الخميس 2022/03/10

آخر تحديث: 13:43 (بيروت)

هل يمكن لناشر أن يصنع كاتباً؟

الخميس 2022/03/10
هل يمكن لناشر أن يصنع كاتباً؟
المحرّر الأدبي الأميركي ماكسويل بيركينز
increase حجم الخط decrease
عَملُ المحرّر الأدبي (Literary Editor) في دور النشر هو مساعدة الكاتب على إخراج كتابه في أفضل شكل. ويُقال إن محرّراً أدبياً جيداً يمكنه أن يجعلك كاتباً أفضل، وأن محرّراً سيئاً يمكن أن يحطّم مستقبلك الأدبي.

لكن، هل لدينا محرّرون أدبيون في دور النشر العربية؟ الجواب المختصر هو: لا. ربّما من المفيد هنا توضيح وظيفة المحرّر الأدبي ودوره. معظم دور النشر الغربية تُوظّف لديها محرّرين أدبيين مهمّتهم اختيار أفضل ما يأتيهم من مخطوطات (عادةً 5% من مجموع ما يصل الدار)، ثم تنقيحها وتشذيبها. بعد عملية الاختيار، يعمل المحرّر بشكل وثيق مع الكاتب سعيد الحظ وأقسام دار النشر على تحرير وتنقيح العمل الفنّي حتى يصل إلى صيغة مثالية بالنسبة إلى الجميع. كمثال، يمرّ التحرير الأدبي لعمل روائي بثلاث مراحل: المرحلة الأولى، ما يُسَمّى بالتحرير التطويري (Developmental Edit). هذا المستوى من التحرير يعالج فيه المحرّر (عادة بالتعاون مع الكاتب) العناصر الفنّية للمخطوطة من الحبكة، تطوّر الشخصيات، الزمن الروائي، وجهات النظر الروائية، الأحداث والأفكار، الخ… المرحلة الثانية، ما يُسمّى بالتحرير السطري (Line Edit)، يعمل فيه المحرّر على التأكد من صحة المعلومات العامة في الرواية، وتسلسل الأحداث والمقاطع والفصول وسلامة الأسلوب والتراكيب بشكل عام. المستوى الثالث الأخير، ما يُسمّى بالتحرير اللغوي (Proofreading)، وفيه يتم التأكد من خلو النص الأدبي من الأخطاء اللغوية والإعرابية والعناية بعلامات الترقيم. معظم دور النشر العربية تُجري على مخطوطاتها قبل نشرها المرحلة الثالثة الأخيرة فقط من التحرير، أي التدقيق اللغوي الإعرابي. المرحلة الأولى والثانية من عمل المحرّر الأدبي شبه غائبَيْن لدينا. السبب ببساطة لأن دور النشر العربية لا توظّف لديها محرّرين أدبيين بالمعنى المذكور أعلاه، بل مجرّد مدققين لغويين.


(حنان الشيخ)

ليس الغرض هنا كتابة مقال نقدي عن دور النشر العربية. غياب المحرّر الأدبي العربي له أسباب عديدة، بعضها مفهوم حتى. العوامل الاقتصادية والثقافية والسياسية لا تُساعد دور النشر على التمأسس بعيداً من الفردية، وبناء مؤسسة ثقافية تجارية ربحية سليمة. وبالتأكيد الكاتب العربي يتحمّل أيضاً جزءاً من المسؤولية في هذا السياق. هل من الممكن مثلاً مناقشة روائي عربي بسهولة (عدا عن إقناعه) بضرورة حذف ثلاثة فصول من روايته المفرطة في الحشو، وتعميق مسار بعض الشخصيات الباهتة فيها أو تغيير بعض الأحداث فيها؟ يمكن أن نتفّق على صعوبة ذلك بشكل عام (يحدث أحياناً. مثلاً، مرّة قرأتُ على ما أذكر مقابلة للروائية حنان الشيخ، تعترف فيها بحذف 60 صفحة من مخطوطة لها باقتراح من دار الآداب). اقتراحات كهذه من حذف وإضافة وتغييرات في بنية النص، هو بالضبط ما يحصل بين المحرّرين الأدبيين والكتّاب في معظم دور النشر الغربية، من دون استثناء الأسماء الأدبية الكبيرة، وثمة أمثلة شهيرة على ذلك.

