة، المحتفية بالفكرة والصورة والألوان، يقل الاعتماد على العبارات المصاحبة والمفردات الشارحة، وتتولد السخرية والابتسامة ليس من التضخيم والتقزيم المبالغ فيهما، وإنما من الحالات والمواقف الدرامية، والمفارقات المشهدية الطازجة، الباعثة على التأمل والخيال، والمخالفة لأفق التوقع المألوف. 

من ذلك، على سبيل المثال، ما يطرحه المصري فوزي مرسي من اغتيال الأشجار بفأس كبيرة في يد البشرية الحديثة المتمدينة، وما يتناوله المغربي أحمد خبالي من هجوم وحش التلوث على آخر لوحات الطبيعة في هذا العالم، وفنانها الهارب من الطوفان، وما يصوّره العراقي أركان الزيدي من خريطة سوداء جديدة لقارّات العالم، رسمتها الأدخنة والعوادم فوق رؤوس الأشجار المقطوعة.

من ذلك أيضًا، ما توضحه المصرية أماني الشيخ من جرائم الدول الصناعية في حق الدول النامية في ما يتعلق بالتلوث والنفايات والانبعاث الدخاني والسحب السوداء والاحتباس الحراري، وما يبرزه المغربي الناجي بن ناجي من تشقق الأرض والبشر معًا بسبب ندرة الماء وتغوّل العطش، وغيرها من الرسوم الدالّة فنيًّا، والواعية معرفيًّا. فهل يجد الكاريكاتير العربي ضالته، ويستقطب جمهوره الجديد بطرحه الهادئ، وأبجدياته المغايرة، تحت وطأة المحنة التعبيرية الخانقة؟
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها