الأربعاء 2022/12/07

آخر تحديث: 13:03 (بيروت)

كرة القدم.. و"تمريرات" القوة الناعمة!

الأربعاء 2022/12/07
كرة القدم.. و"تمريرات" القوة الناعمة!
لقاء أميركا - إيران (غيتي)
increase حجم الخط decrease
ثمة مشاهد ومواقف ذات طبيعة خاصة في كأس العالم 2022 بقطر (مونديال العائلة)، من قبيل: الحضن الذي جمع اللاعب الأميركي روبنسون ونظيره الإيراني رضائيان، وإهداء المشرف على المنتخب الإيراني إلى مدير المنتخب الأميركي سجادة تذكارية بمناسبة مباراة الفريقين، وتلاحم عدد من جماهير الدولتين في رقصات مشتركة خلال أجواء المباراة. وتأتي هذه اللقطات، وغيرها، لتعيد إلى الذاكرة بعض المشاهد المشابهة في بطولات كأس عالم سابقة، منها مثلًا ما حدث في مونديال 1998 في فرنسا بين المنتخبين نفسيهما، حيث تقدم الأميركيون جهة الإيرانيين في الاحتفال التمهيدي للمباراة كمبادرة مودة من جهتهم، ليرد الإيرانيون بمنحهم ورودًا بيضاء كرمز للسلام.

لم تكن الجهود الدبلوماسية، على افتراض وجود رغبة حقيقية في اللجوء إليها، لتتمكن تحت أي وضع مثالي من إجازة تمريرات تسامحية أو تصالحية أو تنازلية، فردية أو شعبية أو حكومية، كهذه التي أتاحتها كرة القدم بين الخصمين في حقل ملغوم بالأزمات الدولية العاصفة. إنها ببساطة الإرادة الأكثر قوة للعبة الجماهيرية الأكثر قوة وسطوة في العالم، وإنه الخضوع الطوعي والقسري لقوانينها فوق المستطيل الأخضر وخارجه، وإنه الامتثال النموذجي للروح الرياضية، ولتعليمات الفيفا واجبة النفاذ.

لكن هذا الحضور الكروي الفاعل والمؤثر لا يعني بطبيعة الحال أن كرة القدم على الصعيد الرسمي ستنسف تلك الخلفيات العدائية المتجذرة والتوترات السياسية والاقتصادية وربما العسكرية بين الدول المتناحرة. فقد وصف المسؤولون الإيرانيون مثلًا فوز منتخبهم على أميركا عام 1998 في "معركة أم الألعاب" بأنه "انتصار على الشيطان"، كما علّق الرئيس الأميركي بايدن على فوز منتخب بلاده على إيران منذ أيام قليلة بمونديال قطر 2022 في "المنافسة الكبيرة" بأن "الله يحب الأميركيين"، مضفيًا أبعادًا سياسية، ودينية أيضًا، إلى المباراة الرياضية التي يراها صراعًا حيًّا بين دولتين.

إن الأمر الواضح الذي يعنينا هنا في هذه الكادرات، وغيرها، خصوصًا في مونديال قطر 2022 بتركيزه على مفهوم العائلة الإنسانية في حفلة الافتتاح وملاعب المباريات ومقاعد الجماهير وأمكنة الاحتفالات الرياضية والفنية، هو أنه لم يعد أحد في هذا العالم، حتى حكّامه وقادته ومن يهيمنون عليه، بقادر على تجاهل ذلك الوجه الأخطر لكرة القدم، الساحرة المستديرة معشوقة الملايين، وتمدداتها الأسطورية المستمرة والمتزايدة يومًا بعد يوم خارج حدود محيطها الكروي، كلعبة شعبية أولى أو كفن إبداعي أول فوق سطح الكوكب الأرضي (أكثر من مليار مشاهدة لمباريات مونديال قطر 2022 عبر مجموعة "بي إن" الإعلامية وحدها، وهو رقم غير مسبوق).

هكذا، فإن كرة القدم ليست لعبة كغيرها، لكنها بهذه الدلالات والإشارات عنصر أساسي ومقوّم جوهريّ من مكوّنات القوة الناعمة والمنظومة الاستراتيجية للدول، وهي إبداع وثقافة وتراث وسحر وفلسفة وقيمة تعبيرية وتخييلية ذات جماليات آسرة تتفوق في أحوال كثيرة على وسائل الإقناع الأخرى، بل وتتميز عن سائر مفردات القوة وسبل الضغوط وترسانة الأسلحة المادية التقليدية والمعنوية المبتكرة لدى الدول الراغبة في إبراز جذورها وهويتها الحضارية وشخصيتها الاعتبارية، ومعالجة أمورها الداخلية ومد أذرعها الخارجية، وكسب اهتمام الرأي العام، ونيل الاحترام والتقدير في كل مكان.



إن أي نداءات سياسية في عالمنا العربي من محيطه إلى خليجه لم تعد قادرة على أن ترقى إلى مستوى الجد أو تصل إلى مستوى النبض البشري على الأرض إذا حملت في يومنا هذا شعارًا تقليديًّا عن القومية العربية مثلًا، لكن عبارات عفوية من قبيل "وطن واحد وحلم واحد" و"شعب واحد وأمة واحدة" التي انطلقت في المدرجات المغربية والسعودية والتونسية والقطرية في مونديال 2022 قد انسحبت بخفة إلى القلوب العربية التي آزرت المنتخبات الأربعة في منافساتها التي أبلت فيها بلاء حسنًا وحظيت باحترام العالم، لأنها عبارات صادقة صادرة بالفعل من هذه القلوب المتحمسة لهويتها الإقليمية وتاريخها المشترك.

ولعل هذا السياق يعطي أيضًا تفسيرات لما حرصت عليه الجهة التنظيمية لأول مونديال عربي، وهو الخروج من إطار كرة القدم إلى محاولة توسعة الحدث كمجال للتعريف بالحالة العربية الراهنة، بكل مستوياتها الحضارية والثقافية والإبداعية، واستثمار ذلك في السياحة والاقتصاد والعلاقات الدولية الطيبة مع شعوب العالم. ومن ثم، فقد ظهر التركيز على الفولكلور المحلي والعربي والملابس والأسواق التقليدية ومنتجات العطور والتوابل واللؤلؤ والمجوهرات، والصيد والغوص والرحلات البحرية، وغيرها من الأنشطة اليومية المختلفة لسكان المنطقة. وقد باتت صناعة كرة القدم بمفهومها الواسع مجالًا ضخمًا للترويج والتسويق والاستثمار الاقتصادي، ومحورًا خصبًا لإدارة ملف التقريب بين البشر، في إطار احترام خصوصياتهم.

وإن هذا الحصاد كله لم يكن ليتأتى لولا أن الاهتمام بكرة القدم قد فاق كل التصورات الممكنة، فهي ليست فقط اللعبة الأولى الأكثر انتشارًا ومتابعة في الملاعب وعبر الشاشات والفضائيات، ولكنها كيان استثنائي يصعب توصيفه، فهي مزيج من المهارة والرياضة والجماليات الجسدية والفنون الحركية والموسيقية والإيقاعية، ولذلك فإن لاعبيها قد يوصفون بأنهم راقصون أو عازفون، ومبارياتها قد توصف بأنها استعراضات أو تابلوهات فنية للباليه أو الرقص المعاصر.

كما أن "دراما" كرة القدم، بجوانبها الصراعية وفنونها القتالية، هي الأكثر اجتذابًا للمشاهدين من أية دراما تمثيلية، حيث يصيرون جزءًا من الأحداث المثيرة، وطرفًا مباشرًا فيها، بوصفهم مشجعين ومصوّتين في الاستفتاءات ومتحدثين عبر البرامج المختلفة وفي ساحات المشاهدة وفي المقاهي وعبر صفحاتهم الإلكترونية الشخصية، إلى جانب إحياء كرة القدم فكرة "البطل" و"البطولة" و"الفارس المغامر المغوار" المستوحاة من السير والملاحم الشعبية، لدى الجماهير المتعطشة للتحقق والانتصار وإعلاء شأن الذات.

ومن المدهش كذلك أن أغنيات الجماهير وأناشيدهم ورقصاتهم في الملاعب وخارجها، تعكس هذه المعاني الخصبة المتنوعة كلها لكرة القدم، سواء أبدعها فنانون محترفون أو خرجت تلقائية بأيدي روابط المشجعين. وهو ما يؤكد فكرة أن الفوز بالمباريات ليس هو كل شيء في المونديال، فهناك من الرسائل والطقوس الثقافية والفنية ما يحقق انتصارات ثمينة للدول، بغض النظر عن نتائجها الرياضية.

وهذا الجانب الثري تحرص عليه الدول الإفريقية مثلًا، بنشر أغنياتها ورقصاتها وتراثها الشعبي في المدرجات، كموسيقى الجاز والطبول والإيقاعات والاستعراضات التي تحكي سيرة القارة السمراء. ويأتي ذلك بالتوازي مع حرص المشجعين البرازيليين على نشر موسيقى "السامبا" الأشهر والأقدم لديهم، ذات الأصول الإفريقية، واهتمام جماهير الأرجنتين بالرقص بمصاحبة موسيقى "التانغو"، للتعبير عن هويتهم وجذورهم الحضارية، وهي كلها "تمريرات ذكية" للقوة الناعمة من خلال كرة القدم العابرة لكل الحدود.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها