في فصل من كتابه "المرآة المتكسّرة.. تشظي الكيان اللبناني"، حاول الباحث سهيل القش دراسة أصول السردية اللبنانوية التي مهدت لنشوء المتّحد الطائفي الماروني. فيجد أنها تعود إلى ثلاثة مقومات اساسية، كلية روما المارونية (1584)، جمعية نشر الايمان الكاثوليكي بين الشعوب (1622) ولجوء الامير فخر الدين المعني الثاني إلى إيطاليا (1613 – 1618). ويسأل: هل توجد أمة لبنانية مكتملة المواصفات، مبنية على شعب متجانس استطاع أن يصهر كل مكوناته الدينية في عصبية موحدة الأهداف؟ والى أي حد يمكن القول ان طائفتيّ الدروز والموارنة تشتركان في تصور واحد للبناني لكي ينصهرا في شعب واحد متجانس؟ ويقول: تكفي العودة إلى التاريخ لنكتشف أن الموارنة القادمين من سوريا البيزنطية والدروز القادمين من سوريا السلجوقية، كان التقاؤهم في لبنان مبنياً على سوء تفاهم تاريخي ما زال يؤرق تاريخ تعايش الواحد مع المتعدد.
مصدر سوء التفاهم هذا انما يعود الى قدوم الصليبيين العام 1098 إلى القدس، والذي يعتبر الحدث الأبرز في بلورة التباين والتعارض بين موقف كل من الدروز الموارنة من هذه الحملات الصليبية، وبالتالي بلورة مفهوم لبنان لكل منهما: من هم أعداؤه ومن أصدقاؤه؟ هل تشترك مكوناته في تاريخ واحد؟ وهل يجمعهما مصير واحد؟ يؤكد معظم المؤرخين العرب أن الدروز قدموا الى لبنان ليس هرباً من جور أكثرية سنّية مضطهدة لأقلية دينية، كما يدعي النص اللبنانوي الماروني، بل أرسلوا من قبل الايوبيين إلى لبنان للتصدي للغزوات الصليبية التي كانت تهدد الداخل العربي، أطلقت عليهم تسمية "حماة الثغور". في حين يفاخر معظم الموارنة أنهم ساندوا الصليبيين في حروبهم ضد العرب. إن سوء التفاهم هذا هو الذي يحول دون قيام شعب لبناني متجانس وموحد الرؤيا في ما يتعلق بماض متنازَع عليه أو في ما يتعلّق بتحديد العدو المشترك.. "من الواضح أن الدروز ينظرون إلى جبل لبنان كمعقل يقف في وجه اجتياح غربي للبر العربي من البحر، في حين أن الموارنة يتمثلون الجيل نفسه كسد منيع في وجه الصحراء العربية وحضارتها التي تهدد بإلغاء فرادة لبنان". الصورة التي يرسمها سهيل القش تنفي أسطورة "الجبل الملجأ"، الذي طالما كتبت عنه الانشائيات الوطنية والإيديولوجية.
وفي كتابه "مجتمع جبل لبنان في عصر الثورة الصناعية في أوروبا"، يبرهن المؤرخ والمستشرق الفرنسي، دومينيك شوفالييه، العلاقة السببية بين الثورة الصناعية في الغرب والحربين الأهليتين بين الدروز والموارنة في العامين 1840 و1860. ويعتبر أن تضافر الأزمة الشاملة التي كانت تعيشها السلطنة العثمانية، في ظل الضغط الشديد الذي حملته الثورة الصناعية في الغرب على الاقتصاد العثماني، بالتوازي مع التبدلات السكانية والديموغرافية في جبل لبنان، أدى إلى اندلاع النزاع الأهلي مرتين في غضون عشرين عاماً.
وفي كتابه "ثقافة الطّائفية: الطائفة والتاريخ والعنف في لبنان القرن التاسع عشر تحت الحكم العثماني"، يبيّن الباحث أسامة المقدسي "أن الطائفية في لبنان ليست دهرية، بل انبثقت بشكل واضح جداً في القرن التاسع عشر. وعليه، فإنها ليست مؤامرة عثمانية، ولا اختراعاً أوروبياً، ولا "طبيعة" لبنانية، وإنّما تعكس تحلّل النّظام الاجتماعي اللّبناني التّقليدي وسط وجود أوروبي متنامٍ وإصلاحات عثمانيّة كبرى في الشرق الأوسط. كما أنّ العنف بين الموارنة والدروز، والّذي توّج بمجازر العام 1860، كان تعبيراً مركباً ومتعدد الطبقات عن "التحديث" لا ردّ فعل بدائياً له. ففي القرن المذكور، "جرت"، بحسب مقدسي، "إعادة ابتكار جبل لبنان بحسب طوائفه، بمعنى أنّ هوية طائفية عامة وسياسية حلّت محل سياسات الوجاهة غير الطائفية التي كانت السمة المميزة لمجتمع ما قبل الإصلاح". هذه نماذج عن قراءات واقع الجبل والعلاقة بين الدروز والموارنة واسباب النزاع بينهما...
والحال أن المتحدين أو الدرزي والماروني اللذين أتيا لمواجهة الغزو الصليبي (الدرزي) أو التعاون معه (الماروني)، وقع التصادم بينهما خلال القرنين المنصرمين، وفي أكثر من مناسبة، ما جعل كم اللدد سمعة لصيقة بهم. وفي هذا المضمار، تشكل دراسة "النزاع على جبل لبنان" لمكرم رباح، محاولة لقياس الأثر الذي كان للذاكرة الجماعية في تحديد مسار النزاع وطبيعته بين هذين المتّحدين في جبل لبنان، إبان ما اطلع على تسميته بحرب الجبل في العام 1982.
والجديد في هذه الدراسة، أنها تنتفع في بعض اقسامها، من التاريخ الشفوي لسبر الكيفية التي اعتمدتها الذاكرة الجماعية في تشكيل النزاع بين المتّحدين، وذلك عبر إجراء مقابلات، مع عدد من الرواة المنضوين في كل من المتحدين الدرزي والماروني الذين ضلعوا في النزاع أو شهدوا عليه. ويعتبر رباح "إن وضع الذاكرة في مركزية سيرورة التاريخ الشفوي يجلب نقداً إضافياً ضدها، فيأخذ عليها افتقارها الى ما يجعلها جديرة بالثقة، وانعدام قدرتها على التحرر من الأخطاء التي تشوبها وتقوضها"، لكن ما يعتقده الرواة هو بالفعل "واقع يوازي تاريخية ما حدث حقيقة". ويجد رباح أنّ العديد من النقاد يدعون أنّ التاريخ الشفوي عصي أساساً على البرهنة، لأنه يتجذر في سرديات شخصية نجد لها نقيضاً في الشواهد البرهانية النصية التي يمكن في العادة مراجعتها وضبطها. لو نظرنا إلى الأطر بطريقة واقعية، لوجدنا أن التاريخ الشفوي لا يزال يكافح لاكتساب الاعتراف عينه الذي حققته المحفوظات المخطوطة- على نواقصها وثغراتها. ولعل أفضل ما ارتضاه العالم الأكاديمي بشأن هذا التاريخ، هو الإقرار بأن المصادر الشفوية، هي جوهرياً، ذات طبيعة تكميلية.
صنايعية
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها