الثلاثاء 2022/02/15

آخر تحديث: 12:33 (بيروت)

خطوط منير الشعراني.. مراوغات تشكيلية وموسيقية

الثلاثاء 2022/02/15
increase حجم الخط decrease
تواجه منظومة الفنون والآداب المعتمدة في المقام الأول على الحروف ومعانيها مآزق مستعصية، ليس من السهل الفكاك منها. لكنّ هذه الصيغ الإبداعية، ومنها فن الخط العربي، لا يتوقف طموحها عند حدّ، في مسار تطويرها وتثويرها، واقترابها من مطابقة الجوهر، ومحاولة إدراكه، وتحقيقه، وتخليقه في الفضاء الجمالي الموازي، وليس مجرد التعبير عنه أو الإشارة إليه أو توصيفه من خارجه.

ويتمثل التحدي الأصعب أمام فن الخط العربي في كونه ينبني على اللغة، التي هي عبر تاريخها اختراع توصيلي الطابع في الأساس، محدود الطاقة، بما يؤطّر لقوانين وظواهر سيميولوجية تدّعي بمنطقها استحالة التعاطي مع الحروف والمفردات والعبارات والرموز والعلامات في عزلتها عن المرجعية الجمعية المتفق عليها بين البشر "لغة التخاطب".

وترى تلك النظريات، في وجوهها النمطية، أنه حتى إن جرى الفكّ والتركيب في العمل الفني على نحو غير مسبوق أو غير دارج، فإن الدلالات الجديدة المتوالدة هي مجرد انزياحات وانحرافات ذكية داخل حيّز الخرائط التأويلية السيّارة والمشتركة، من دون هدم فكرة اللغة كوعاء ناقل للمفاهيم المستساغة، وغير البعيدة.

على النقيض من ذلك الانقياد اللغوي، وفي الاتجاه المعاكس تمامًا، مضى الخطاط السوري منير الشعراني (70 عامًا) في معرضه "إيقاعات خطية" في غاليري خان المغربي (يستمر 17 فبراير/ شباط 2022)، الذي استعاد به حضوره من جديد في القاهرة بعد غياب دام خمسة عشر عامًا. ومن خلال أكثر من خمسين عملًا للخط العربي، راهن رسّام الخطوط المخضرم على التحلل من تلك القولبة اللغوية، والتحرر من آفات الترجمة القاموسية، والانفكاك من أوهام القداسة المقترنة بلغة الضاد المحبوكة والمصونة، مجترئًا في انطلاقه التجريدي صوب تعيين الماهيّة تعيينًا مباشرًا، وقنص الحالة "كما هي"، واستقراء الحروف والكلمات من داخلها هي وليس من المتعارف عليه، ليكون المبدع والمتلقي كيانًا واحدًا هو جسد التكوين، ونبضه الحيوي.

ببساطة أكثر، فإن خطوط الشعراني، بغضّ النظر عما نقلته من مقولات راسخة ومقتبسات عابرة للأجيال، هي بحدّ ذاتها لوحات تشكيلية مكتملة تعبيريًّا، ومنسجمة بنائيًّا ومعماريًّا وهندسيًّا. وإلى جانب قيمتها البَصَريّة، القادرة على اجتذاب غير العربي الذي ليس بوسعه امتلاك هذه الكلمات معجميًّا وتهجّيها لسانيًّا، فإن هذه الخطوط مشحونة كذلك بعصارة صوفية، مبعثها الاستغناء والزهد والتفتيش عن أصول الأشياء ونبذ الثرثرة، ومحمّلة أيضًا بقيمة موسيقية، مبعثها الإنصات والتأمل والانصياع والمرونة والانسيابية والحركية.

عكست لوحات منير الشعراني الكثير من الحكم والأبيات الشعرية والعبارات الشهيرة المنسوبة إلى التراث العربي وأساطينه، من قبيل "احفظ عليك مقامك" و"أنت في كل شيء" (النفّري)، و"أرى العيش كنزًا ناقصًا كل ليلة" (طرفة بن العبد)، و"للقلب وسواس إذا العينُ ملّتِ" (قيس بن الملوح)، و"ما أبتغي جلّ أن يسمى" (المتنبي)، و"هي العزائم من أنصارها القدر" (الحكم بن أبي الصلت)، و"الحلم سيد الأخلاق"، و"لا دين لمن لا عقل له"، و"بقدر الهموم تكون الهمم"، و"الأفعال أبلغ من الأقوال"، وغيرها.

لكنّ المراد دائمًا، والذي حدث في حقيقة الأمر، أن اللوحات "كأفعال" أبلغ من "الأقوال" التي استخْدَمَتها، ذلك أن القول المُستَدْعَى، هو لا يعدو أن يكون بذرة الإلهام أو الومضة المثيرة أو الشرارة الأوّلية المفجّرة للوحة التركيبية العميقة، المحرّضة للعقل والحدس، بكل طبقاتها الاستاتيكية والديناميكية، وبسائر أبعادها الاستيعابية والاستبطانية والإيحائية والتأثيرية والتخييلية.

وفي مراوغاته التشكيلية الموسيقية التصوفية، الآخذة فن الخط العربي من المتحفية إلى العصرية والحداثة، قلّص الشعراني التصاميم الزخرفية من بهرجتها وتكلّفها، متقشفًا ومقتصدًا في الألوان والأيقونات والوحدات المتكررة، ومتخففًا من حدة الأشكال الهندسية البحتة والمغلقة، ما منح الأقواس والمتّجهات وأشباه الدوائر وغيرها إحالات شفيفة، وسيولة غير معهودة في الصرامة المعمارية التقليدية.

كما وازن بين كثافة الأضواء وظلالها، وحضور الحروف وامّحائها، والمساحات التي تحتلّها الخطوط، والفراغات في داخلها، ومن حولها. فالحروف والمفردات، فوق القيمة الجمالية المنفردة لها في انفصالها، فإنها في تجاورها وتحاورها، واتصالها واشتباكها، ذات قدرات دلالية لانهائية، بحسب آليات ترتيبها وتضفيرها وتطويعها بصريًّا وإيقاعيًّا فوق مسرح اللوحة.

إن حروف منير الشعراني، في عدم اقتصارها على تزيين النص الديني، وفي عدم اكتراثها بمجالس الكلام، هي ذات عقيدة أخرى، فحواها عبور النسبي والظرفي والزائل إلى الباقي والأبدي والإنساني، وتجاوز الزمان والمكان، وإرجاع كل حرف إلى النار الكامنة فيه، وكل مفردة إلى الهالات النورانية المشعّة منها، فلا يكون الحرف بحاجة إلى شرح، ولا تصير المفردة بحاجة إلى تفسير.

وهذا لا يتأتى بسهولة بطبيعة الحال، وإن بدت الثيمة الكلية هيّنة، لكنها فلسفة الاستماع للحرف، واستنطاقه بعفوية، والإصغاء إلى صمته كذلك، ومن ثم تصويره في حالاته جميعًا، في عزلته، وفي علاقاته مع الحروف والموجودات الأخرى، بغير صخب يفسد المشهد الصافي، وتلك هي المسألة الأصعب، أن يتطهر الحرف من الشوائب والملوّثات الملتصقة به، وعلى رأسها رواسب الإنشاء والبيان والبلاغات الجاهزة.

إن التفوّق في تجربة منير الشعراني هو ليس أن تتناول الخطوط أقوالًا ثمينة، أو أن تُكتبَ بماء الذهب، أو أن تسعى الكلمات إلى الاقتران بمضامين مقدسة، أو أن يضم الشكل ألوان قوس قزح، لكنْ هو أن تنطق اللوحة؛ هامسة كانت أو صارخة، بغير صوت، وأن تحتوي على موقف من العالم، ورؤية للوجود، وطرح فني مغاير يوسّع دائرة الألفاظ والعبارات المرسومة إلى أبعد مدى ممكن، ويعيد النظر إلى نظريات اللغة وعلومها، ذلك أن "كل فن لا يفيد علمًا لا يعوّل عليه"، على حدّ مقولة ابن عربي، التي صوّرتها أنامل الشعراني في إحدى لوحاته.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها