السبت 2022/12/03

آخر تحديث: 12:35 (بيروت)

هلسنكي: يوم واحد في بطرسبرغ الصغرى

السبت 2022/12/03
هلسنكي: يوم واحد في بطرسبرغ الصغرى
شارع في هلسنكي
increase حجم الخط decrease
لم نخطط لهذه الرحلة جيداً، حجزنا كل شيء على عجل. ما دامت هلسنكي على بعد ساعتين ونصف من تالين، فلمَ لا نزورها. استأجرنا شقة لليلة واحدة فقط، مدفوعين بقلق من الأسعار في فنلندا، وكانت خشيتنا في محلها وإن لم يكن إلى الحد الذي توقعناه. 
في الساعة السادسة صباحاً كانت السماء مظلمة كالليل، ولدهشتنا انطلقت العبّارة من ميناء العاصمة الإستونية قبل موعدها بربع ساعة، ولحُسن الحظ، وصلنا باكراً ولم تفُتنا. كان إبحارنا عبر خليج فنلندا هادئاً، لولا رياح قوية هبت قرب نهاية الرحلة وأصابت البعض بدوار البحر. وبعدما هدأ ترنُّح المسافرين بين الممرات، بدأت تلوح جزر صغيرة، معلنة اقتراب الساحل الفنلندي، كان بعض تلك الجزر من الصغر حتى أن مبنى صغيراً بسقف من القرميد احتل كامل مساحتها. 

بعد العبور إلى الجهة الأخرى، لا يملك المرء سوى المقارنة بين الضفتين. تركنا خلفنا تالين، مدينة صغيرة بالمقارنة، وشبه مهجورة والشُّقرة طاغية على سكانها. هنا في هلسنكي بدا وكأننا ندخل مدينة إمبراطورية، الشوارع في منتصف نهار يوم عمل مكتظة بالمارة والمتسوقين. بالكاد خطونا بضعة أمتار بعيداً من الميناء، حتى سمعنا حديثاً بالعربية بلهجة عراقية. بحثت عن مصدر الصوت ولم أنجح في العثور عليه وسط الزحام، لكن هذا وحده كان كافياً لي حتى أشعر بالألفة مع المدينة. 

سريعاً، وجدنا أنفسنا في وسط هلسنكي. ومن نقطة عالية كان يمكننا رؤية أفقها، القباب الخضراء للمباني الحكومية ذات المعمار الكلاسيكي الحديث وتتخللها الأبراج ذات القباب البصلية المذهبة للكنائس على الطراز الروسي. لكن ما طغى على المشهد المبهر، كان غابة من الأعلام الأوكرانية تغطي أفق المدينة بأكمله. 

كنت جالساً في مقهى أمام محطة القطار الرئيسة، حين وصلتني رسالة من صديق روسي مقيم في لندن: "ماذا تفعل في هلسنكي! زرتها مرات عديدة أكثر من اللازم. قبل الحرب كانت أمي تذهب دائماً إلى هناك للتسوق". لاحظت علماً أوكرانياً كبيراً يرفرف وحده فوق مبنى المحطة، وعلى واجهة المدخل الرئيسي أربعة تماثيل نصفية ضخمة، يحمل كل منها كرة أرضية. لاحقاً وأثناء التجوال، سنلاحظ ظهور تلك التماثيل بطراز "الآرت ديكو" على كثير من واجهات المباني، وأغلبها يحيل إلى شخصيات الملحمة الأسطورية الفنلندية، "كاليفالا". فمثلها مثل جيرانها الإسكندنافيين، تتأسس الآداب والجماليات القومية في فنلندا على ملحمة شعرية للخلق، تم تداولها شفهياً لقرون قبل أن تجمع وتنشر في النصف الثاني من القرن التاسع عشر فقط.

تصلني رسالة أخرى من صديقي الروسي ليلفت نظري إلى أن هلسنكي لا تبعد سوى ثلاثمئة كيلومتر من سان بطرسبرغ حيث تعيش والدته، وتستغرق الرحلة ثلاثة ساعات ونصف الساعة بالقطار إلى هناك. تاريخياً، تدين هلسنكي للقيصر الروسي ألكسندر الأول، بمكانتها كعاصمة للبلاد، فهو مَن قام في العام 1812 بنقل مقار الحكومة من توركو، العاصمة القديمة، إلى هلسنكي. أما تخطيطها ومعمارها فكان معنياً به أن يكون نموذجاً مصغراً لسان بطرسبرغ. عاشت غالبية سكان الريف في فقر مدقع كأقنان لساداتهم من الأرستقراطية السويدية والروسية، وكانت فنلندا من أشد مقاطعات الإمبراطورية الروسية فقراً، حتى أن الروبل الروسي كان عملة أكبر من أن يتم تداولها هناك، فأصدرت السلطة المحلية عملة تقدّر بعُشرها. نال الفنلنديون بعضاً من حريتهم متأخراً جداً، ففي العام 1861 تم إلغاء نظام القنانة بشكل نهائي في الإمبراطورية الروسية. 

بعد جولة طويلة على المطاعم المشار إليها في مواقع الإرشاد السياحي، فقدنا الأمل في تذوق الطعام التقليدي. تكلف شريحة واحدة من لحم حيوان الرنة أكثر من خمسين يورو، أما وجبة عشاء بسيطة فقد تكلف حوالى مئة يوريو. لحُسن الحظ، وجدنا بوفيهات السوشي منتشرة في وسط المدينة، حيث يمكنك أن تأكل بقدر ما ترغب مقابل خمسة عشر يورو، وكان هذا مناسباً لموازنتنا. 

لاحقاً، وفي المتحف الوطني الفنلندي، استقبلنا شاب تبدو ملامحه من القرن الأفريقي، وسنحزر أنه من أصل صومالي. لاحقاً سنعرف أن السكان من أصول الصومالية يشكلون الأقلية الأكبر عدداً في المدينة، وبعدهم يأتي الإستونيون. وفي بقية القاعات، سيبدو لنا أن معظم العاملين متحدرون من أصول مهاجرة. وراء أبهة هلسنكي، تحكي مقتنيات المتحف قصة مغايرة للتاريخ القريب، صور مكبرة لأحداث عنف في مدن سويدية ضد المهاجرين الفنلنديين. في الستينيات والسبعينيات لجأ الفنلنديون للهجرة إلى الجارة الإسكندنافية بحثاً عن العمل، لكن حادثة اغتصاب تورط فيها عمّال منهم، وحوادث سرقة لاحقة، ستشعل أعمال العنف ضد الجالية كلها.

حتى الثمانينيات، اعتمد الاقتصاد الفنلندي بشكل كبير على التصدير إلى الاتحاد السوفياتي. ومع سقوطه، انهار الاقتصاد الفنلندي بالكامل، بطول عقد التسعينيات وحتى مطلع الألفية عانى الفنلنديون بشكل كبير. في واحدة من قاعات المتحف، سلسلة من الصور والفيديوهات لمتظاهرين في وسط المدينة، يلفون مشانق حول أعناقهم ويطالبون الحكومة بالوظائف أو الموت. 
في طريق العودة إلى تالين، ستغادر العبّارة ميناء هلسنكي قبل موعدها بربع ساعة مرة أخرى. وحين استفهمنا من الطاقم، أجاب أحدهم بابتسامة فخورة: "نعم، هذا يحدث أحياناً". 
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها