الثلاثاء 2022/02/08

آخر تحديث: 13:27 (بيروت)

تاكسي وماركات ونذور في شوارع بيروت

الثلاثاء 2022/02/08
تاكسي وماركات ونذور في شوارع بيروت
increase حجم الخط decrease
في أحد الأيام أوقفت أول سيارة تاكسي صادفتها، وكان السائق "يُوتِّس" على هاتفه النقّال. ما إن صعدت وقلت له إنّي في وضعية السرفيس كراكب وليس تاكسي، أفلت هاتفه من يده وقال: أنا لا أقود فيتاس عادي، لكن ابن الحرام صاحب السيارة التي أستأجرها يومياً منه، حسدني في اليوم الذي أكملت له دفع ما يستحق عليّ من مدفوعات إليه، فتعطل فيتاس الأوتوماتيك؛ وعندما حاولنا رفعها على الرافعة المتخصصة في نقل السيارات تضرّرت التربيعة؛ وعندما حاول صديقي الميكانسيان زحزحتها من مكانها انقطع أنبوب الزيت، والأضرار لا تُعدّ ولا تُحصى... فوجئت من درامية روايته التي تشبه دراميات إغريقية لشدّة مأساويتها؛ وسألته ببرودة أعصاب قلّ نظيرها: عندي، هل ترغب أن أساعدك في أي شيء؟ لا عليك، أطلب وأنا جاهز للسداد. جوابه كان: لا عليك يا حاج، حاشى قيمتك وسلامة خيرك، فأنا مدّخر للمال وأقتني سيارة غولف فيتاس عادي، إلاّ أنّي لا أستعملها في زحمة سير بيروت، فهي للقرية، ذلك أن تغيير الفيتاس مرهق في شوارع العاصمة.. قطعنا حاجزاً، وقال لي بجرأة الواثق من سؤاله: يا حاج لو أن غريباً في المهجر قرّر أن يَفي نذراً عن روح أحد يخصّه وتكفلت أنا بهذا النذر، هل يجوز ذلك؟ قلت له: عليك أن تسأل مولانا، قاصداً صديقي الذي أكنّيه بهذه الكنية على سبيل الدعابة في ما بيننا، إلاّ أنّي لم أوضح له قصدي. عندها، صارحني أن شخصاً في الخارج، إحدى قريباته، تريد دفع "فدى" عن روح والدها، وأسرّ لي أنها من نصيبه بإذن الله. فقلت له: أعذر جهلي في هذه الأمور، فأنا من الديانة المسيحية الكريمة، وأخرجتُ من جيبي مبلغ ثلاثة آلاف ليرة بدلاً من ألفين كأجرة سرفيس. رفض في البداية أخذ المبلغ قائلاً: دع توصيلتك عليّ ولا أريد أخذ أجرة منك، فقلت له: أبداً، المهم أن تدفع لزوم وفائك لنذرك؛ عندها أخذ المال وفتح من فوره جيباً في السيارة في مواجهة مبدّل سرعة السيارة. وتظاهرتُ بوصولي إلى مقصدي، معلّلاً نزولي من سرفيسه قبل وجهتي التي صرّحت له بها، بأني أود زيارة صديق لي قبل أن تبدأ الاحتفالية بذكرى ولادة أحد أنبيائكم عليهم الصلاة والسلام. فحيّاني قائلاً: أكثر الله من أمثالك، فأنت رجل مثالي مؤمن بصرف النظر عن طائفتك أو دينك. شكرتُ كرم أخلاقه وعرّجت على بسطة خضار، شاغلاً نفسي بها ريثما يُكمل سيْره منتظراً أن تفتح الإشارة.
***

ذات مرّة أخذت بعض الحاجيات من أوراق وكتب وأوقفت سرفيساً. فور جلوسي في المقعد بجانبه، وكان في ريعان الشباب، أقفل سائق السيارة سقّاط الباب وزجاج السيارة وبدأ بالحديث وفي يده فنجان من القهوة الرخيصة. وإذ حكى بلهجة تجمع بين أربع أو خمس لهجات لا أعرف إن كانت من بلدان الجوار القريبة أو البعيدة، تساءل عن خلوّ الطرق من المارة والسيارات: هل اليوم يوم عطلة؟ عادة نمكث هنا لدقائق معدودة ريثما يتحرك السير، مضيفاً أن النهار أشرف على نهايته وهو لم يَجنِ سوى ثلاثة أو أربعة آلاف ليرة، والأوضاع ما عادت تُطاق.. كان يتكلم بعصبية. قلت في سريرتي: ما هو حال الجنس اللطيف مع هكذا سائقين؟ ضقت ذرعاً به وبعنفه الظاهر، وطالبته ببرودة أعصاب أن يشق زجاج السيارة قليلاً، وبدأت ملامح الاختناق تظهر عليّ من خلال سعالي الذي لم يتوقف؛ شقّ الشباك قليلاً؛ طالبته بالمزيد، لكنه لم يستجب إلاّ بعدما أصبحنا في الزحام. شكرتُ الله أن في جيبي ألفي ليرة فراطة، وإلاّ كان سيأخذ كلّ ما أعطيه من عُملة نقدية مهما علا شأن قيمتها. ترجّلت قبل وصولي إلى وجهتي، وتابعت مشياً على قدميّ.
***

في إحدى المرّات، وكانت كل ثيابي يلزمها الغسيل، لم يبقَ أي شيء أمامي لارتدائه سوى قميص وبنطال رسمي كنت أكره ارتداءهما لرسميتهما الظاهرة؛ فكنت كلّما أوقف سرفيساً أو تمر أمامي سيارة أجرة، يرفع السائق عقيرته ويقول لي: "تاكسي"، وبطريقة تكاد تصل إلى حد الاستفزاز، إلى أن مرّت سيارة فيها سائق كهل، سيارته بطيئة بفعل حالتها المهترئة. سألني عن وجهتي، فأجبته، فقال: إنتظرني ريثما أدوّر باتجاهك؛ وبالفعل أوصلني إلى وجهتي. وعندما ناولته ألفي ليرة صرخ في وجهي: أبداً، عليك أن تدفع أجرة تاكسي. قلت له: يا سيدي... وأخرجت ما معي من مبلغ لم يتجاوز الستة آلاف ليرة، لم تستغرق الطريق إلى وجهتي سوى دقيقتين، مع ذلك لك أربعة آلاف، واترك معي أجرة العودة إلى المنزل، فنهرني وطردني بعدما شتم الزبائن أمثالي.
***

ذات مرّة أهداني صديق لي، جاكيت Levis كان يرتديها، كذكرى منه؛ جلبت لي التعاسة فرميتها في مستوعب النفايات لكثرة ما كان سائقو التاكسي يزعقون في وجهي وأنا أرتديها، مع محفظة على الكتف. "تاكسي أستاذ". اللعنة على صديقي وعلى الماركات وعلى كل اللبنانيين والأزياء والموضة... هذا إضافة إلى الزبائن الذين يبحثون عن هذه الماركة بالذات، والتي علمت في ما بعد أنه ممنوع تصديرها إلى لبنان ليهودية صاحبها، كما قيل لي.
حدّثت صديقي بما يجري معي، فقال لي: كل ذلك بسبب الماركات التي ترتديها، فقلت له: لقد رميتها كلّها، فقال: لماذا رميتها؟ قدّمها لمَن هو محتاج، فقلت له إنّي أردت تخفيف الأعباء عمّن سأهبهم إياها، فمصيرهم معها سيكون مثل مصيري.. لكن هل تعتقد أن الثياب الرثّة تنجيك؟ بالأمس ارتديت ملابسي الرثّة وذهبت لزيارة مستأجر قديم في مُلكٍ ورثناه متهالكاً، وهو من الأجداد والآباء، ولا ينفع للسكن الآدمي، فاعتبرني رجلاً بسيطاً بإمكانه رشوتي بثياب مستعملة، وأقام معي حواراً لطيفاً مضمراً لأجل السماح له بالإقامة في المنزل دون دفع أجرة. ذُهِل صديقي، وقال لي مثلما اعتاد أحدهم أن يقول لي كلّما ذكرتُ له أمثلة مشابهة: إنها أحداث غريبة عجيبة لا تقع إلا للغريبين أمثالك. ضحكتُ من هذا التقاطع في سرّي، وقلت له: أنا أدقّق وألاحظ، بينما أنتم لا تعيرون الأمر أيّ أهمية، أتعلَم ماذا فعل صديقنا "التكناسيان" في المنازل، والذي أعرفه منذ أكثر من عشر سنوات، وأعرف أنه يملك مالاً وفيراً رغم تمثيلياته أمامي بأنه لا يتقاضى أي مبالغ إضافية زيادة على نصف الراتب من المؤسسة التي طُرِد منها أخيراً؟ هل تعرف ماذا يملك؟ لقد حقّق مستقبلاً باهراً بمقاييس الشطارة اللبنانية: منزلان وسيارة حديثة وتعليم لأولاده، رغم بُخله ومَسكَنته إلا أنه لص حاول تخريب أشياء في غرفتي، وهو الذي أتى ليصلح شيئاً واحداً فقط، وذلك كي يزورني باستمرار أنا الذي لا أملك قوت يومي، وإن ملكته فهو غير مضمون في المقبل من الأيام.. أتعلَم، عرضتُ عليه على سبيل التهكم أن أشتري له كنبة ليقيم عندي، كي يجري التصليحات التي يجدها مناسبة كلّما عنّ له أن يأخذ منّي المال، تماماً مثل العامل الذي كان يقترح عليّ كل يوم إصلاح عطل في الخزّان، خزّان مياه غرفتي، علماً أن لا مياه تأتي إلى الخزّان ولا إلى غرفتي منذ سكنت فيها، إلى أن فجَّرت فيه كل غيظي الذي كتمته طيلة أشهر.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها

الكاتب

مقالات أخرى للكاتب