السبت 2022/02/26

آخر تحديث: 12:35 (بيروت)

أغلفة حلمي التوني.. مرح الألوان وطفولة الحس الشعبي

السبت 2022/02/26
increase حجم الخط decrease
(*) مقالة للزميل شريف الشافعي، عن الفنان حلمي التوني، من ضمن ملف عن ثقافة أغلفة الكتب وفنونها، معانيها وتأويلاتها، وتأتي بعد شهادة للكاتب والناشر السوري فايز علام عن تجربته في "دار سرد"، ومقالة أسامة فاروق عن الفنان محيي الدين اللباد
ليست أغلفة الكتب والمجلات والأسطوانات وغيرها من الإصدارات مجرد عوامل بصرية جاذبة أو مرايا عاكسة أو عتبات أوّلية إشارية يتجاوزها المتلقي سريعًا إلى المحتوى الذي تومئ إليه. وإنما تمثّل الأغلفة، في تجارب المصممين النابهين، نصوصًا تشكيلية موازية، مستقلة بحمولتها الوافية من الدهشة التعبيرية ومكتفية بذاتها من جهة، ومتفاعلة من جانب آخر مع المحتوى الداخلي الذي تطرحه  الإصدارات، وتلك هي المعادلة الصعبة.

لا تخطئ العين المدرّبة الأغلفة التي أنجزها حلمي التوني خلال مسيرته الطويلة، على غزارتها وتنوعها، إذ بلغت بضعة آلاف بين أغلفة روايات وقصص وأبحاث ومؤلفات إنسانية وتاريخية وتراثية وموسيقية وحكايات للأطفال وأسطوانات فنية وغيرها. فما قدّمه، ويقدّمه، التشكيلي المصري المخضرم (88 عامًا) للمكتبة العربية في هذا المضمار، لا ينفصل في حقيقة الأمر عما يطرحه في معارضه المتتالية من لوحات تصويرية وبورتريهات وتشكيلات، وهو في حالاته جميعًا وثيماته وأنساقه الإبداعية المتعددة، صاحب بصمة مميزة، من حيث الرؤية والفلسفة والأفكار والأسلوب والأداء والعناصر والنكهة.

لو لم تكن شخصية التوني الفنية بهذا الوضوح، وهذا القدر من التحقق والرسوخ، لكانت قد تأثرت أو شابتها تغيرات وتحورات في محطات الاختبارات الصعبة، ومنها مثلًا اضطلاعه بتنفيذ أغلفة أكثر من خمسين رواية لنجيب محفوظ في الفترة التي حصلت فيها دار "الشروق" على حقوق نشر هذه الأعمال، إذ خاض التوني المغامرة بتكنيكه الطفولي الخاص وروحه المرحة وألوانه الصاخبة المتدفقة وموسيقاه الانسيابية وحسه الشعبي، من دون انسياق وراء الحدّة المحفوظية والضوابط الإطارية والمقاسات الشكلانية، خصوصًا في الأعمال الواقعية، ومن دون حتى الاقتراب من المنهج التشخيصي التجسيدي، الذي ساد أغلفة محفوظ الصادرة في وقت سابق عن "مكتبة مصر"، بريشة الرسّام جمال قطب.

وقد اعتاد التوني تجاوز هذه المطبّات بحماسة الفنان الواعي، وقلب المشاغب اللاهي، الذي يستقي إلهاماته من التدفقات العفوية واللعب واللاوعي البريء. ومن اختبارات الأغلفة الوعرة كذلك في رحلة تحدّياته، عندما اتصل به صلاح جاهين في ستينيات القرن الماضي ليطلب منه تصميم غلاف أسطوانة أوبريت "الليلة الكبيرة" الشهير، الذي كتبه جاهين ولحّنه سيد مكاوي، وساعتها استشعر التوني الحرج البالغ من جاهين الرسّام المرموق، متعجّبًا من أن الشاعر الفذ لم يرسم بضاعته، لكن جاهين حسم الأمر "إنت هترسمها أحسن مني!".

وبالفعل، حققت خلطة التوني السحرية، وخطوطه الراقصة، والتصميم الأخّاذ الذي صوّر فيه الفتاة والأرجوحة والأراجوز والأعلام والأضواء، نجاحًا كبيرًا، وأسهم الغلاف المشاغب في انتشار "الليلة الكبيرة" على نطاق واسع خارج مصر. كما أن هذه الأسطوانة، مثلما حكى التوني على صفحته بالفيسبوك، صارت لفترة طويلة جواز سفر له في لبنان ودول عربية أخرى.

إن أغلفة حلمي التوني، هي صوته الفني المكتمل المجرّد، الذي يعرف التحاور والتفاعل مع إبداعات الآخرين، لكنه لا يرتضي أبدًا بالتبعية، ولا يكتفي بأن يكون ناقلًا أو مُترجِمًا. وانطلاقًا من هذه الخصوصية، وذلك الاستغناء، صاحبت رسومه إصدارات قائمة عريضة يصعب حصرها من المؤلفين، منهم: توفيق الحكيم، نجيب محفوظ، يوسف إدريس، فتحي غانم، يعقوب الشاروني، نوال السعداوي، محمد البساطي، رضوى عاشور، حسين أحمد أمين، جميل عطية إبراهيم، هاني حمزة، أحمد بهجت، وغيرهم. والمثير أن التوني ظل دائمًا محتفظًا في رسومه بمقوّمات شخصيته، وملامح منظومته الفنية بكل ما فيها من رؤية وفلسفة وأسلوب وأداء ومفردات دالة عليه، وذلك على الرغم من اختلاف مجالات هؤلاء المؤلفين، وتباين أجيالهم وتياراتهم، وتنوّع موضوعات أعمالهم، وتفاوت جمهورهم بين النخبويين والعموم، والكبار والصغار. 

تحمل أغلفة حلمي التوني، شأنها شأن أعماله التشكيلية جميعًا، حلمًا باستعادة الهوية المصرية، والاستغراق في البيئة المحلية، واستحضار الأيقونات الموروثة والجذور الشعبية والفلكلورية، في صيرورتها الحياتية وتجلياتها الآنية. هذه الهوية هي ليست تجميعًا لصور جوفاء، وإنما محصّلة جُملة من العادات والتقاليد والممارسات في الملبس والمأكل والمشرب والاحتفالات والأعياد والمناسبات الاجتماعية والطقوس الدينية. وهي كذلك هوية بصرية، لذاكرة بلد يُنتج الفنون التشكيلية على امتداد الحضارات؛ الفرعونية والرومانية والقبطية والإسلامية العربية. وللأسطورة ما لها أيضًا في إثبات هذه الهوية، والثقافة الشفاهية، والسير والملاحم والحكايات البطولية. 

من هذه التوليفة المتشابكة، تأتي صياغة التوني لنساء روايات محفوظ، كشهرازد على سريرها في غلاف "ليالي ألف ليلة"، والمرأة ذات البرقع في غلاف "خان الخليلي"، وسندريلا الفرعونية في غلاف "رادوبيس"، وكذلك صياغته للمرأة المنتشية غناء في "أوراق سكندرية" لجميل عطية إبراهيم، والأميرة الفلاحة في حكايات "صاحبة الجلالة"، والعروس التي تمتطي الحصان إلى جوار الفارس البطل في "أجمل الحكايات الشعبية" لكاتب الأطفال يعقوب الشاروني، والأندلسية المورسكية الساحرة بالملامح العربية والآمال المنطفئة في "ثلاثية غرناطة" لرضوى عاشور. أما تلك المرأة المتوارية خجلًا، والمتضائلة قهرًا، في الأوساط الذكورية، فهي التي استحضرها التوني في غلاف "المرأة والجنس" لنوال السعداوي، فيما استدعى الرجل الفحل "أبو شنب برّيمة" برأس إنسان وجسد حصان في "الرجل والجنس" للكاتبة ذاتها. 

وبصفة عامة، فإن التوني في انغماسه في تربته القريبة، بأناسها البسطاء وشمسها الساطعة وظلالها الوارفة وثمراتها المعسولة، يتحالف عادة في رسوم أغلفته مع الألفة والائتناس والحركة والبهجة، والموسيقى والغناء والرقص، وضحكات المرح والتفاؤل، والألعاب الطفولية التلقائية، وهذا لا يعني انفصالًا عن الواقع المشحون بالعذابات والآلام والمتاهات والضغوط، وإنما هو تخليص للإنساني من شوائب البارود والأدخنة والضجيج، وإنصات إلى صوت الضمير الداخلي، على اعتبار أن الفرصة الأخيرة للنجاة هي أن يرتدّ البشر إلى الطبيعة قبل فوات الأوان.

هذا الانحياز إلى التفجر والتفتح والخصوبة والازدهار والانفلات، تنقله ألوان التوني الصاخبة، الحية، الإيقاعية، الباعثة على النبض المستمر ونبذ الرتابة وتحطيم القيود والتغلب على الأقنعة وتجاوز التحنط والجمود. وهكذا يلتقي البشري والطبيعي، فالمرأة شجرة حبلى بكنوز الفاكهة، والرجل بحر لا تتوقف أمواجه، ولا تهدأ وثباته، ولا يخفت صهيله. وهناك دائمًا رهان على الطاقة الإيجابية، مهما دقت نواقيس الخطر، وأطلق المتشائمون تحذيراتهم وشائعاتهم، فلكل يوم سخيف نهاية، ولكل بنفسجة وصبّارة قدرة هائلة على بث روائح الإشراق والابتسامة. 

تضخّ أغلفة التوني الأوكسجين اللازم لتمدد الرئات وتحليق الطيور والفراشات، عبر لغة بصرية لا تفقد هندستها، ولا تتخلى عن مرونتها وطلاقتها خارج البرواز والنسب المعيارية الاعتيادية والمكوّنات التفصيلية. فالأشكال ربما تأتي ناقصة، والوحدات الزخرفية قد لا تكتمل، والأسطح تشفّ للتعبير عن المكنون من الانفعالات والمشاعر الباطنية. وبهذه الآلية، يمكن للعنوان الدسم على الغلاف أن ينسجم ببساطة مع لوحة التوني سهلة الهضم، وأن تتناغم الفكرة العميقة مع الصورة القريبة من الذائقة. إنها روح الفنان المتصالحة مع ذاتها في المكر الفني، والمفطورة على القبض على الفرح والسذاجة.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها