الثلاثاء 2022/02/15

آخر تحديث: 12:55 (بيروت)

فتاة هوى وأحذية وروائح

الثلاثاء 2022/02/15
فتاة هوى وأحذية وروائح
increase حجم الخط decrease
قلت لصديقي: اليوم قرّرت مغادرة غرفتي للتنزّه على الشاطئ بعد مكوثي فيها ثلاثة أشهر من دون خروج منها يُعتدّ به، ولمدة طويلة. وفور ترجّلي من سيارة الأجرة توجهت نحوي فتاة في مقتبل العمر، وبكامل زينتها وعدّتها كسيدة محترمة، وسألتني كيف السبيل لتصل إلى أحد المولات الواقع قرب الشاطئ؟ استغربت السؤال، فنحن في الطريق العام وبإمكانها إيقاف أي سرفيس ليقلّها إلى وجهتها، ثم أن هاتفها الذكي النقّال اللعين فيه غوغل ماب، وحتى المسنّين أمثالي يستطيعون استعماله. أشرت إليها من أين تأخذ السرفيس، وتقصدتُ إبعاد المسافة لأتابع لعبتها بداية، كما أن لهجتها المدينية، التي تظهر أنها ليست غريبة عن العاصمة، بل ولِدت وترعرعت بها، أو فيها لا فرق، ظاهرة للعيان. وبعدما أحرجتها حول قصر المسافة، تقصدتُ القول: اشترطي على السائق أن تستقلي سيارته كراكبة سرفيس، وإلاّ سينخدع بمظهر أناقتك وثيابك، فنظرت إلي نظرة عدم رضا وأشاحت بوجهها عنّي مزدرية شخصي وحديثي.

فقال لي صديقي إنها من بنات الهوى اللواتي سيتقاضين منك مبالغ مالية طبقاً لإمكاناتك: أوتيل شيء، ومقهى شيء، ويوم بكامله شيء آخر. قلت له: اللعنة عليك وعليها، لأنها من عمر أولادي أو أصغر، إن هذه البهلوانيات مجرّد ألعاب لا تغريني للدخول معكم واللعب معكم، ولن أكون لاعباً حتى ولو احترفتُ أصولها. وهبطنا إلى أحد المقاهي الذي يملك فروعاً عديدة، لكن الطبقة التي ترتاده لم أرَ نظيراً لها.

جلستُ. ثيابهم غالية وحركاتهم متكلفة ومتصنعة. خفتُ بداية من الأسعار، فسألت عاملة المقهى التي توجهتُ أنا إليها لأنها لم تعرني انتباهاً من تلقاء نفسها، ربما لأن ملابسي لا تتناسب مع رواد المكان، عن أسعار القهوة، فتظاهرَت بأنها تجهلها، وسألتني: تركي أو أسبريسو؟ فقلت لها: الاثنان. فقالت وهي تبحث في لوحة على رصيف المقهى: الأسبريسو بخمسة آلاف ليرة، والتركي بخمسة آلاف وخمسمئة. سعر عادي. لكن الأسلوب لا يرحّب بي. غادرتُ إلى مقهى آخر، وأنا حائر في وجهتي وأي طاولة أختار بسبب قرب الطاولات والكراسي من بعضها البعض. ثلاثة حول طاولة، وفتاة تقول لعشيق الفتاة الأخرى: يا حقير، والمحن ظاهر في جلستها وكلامها، ماذا أحضرت لصديقتي؟ قال: أحضرت لها كوباً بلاستيكياً، كانت منذ الصباح تلحّ علي لشرائه لها. وشكرته عشيقته وأخذت تكيل المديح له، ولم تعترض على إذلالها الظاهر بكلامه عنها أنها تترجاه منذ الصباح لشراء الكوب ونحن أمسينا بعد الظهر. ثم لماذا لا تشتريه هي بنفسها؟ سألتُ صديقي، فقال إن الأمر طبيعي، هو استغل الموقف وأذلّها، لأنها، أي الفتاة، "عُرفاً" تعتبر أنه إذا ما استجاب لطلباتها من فوره فهو ليس رجلاً، بل ضعيف الشخصية.

فقلت له: تذكّرني بشخص نافذ في إحدى الدوائر الرسمية، وكيف استغلّ الموقف عندما أتاه وفدٌ من إحدى القرى ليؤمّن من أجل خدمة، فكان يتعمد إسقاط الأوراق ليلتقطها بعض أعضاء الوفد، ويطلب من أحدهم أن يوسع مكاناً له، ثم كيف طلب تلميع حذائه بحضورهم. وأخبرته أنّني حدّثت صديقاً مغترباً عن هذه الحادثة، وبالتفصيل، وسألته إن كان في الأمر أي رشوة، فقال: أبداً، لو أراد تقاضي رشوة لما تصرّف على هذه الشاكلة، هو يستغل الظرف ليترجّوه أكثر وكي يرضي نرجسيته. قلت له: لكن هذا مرض. فقال: أبداً إنها سُنّة الحياة، فقلت له (..) بك وبهذه السُّنن، أنا اليوم أحد معارفي طلب منّي خدمة فقمت بها، وتوجهت إلى منزله لأوصلها له؛ فقال لي: ماذا أفعل بك؟ حمار وستبقى كثيراً حتى تصبح بغلاً بكامل وعيه.

وقال صديق المقهى: لا عليك، كيف أصبحت الآن؟ قلت: أريد أن أُكمِل لك عن سمعة شركات الألبسة والأحذية، فقال: وهذه أيضاً لك ملاحظات عليها؟ فقلت له: مضى عليّ قرابة العقدين لم أشترِ أحذية أو ألبسة بنفسي، ففي بداية وصولي إلى بيروت وتعرّفي على الماركات والموضة، كانت العاملات أو العاملون في المحلات التي أقصدها يدرّبنني أو يدرّبونني على ما هو مناسب لسنّي وذائقتي الثقافية والفنية، وكنت أترك لهم جسدي بثقة كاملة لينتقوا ما يشاؤون له. اليوم فوجئت عندما قرّرت الذهاب إلى متجر للألبسة والأحذية الرياضية فيه ماركات عالمية، فباعني حذاء أكبر بنمرتين تحت حجج واهية، ولأن ما انتقيته لم يكن يوجد منه مقاس يناسب قدمي؛ ومخافة أن أخرج من دون أن أبتاع شيئاً لزّقني بحذاء تلعب رجلي بداخله، أقمت الدنيا وأقعدتها فلزّمني بحذاء آخر على مقاس رجلي إنما أقل جودة.

والأحذية الرياضية، بالمناسبة، من الماركات العالمية الموجودة في لبنان، لم تعد على جودتها السابقة، فيوصونك أنه ممنوع أن يقرب من الحذاء أي نقطة ماء، ثم هناك حذاء رياضي للمشي وآخر للهايكنغ أو ركوب الجبال وآخر للركض، وثمّة آخر ترتديه مع ثياب سبور أو الجينز. باختصار، تلزمك غرفة كغرفة صديقي الذي كان يمدّني بالأحذية كي تتّسع لأحذية الرياضة فقط، فما بالك بالأحذية الأخرى والثياب؟ المهم أنه باعني، بفارق السعر البالغ ستين ألف ليرة، زوج جوارب. سألته عن جودتها، فأجاب إنها مانعة للتعرّق والرائحة؛ لكنّي فوجئت بعد ساعة أو ساعتين من ارتدائها أن قدميّ تتعرقان وتنبعث منهما رائحة، رغم أني في حياتي لم أشكُ من هذه الظاهرة، مع العلم أنّي مهمل في تغيير جواربي، ولم أكن أحرص على تغييرها باستمرار.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها

الكاتب

مقالات أخرى للكاتب