من أشهر الأمثلة المعروفة، المحرّر الأدبي الأميركي، ماكسويل بيركينز، الذي يُنسب إليه الفضل في اكتشاف إرنست همنغواي وسكوت فيتزجيرالد وتوماس وولف والتأثير في كتاباتهم. كثير من النقّاد ينسبون نجاح رواية فيتزجيرالد "غاتسبي العظيم"، إحدى كلاسيكيات الأدب الأميركي، إلى التنقيحات والتحسينات الكثيرة التي أدخلها بيركينز على الرواية. بيركينز كان له دور كبير أيضاً في تحرير كتابات همنغنواي، كما استطاع إقناع الروائي الصعب توماس وولف حذف تسعين ألف كلمة (أي أكثر من 300 صفحة) من المسودة الأخيرة لروايته "أيها الملاك، تطلّع باتجاه بيتك". في الضفة الأخرى، لو توفّر لفلوبير محرّر أدبي مثل بيركينز، لما كان على الأغلب أعطى لإيما بطلة روايته "مدام بوفاري" ثلاثة ألوان مختلفة لعينَيها في الرواية نفسها. بعض الكتّاب يقدّر الدور الكبير الخفي الذي يلعبه المحرّر الأدبي في تحسين وتطوير نتاجهم. الكاتبة التركية، إليف شافاق، لا تتوانى في الكثير من مقدمات رواياتها من توجيه الشكر إلى محرّرها الأدبي. قد يكون المحرّر أحياناً من أهل البيت. الروائي البريطاني-الياباني الحائز نوبل كازو إيشيغورو، يتحدّث كثيراً عن الدور الكبير لزوجته في تحرير مخطوطاته. عندما سلّم الصفحات الأولى من روايته "العملاق المدفون" إلى زوجته لقراءتها، أعادتْ إليه الصفحات وطلبتْ منه إعادة كتابة كل ما كتبَه من جديد بسبب رداءة ما قرأتْه. وهكذا كان.


(غوردون ليش)

الحقيقة، أن فكرة كتابة هذا المقال تشكّلت في رأسي بعد انتهائي منذ فترة من قراءة الأعمال القصصية الكاملة للكاتب الأميركي ريموند كارفر. كارفر أحد الأيقونات الأدبية الأميركية، وأحد أهم كتّاب القصة القصيرة الأميركية والعالمية في القرن العشرين. أثناء قراءتي لقصص من مجموعته الثانية المعنونة "عمّ نتحدث حين نتحدث عن الحب"، وقعتُ على مقال يتحدّث عن علاقة كارفر بمحرّره الأدبي الشهير غوردون ليش. كان كارفر في بداية الستينات كاتباً مغموراً وأباً لطفلين يعمل في وظائف مؤقتة تكفي بالكاد لسدّ رمق عائلته. كان كحولياً وغارقاً في الديون والمشاكل القانونية. خلال عمله في إحدى دور النشر الصغيرة، التقى كارفر بغوردون ليش. نشأت صداقة بين الرجلين. أُعجب ليش ببعض قصص كارفر وشجعه على الانغماس أكثر في الكتابة. في العام 1969، أصبح ليش المحرّر الأدبي لمجلة "إسكواير" الهامة، وبدأ ينشر قصصاً لصديقه كارفر. كان ليش ينشر قصص كارفر بعد تنقيحها بشكل كبير. يحذف في قصص كارفر ويختصرها حتى تصبح هيكلاً عظمياً للقصة الأصلية. بسبب تنقيح ليش الاختزالي، بدأ أسلوب كارفر يُعرف منذ تلك الفترة بما سُمّي بـ"الأسلوب التقليلي Minimalism". في البداية، وغالباً تحت ضغط الرغبة في النشر، لم يمانع كارفر تنقيحات ليش الراديكالية. هكذا نشر كارفر مجموعته الأولى "هلّا هدأت من فضلك" العام 1976. قصص المجموعة بأسلوبها التقليلي كانت خضعت جميعها لمقص ليش التحريري. بعد النشر، نجحت مجموعة كارفر نقدياً، وخطّتْ بداية جديدة لحياة كارفر الأدبية الشخصية. في هذه الفترة، انتقل غوردون ليش للعمل كمحرّر أدبي لدار نشر "كنوبف". في دار النشر الجديدة، وقّع ليش عقداً مع صديقه كارفر لنشر مجموعته الثانية "عمّ نتحدث حين نتحدث عن الحب" ونُشرت المجموعة العام 1981. نشر الصحفي د.ت.ماكس في مجلة "تايمز" بعد عشر سنوات من وفاة كارفر، مقالاً مطولاً عن العلاقة التحريرية الخفية بين كارفر وليش، والتي رافقت نشر مجموعة كارفر الثانية. قام ليش بتقليم المخطوطة التي بعثها له كارفر بطريقة دراكونية. على دفعتين، حذف غوردن أكثر من نصف ما كتبه كارفر!

بمساعدة زوجة كارفر الثانية، استطاع باحثون أكاديميون الحصول على المخطوطة الأصلية لـ"عمّ نتحدث حين نتحدث عن الحب". القصص كما كتبها كارفر في الأصل. نُشرتْ المخطوطة الأصلية (إلى جانب المخطوطة المنَقّحة) كما هي ضمن الأعمال القصصية الكاملة لكارفر بعنوانها الأصلي: "بدايات". هكذا تسنّت لي مقارنة المجموعة قبل تنقيح غوردون ("بدايات") مع المجموعة كما نُشرتْ بعد التنقيح ("عمّ نتحدث…")، جملة جملة، ومقطعاً مقطعاً. صدمني مقدار التغيير الذي ألحقه غوردون بقصص كارفر الأصلية. مقصلة حقيقية أسقطها غوردن على فنّ كارفر. إحدى القصص، اختصرَها ليش من 37 صفحة إلى 12 صفحة. قصة أخرى من 26 صفحة، اُختصرتْ إلى 14 صفحة. قصة ثالثة من 15 صفحة، اختصرها ليش إلى خمس صفحات فقط. رابعة من 33 صفحة إلى 19. غيّر ليش العديد من عناوين القصص، اختصر في الحبكة، حذف مشاهد كاملة، غيّر في ترتيب بعض المقاطع بشكل دراماتيكي. إحدى القصص حُذف قسم كبير من قسمها الثاني، وتغيّرت معها النهاية.

حتى كارفر الذي كان مطواعاً دائماً أمام سطوة غوردون التحريرية راعه "التشويه" الذي أصاب مجموعته. عندما وصلتْه النسخة الأخيرة المنقحة ما قبل النشر، كتب رسالة إلى غوردون يستحلفه باسم الصداقة والفنّ أن لا ينشر المجموعة كما هي. رجاه أن ينتظر. أن يتناقشا في الأمر. غوردون لم يلن ولم يتراجع. وفي النهاية نُشرت مجموعة كارفر الثانية بالشكل الذي أراده غوردون وحقّقتْ فوراً نجاحاً نقدياً وشعبياً كبيراً. كتبَ النقّاد بأن كارفر خلق أسلوباً فنياً خاصاً به. مدح النقّاد لغة كارفر المكثفة. صمته المعبّر. التوتّر اللغوي الذي يشدّ عصب قصصه. التوتّر الذي لم يخلقه كارفر، بل محرّره غوردون ليش.

بحسب زوجة كارفر الثانية، الكاتبة تيس غالاغير، غرق كارفر في نشوة نجاحه الأدبي، لكن مشاعره ظلّت لفترة طويلة متناقضة صوب هذا النجاح. في مكان ما داخله، كان يشعر بأن نجاح المجموعة ونجاحه ليس ملكه وحده. ضميره الإبداعي لم يكن مرتاحاً تماماً لما حدث. مع ذلك التصق به منذ ذلك الوقت لقب "الكاتب ذي الأسلوب التقليلي". منذ ذلك الوقت والنقّاد يمتدحون اختزالية ريموند كارفر وبساطة لغته.


(ريمون كارفر)

هل ريموند كارفر صنيعة محرّره غوردون ليش، أم صنيعة عبقريته الإبداعية الذاتية؟ كُتب الكثير حول هذا الموضوع. بالنسبة إلي، وجدتُ الإجابة عندما قرأتُ مجموعة كارفر الثالثة "كاتدرائية". بعد نجاحه الأدبي، وبعد مجموعته الثانية، قرّر كارفر الابتعاد عن ليش غوردون، ساعده في ذلك ازدياد ثقته بنفسه. أراد ربّما امتحان نفسه. وكتبَ مجموعة "كاتدرائية" كما أراد، ونشرها العام 1983 من دون تدخّل غوردون ليش ومقصه التحريري. المجموعة ذات نفس سردي أطول بكثير من سابقاتها. سمح كارفر لاستطراد مُخطَّط له أن يظهر. الوصف أقل تقشفّاً. هذه مجموعة تخصّ كارفر بأكملها، وهي مجموعة جميلة جداً. مجموعة ناضجة. مجموعة لم ينقص غياب غوردون عنها من فنيّتها. كارفر على الأغلب استفاد كثيراً من محرّره السابق، تعلّم منه، لكنه كان كاتباً كبيراً من دون غوردون.

لا يمكن إنكار فضل التحرير الأدبي على جودة الأدب، مهما كان الكاتب الأديب متمكّناً من العملية الأبداعية. غياب المحرّر الأدبي العربي خسارة كبيرة. غياب يحرم الكاتب العربي من عامل مُساعد مهم جداً يمكن أن يساهم في تحسين وتشذيب الكتابة العربية بجميع أشكالها، ووضعها على سويّة واحدة من الكتابات العالمية. المحرّر الأدبي ضرورة مهنية، لكنه في المقام الأهم ضرورة فنية من صلب طبيعة الكتابة نفسها. وكل من يُمارس فعل الكتابة يعلم صعوبة تنقيح الكاتب الذاتي لنصوصه. أعلم ذلك من تجربتي الشخصية. مهما كان الكاتب مهووساً ودقيقاً، قربُه والتصاقه من نصّه يقف حاجزاً بينه وبين قدرته على رؤية عيوب وثقوب نصه الخاص. العين الثالثة، كما يُقال، تستطيع أن تكتشف ما لا يستطيعه انحيازنا الذاتي لنصّنا. هناك نصحية أدبية شهيرة، قديمة ومتجدّدة دائماً، تُنسب إلى غينسبرغ وفوكنر وستيفن كينغ، وقبلهم إلى أوسكار وايلد وتشيخوف، تقول النصيحة: "في الكتابة عليك أن تقتل أعزّ ما لديك". يُقصد بها بأن أفضل ما يمكن أن يفعله كاتب بعد الانتهاء من نص له هو حذف الكثير من الكلمات والجمل والمقاطع، حتى تلك التي يعتقد الكاتب أنها أجمل ما في النصّ. الحذف من أصعب ما يمكن أن يقوم به كاتب على نصّه الشخصي. والرواية العربية تحتاج إلى نصيحة دموية كهذه. عملية قتل تحريرية كهذه لا يستطيع القيام بها سوى محرّر أدبي صادق.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها