الأحد 2022/02/13

آخر تحديث: 21:04 (بيروت)

ألعاب الفنان طالب حسين اللونية... بصمة الهايكو

الأحد 2022/02/13
increase حجم الخط decrease
من خلال متابعتي، شبه اليومية، لرسومات الفنان طالب حسين على الفيسبوك، تبادر لي أنه يرسم بدمه، بروحه، بكامل خلايا جسده، رغم أنني لا أعرف هل يرسم بالألوان المائية أم الإكليرك أم الزيت. ولا أعرف أحجام تلك اللوحات، وقد تكون مرسومة على صفائح ورقية بيضاء، تصلح للاستعمال السريع، والجاهز، تحت شغف حارق لليد والخيال. إصرار غريب على مواصلة التلوين، وابتكار الشخوص، والحركات، والمشاهد الطبيعية، وكأن العين أمام رقصات حادة، ملونة، ذات وجد روحي وانخطاف صوفي، أو وسط عاصفة تمتد في الطبيعة المتوحشة. 

لوحات توحي بكل ما يخطر على ذهن المشاهد: أهوار العراق، النخيل البصري، حقول القمح في ليلة عاصفة، راقصة الباليه، الشارع المديني المكتظ بالمارة، الطيور، المظاهرة العارمة ضد السلطة، قرون الجاموس تحت البردي، الشفة المطبقة لفتاة في حانة، أي كل ما تحتويه ذاكرة عاشت العقود الأخيرة من الزمن، وهي تتنقل بين المدن، والصحاري، والأنهار، وحقول القصب، وظلال العمارات العملاقة في الحاضرات المدينية لما بعد الحداثة. قد لا يكون للّوحات تلك نكهة عراقية خالصة، باعتبار أن الفنان طالب حسين من مدينة الناصرية العراقية، لكن لوحات عديدة يستطيع العراقيون تمييزها، بلمس المشهد أو تذكر رائحة العروق النهرية أو تسلق بيت طيني آيل للسقوط. قبل فترة كتبت سطورا قليلة عن واحدة من لوحاته، فقلت للقارئ تخيّل نفسك على قارب صغير وسط "أهوار العراق"، في صباح ربيعي، وأنت محاط بالقصب، والبردي، تصيد السمك. وحيدا إلا من صحبة طيور الإوز، وحدائق المياه ووجوه النساء والصيادين المتعبة.

 كانت تلك اللوحة يمكن أن تكون "هايكو بصري" إن صحت التسمية. ويمكن أن تكون قطعة من الشعر الملون بأحاسيس روح شفيفة تعيش عزلتها. وقد يصح هذا الوصف على أغلب اللوحات. فعلا معظم اللوحات التي رأيتها تحمل بصمة الهايكو، نمط اللقطة الشعرية الحاملة لمفارقة جمالية أو حركة مفاجئة تذهب بسكون المشهد المعروض أمام البصر. ويمكن وضع تلك التهيؤات المشهدية في خانة رسومات ما بعد الحداثة، أو الخلطة الحضارية للقرن الحادي والعشرين. وهو ما نعيشه بشراسة وعمق أينما أدرنا وجوهنا. فلم تعد جذور الفرد تنتمي لتربة واحدة، بل هي تمتد على مساحة الكرة الأرضية. قبل أن أتابع منشورات طالب حسين على صفحته الفيسبوكية، تذكرت أنني رأيته أكثر من مرة في مقهى "البرلمان" الواقع في شارع الرشيد، ليس بعيدا عن سوق الكتب المعروف بالمتنبي. قبل أربعين سنة تقريبا.

كان صديقا لأخي الكبير علي، وبدأ علي شاعرا واعدا، لكن صروف الوضع العراقي الفائر شاءت خلاف ذلك، واعتقد أنهما كانا يدرسان سوية في كلية الآداب. كان وجه طالب يوحي بالتمرد منذ تلك السنين، وامتد ذلك التمرد الفني إلى رسوماته تلك، فهي تضرب القواعد الفنية، والمشهدية الساكنة، والمألوف في الفن التشكيلي. ومعيشة الاغتراب الأوربي زادته، في قناعتي، وبعد التجربة، تمردا على المألوف، وعمّقت لديه مشاعر الخصوصية فنيا. دأبنا في نهاية السبعينيات على الجلوس في "البرلمان"، مقهى المثقفين، ونحن نحدق بالجيل السابق علينا من المثقفين من أمثال: موسى كريدي، وخضير عبد الأمير، وفوزي كريم، وعبد الستار ناصر وأحمد خلف، وأحيانا عبد الأمير الحصيري شاعر العمود وخليفة الجواهري كما كان يطمح وقتها، بملابسه الفوضوية، ومشيته المرتبكة، ووجهه العريض المتعتع من السكر. والغريب أن أخي علي سرعان ما انتقل إلى الناصرية، مدينة طالب حسين، مدرسا للغة العربية، وتزوج من الناصرية امرأة من زميلاته، وكاد أن يستقر هناك لولا ظروف البلد في تلك الفترة البائسة، وهو اليوم يعيش في مدينة الرمادي مقعدا من المرض. 

تلك المفارقات استعيدها كلما تأملت في لوحة من لوحات الفنان طالب حسين. وأسأل روحي عن هذه التجربة اللونية الغريبة، والمبدعة، ولماذا لا يتم عرضها في صالة فنية في مدينة الناصرية أو في بغداد، خاصة وأن هكذا تجارب غريبة، ونافرة عن السائد العام، تلخص بوضوح تجربة شريحة واسعة من المثقفين والفنانين المغتربين الذين اكتسبوا دماء ثقافية جديدة تضاف إلى موروثنا العراقي. وهي في ذات الوقت تشكل دعما اجتماعيا، وحضاريا، للتيار المدني الذي يناضل، يوميا، ضد عسكرة المجتمع، والفكر الغيبي، والانغلاق، والتلوث الجمالي، عدا عن ترسيخها للهوية التاريخية العميقة للعراق المدني.

 (*) مدونة نشرها الروائي العراقي شاكر الأنباري في صفحته الفايسبوكية
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها