الجمعة 2022/02/25

آخر تحديث: 14:20 (بيروت)

مقاهي بيروت الشعبية كمشهد من "1984"

الجمعة 2022/02/25
مقاهي بيروت الشعبية كمشهد من "1984"
لوحة لحسن جوني
increase حجم الخط decrease
كنتُ كلما شحّت قدرتي المالية عن ارتياد مقاهي "الماركات"، أو ندرت فرصة اللقاء بأصحاب كي يدفعوا عني ثمن فنجان القهوة البالغ أربعة دولارات آنذاك، يمّمت وجهي صوب المقاهي الشعبية أو الإكسبرس، التي يرتادها بعض العاطلين عن العمل والسبقجية ولاعبي اللوتو وبائعي اليانصيب، إضافة للأمنيين على أنواعهم، شرعيين أو أمر واقع أو مليشيا، وهدفهم في الزوايا المراقبة وما شابه، حتى ليحسب المرء أن الأكسبرس وُجد ليكون مشهداً من مشاهد "جمهورية الأخ الأكبر" في رواية "1984" لجورج أورويل.

ولطالما واجهت هذه المشكلة، إذ إنه بمقدوري مثلاً أن أدفع دولارين ونصف الدولار، ثمن فنجان القهوة، ومن الغريب أن المستثمر لم يلحظ لهذه الفئة أي مكان يلجأ اليه. فإما أسعار فوق المعتاد وجلسة "للمحترمين"، وإما فنجان قهوة ثمنه ربع دولار حيث يتواجد "المهمّشون".

في إحدى المرات، قررت الترفيه عن بنات قريبات لي يعشن في الريف فأخذتهن الى شارع الحمراء، إلا أنهن عندما علمن بأسعار مشروباتهن، استنكفن. فحرت جواباً، وقلت لهن أنه لا مكان لفئتنا غير هذه الأمكنة، إذ إنه من الصعب عليّ أن آخذكن إلى المقاهي الشعبية التي لن ترضيكن ولن تجدن طلباتكن فيها. المهم، رضخن للأمر بعد كثرة جدال وأخذ وردّ.

كانت معاناتي أن أجد مقهى ولو بدولارين، لكنه مريح.. في تجوالي في الحمراء وجدت فندقاً يضع طاولات وكراسي، فسألت العامل إن كان يستقبل زبائن من خارج الأوتيل، فهز رأٍسه بالإيجاب. طلبت فنجان قهوة كان لذيذاً، وسعره لا يتجاوز دولاراً ونصف الدولار، وكنت أتعمّد الجلوس في الخارج كي لا يتاح له أن يحادثني. وشيئاً فشيئاً، أصبح يكثر من خروجه الى الرصيف في محاولات عديدة لأجل أن نتعارف، وكانت غايته منصبّة إذا ما كنت على معرفة أو دراية بأطباء، أصدقاء لي، كي يساعدوه في علاج بعض الأمراض التي يشكو منها. وعندما نفيت معرفتي، تغيرتْ ملامح وجهه وأصبح دائم العبوس معي، فقررتُ ألا أعاود إرتياد مقهى الأوتيل.

بدأت أُكثر من المشي خارج شارع الحمراء. وكان هناك مقهى قرب مطعم "بربر"، فيه جمع من الناس لا يعدّ ولا يحصى، ونادراً ما كنت تجد كرسياً أو طاولة للمكوث أو تزجية الوقت... مكان يضج بسائقي التاكسي، ولعيبة ورق الشدّة، والبائعين الجوالين،.. كلهم يراقبون الشارع، أو يراقبون الواقع اللبناني. وفي إحدى المرات، لاحظتُ فتى يعمل بهدوء في المقهى ذكّرني وجهه بشقيقي الذي فقدته في الحرب. فابتعت له من أحد المحال بعض الكسوة، وأعطيتها للعاملة على الصندوق كي تعطيها له، شرط ألا تقول له أنها مني كي لا تتأثر معاملته معي، ولاحقاً شككت إن كانت قد أعطتها له فعلاً.

أكملتُ سَيري، فجُلت في حي المقاهي الشعبية عند أحد خطوط التماس السابقة، رتبتُ علاقة صداقة مع إحدى العائلات التي تدير إحداها، كانوا لطفاء بعد حذر مني، إذ إنهم يريدون معرفة هويتي، وعندما أحضرت لهم نسخاً من كتبي، إرتاحوا، وعندما زودتهم بالمزيد منها قالوا هذا يكفي... كأن هذا المقهى يخاف من "الأخ الأكبر" أو كان يعتبرني تابعاً له، إلى أن كشفت عن هويتي...

ثمة تضخم في المقاهي الشعبية والإكسبرس في بيروت وضواحيها، وتزداد مع ازدياد العطالة والتوتر الأمني وجمهوريات الأمر الواقع. وكل مقهى يلزمه نوعاً من الشفرة للتعاطي معه. ثمة مجموعة من المقاهي لم أستطع التواصل مع اصحابها في محيط الجامعة اليسوعية، رغم أني ذهبت برفقة صديق لي يعرفهم، فولّيت وجهي نحو ما كان يعرف بخطوط التماس، وكنت أٍسير ليلاً حتى بعد منتصف الليل، أتزود بقهوتي وأسير، وكان عامل القهوة يدعوني للجلوس بإستمرار. مرة وافقت، وكنت أفكر في أثناء سيري بمقولة تعدد المعاني في النظام الديموقراطي والتي يسمح بها، إلا أنها لن تغير من طابعه في شيء، فنكون نحن أمام العبث. أرسلت هذه الرسائل الصوتية ومحتواها الى صديقي غسان. وكان يجلس بقربي شخص هرب فور سماعه محتوى حديثي. ربما اعتبرها رموزاً مشفرة. ففي اليوم التالي، فجراً، أصر صاحب المقهى أن أجلس في الداخل، فرفضت، وفجأة ظهر شاب وبدأ يكيل الأسئلة لي: من أين أنت؟ ماذا تعمل؟ كيف تعيش؟ وبلهجة عنيفة، فخفت منه ولم تعد قدمي لتطأ المقهى...

وفي المرحلة نفسها، قرب منزلي، ثمة مقهى دائماً يستنطقني: لماذا لا أزوره لأشرب القهوة عنده؟ وأنا أتردد، أتوجس من هذه الأماكن... ففي النتيجة التي توصلت إليها، أن هذه المقاهي، رغم أنها مفتوحة للجميع وتنتظر الزبائن، فهي مغلقة على نفسها، يلزمك مُعرّف عنك كي تصبح منها وكي يطلقوا لك الأمان.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها

الكاتب

مقالات أخرى للكاتب