الثلاثاء 2022/12/27

آخر تحديث: 19:43 (بيروت)

الناس وصالة العرض...كل تعريف للفن هو حذف لتعريف آخر

الثلاثاء 2022/12/27
الناس وصالة العرض...كل تعريف للفن هو حذف لتعريف آخر
طقوس الصالة (عن النت)
increase حجم الخط decrease

في حوار بين الأرجنتينيين خورخي لويس بورخيس وإرنستو ساباتو بتاريخ 15 آذار من العام 1975 قال ساباتو لبورخيس: "ربما الفن بالنسبة إلى المجتمع هو عينه بالنسبة إلى الفرد، وسيلة للفرار من الجنون، وهذه هي المهمة العظمى للفن..."، فالجنون هو الشر الأكبر.

يكفّ العمل الفني عن أن يكون محل انطواء بمجرد عرضه أمام الناس، يكفّ في تلك اللحظة عن أن يكون مناجاة داخلية (interior monologue)  بين الفنان ونفسه إذ هو عندئذ أقرب إلى البرنامج السردي (narrative program) إذا أردنا أن نستعير من معجم النقد الأدبي، برنامج سردي بين الفنان والعالم.

فضلاً عن كونه برنامجا سرديا بين الفنان والعالم، فإنّ العمل المعروض على الملء هو أيضاً بمثابة السردية الخاصة لكل من متلقّييه. فالتأويل في هذا الإطار هو سيّد المشهد وما خلفه.

في العاشر من شهر كانون الأول أُفتتح في Chaos Art Gallery في شارع سرسق (الأشرفية - بيروت) معرض جماعي لمجموعة من التشكيليين اللبنانيين. كعادتي في مناسبات كهذه وفضلاً عن تأمل الأعمال المعروضة تراني أتملى في ملامح الناس وقسماتهم مختلساً السمع إلى ملاحظاتهم وتعليقاتهم وهمساتهم حيال هذا العمل أو ذاك، فأنا غالباً ما أتمثّل الحضور في مثل هذه المناسبات كجزء من المشهد العام. كان المشهد في ذلك اليوم وكما شاهدته عبر حركات أجساد الناس ونظراتهم ثم تفاعلهم بين بعضهم البعض وبينهم وبين الأعمال المعروضة، كان المشهد كأنه ردة فعل ضد بلادة الحاضر وفقره وما نرزح تحته في لبنان من ملل قاتل وجلسات خرقاء لانتخاب رئيس. إنّ تأمّل بعض الحضور لهذا العمل أو ذاك كان في بعض نواحيه بمثابة المحاولة لإلقاء القبض على البصر عبر اللوحة أو المنحوتة... ترسم الأريحية الملامح بشدة، فالفن هو الأقل حسماً بعكس العقائد والأيديولوجيات الدينية منها والعلمانية.

ثمة بين الحشد من تراه يرى في الفن واقعة تنبؤية فيتشبّث عبر عينيه في المتواري الخفي في العمل المعروض أمامه... المتواري الخفي خلف حركة المنحوتة وخلف الخطوط والألوان في اللوحة... إنه الحشد في صالة العرض حيث العمل الفنّي هو جزء من المشهد الذي يتحرك والعكس بالعكس.

كل تعريف للفن هو حذف لتعريف آخر، وكل تلقّ من قِبل الناس الذين كنت أراقبهم هو حذف لتلقٍّ آخر. يقال إن الحواس تمنح الناظر المواد الخام لتصوراته بيد أن الحواس في صالة العرض التشكيلي، هي أقرب إلى الضيوف في حضرة الذاكرة، فاللوحة تستحثّ ليس محض العين التي في الوجه إنما تراها تستحثّ أكثر تلك العين الجوانية التي تحدق إلى الداخل.

ثمة من المتلقين من يرى في القطعة الفنية مأرباً لمصارحة نفسه بأمر ما، ولا حاجة ها هنا لمراكمة الحروف والكلمات ولتلك اللعثمات التي قد تستدعيها العواطف والإنفعالات. تُعلّق اللغة في هذا المحل...

في واحد من كتبه الكثيرة، يتكلّم الروائي الإيطالي أمبرتو إيكو عن الأحداث الأزلية المودعة في بعض الأعمال الفنية ليردفه الفيلسوف الفرنسي بول ريكور بالقول: إن ثمة من الأعمال الفنية تراها تسجّل بين متونها الأحداث المرتقبة، تلك التي لم تقع بعد. إنه التأويل الذي يستمدّ مرجعيته من محض سردية الناظر... لا وجود للأحداث يقول نيتشه، بل للتأويلات فقط.

فالعمل الفنّي ليس واقعة قائمة بذاتها وهذا العمل لا يمدّنا بـ"الحقيقة"، بل هو قد يكون بمثابة الدفع بغية التعوّد على العيش بلا الركون إلى فكرة نهائية ثابتة حتى حيال الذات المُؤوّلة، وهذا ما استبقاه الفيلسوف الأميركي ريتشارد رورتي بعد مزجه بول ريكور بإيكو... لا يبقى سوى الحوار مع الآخر أو مناجاة الذات وصولاً إلى الصمت المدوي.

(الفن وناسه)

كنت أترقّبُ عيون الناس في Chaos Art Gallery وفي بالي ذلك التكهّن غير المجدي والذي تبديه واحدة من النساء لرجل يقف بقربها حيال واحد من الأعمال المعروضة. قد يكون الفنان حيادياً إزاء ما تقوله اللوحة ولكن هذا لا يعني أن العمل لا يؤشر إلى أزمة أو مستور أو صمت أو غياب، وإلا فنحن سوف نكون أمام طابع بريدي أو تمثال محدّد المعالم لزعيم القبيلة، وفي الحالة اللبنانية، لزعيم الطائفة... عندما زار المسرحي جورج برنارد شو الإتحاد السوفياتي، نصح المسؤولين هناك بإغلاق متحف الثورة لأن لا مجال للتكهنات في ذلك المكان إزاء الأعمال المعروضة.

فرصد الأعمال الفنية هو عملية مثيرة للإرتباك ومعقدة، ومن حيث لا أحد يدري أن العمل الفني قد يكون حدثاً يستبطن بجوفه الكثير من الأعمال المتداخلة وهو ما حدا بالفيلسوف جاك دريدا لأن يهزأ من شهوة السيطرة على العمل الفني عبر الادعاء بكلية فهمه. ثمة من ربط بين الفن والتوق إلى الفوضى وهو ما يستجيب لمزاج دريدا إلى حد الوله، الفوضى ضد الكسل، ضد البلادة الذهنية وبشكل خاص ضد الخوف من اجتراح الدلالة. لا تَمَوْضُع نهائيا للمعنى في هذا المحل، لا ثبات فولاذيا للمرجعية ولا هوية ثابتة. فالهوية البشرية هي بالجوهر هوية سردية وتعبيرها عن نفسها فنياً هو تبلبل السرديات وتشابكها.

إحداهن كانت قد شابكتْ أصابعها فوق صدرها وراحت تقضم شفتها السفلى وهي تتملى في واحد من الأعمال. أنبأتني نظرات تلك المرأة أن العمل محل انتهاء بالنسبة إلى صانعه فقط أما حقيقة المشهد بالنسبة إلى تلك المرأة فيبدأ حيث انتهى الفنان. قد يملك عمل ما قدرة تحفيزية للذاكرة وآخر لعله يرسم معالم ذاكرة ما سوف يأتي، وربما كان هابرماس يحفر في هذا المطرح بالذات لمّا اعتبر أن الجمالية تتجاوز بالعمق، ترتيبات المعيش اليومي في بعده المحض نفعي... ربما الجمالية بإطلاق هي عين تحدّق في الحياة بعامة وعلى كل حال ثمة شاعر أرجنتيني عتيق وفي سياق علاقة الفن بالحياة في حدود المعيش اليومي قال: في الطريق إلى المقبرة، لا توجد مهنة أدنى مرتبة من مهنة العيش.


قد تكون جمالية العمل الفني تكثيفاً للغز ما، وقد تكون فضّا لهذا اللغز ونشره وربما هي مجرد ترداد لمحض عبارة إيمانويل كنط وهو يتأمّل نجوم السماء ولا شيء أكثر من ذلك.


ثمة إحساس من اللامبالاة الهادئة غالباً ما يرسم وعيي لدى انغماسي بزيارة صالات العرض، نوع من "الرضا والتسليم" على طريقة أهل التصوف من الذين أتلمّس دربهم على الدوام... لا أصل يستوجبه العمل الفني ولا ما بعد... صالة العرض كما أتمثلها في أعماق مزاجي هي حاضر يحفل بماضي الفن وبما يقوله حيال المستقبل ولا علاقة للفنان مطلقاً بكل هذه الأمور ولكن أهم ما تحفل به تلك الصالات هو لغة المجاز وتلك الرغبة بالإيجاز إلى حد انغلاق الآفاق... "بيحتار الواحد شو بَدّو يحكي"، بهذا كلّم أستاذ جامعي صديقه وهما يشربان النبيذ أمام مدخل الغاليري، بعد أن تملّى كل منهما في تفاصيل الأعمال. ربما هي هذه الحيرة حيال إمكان القول تجعل الفن يملك كل هذه السيادة، ربما هذا الإستئثار بالألسن يحوّل صمت العمل الفني إلى فعل ضجيج. يقول أحد مؤرخي الفن إن الهم الحقيقي لسيزان في الحياة لم يكن وضع اللوحات إنما صناعة خلاصه الشخصي. ربّما يشارك ناس الصالات رغبة سيزان تلك. ربما سبر أغوار اللوحة هو إعادة هندسة للذات وربما انتظار المعرض المقبل هو حجة للفرار من شرّ الجنون أو حجة للبقاء على قيد الحياة. فإذا كانت الأيديولوجيا هي شكل ملتو من أشكال التواصل على حد قول واحد من كبار هرمينوطيقيي العصر، فإن التواصل الذي يبثه العمل الفني لا حدود له، لا نقطة انطلاق ولا محطة وصول... فاللذة تكمن في الرحلة، في محض رحلة النظر ورحلة الدلالة ورحلة ذلك التداخل السلس للذوات التي تتداول العمل بنظراتها التي تارة تختلس وتارة تحدّق وتارة أخرى تشيح لا أحد يدري إلى أين.

اجتزتُ الطريق التي تمتد أمام الغاليري ووقفتُ فوق الرصيف المواجه لصالة العرض. كنت على بُعد أمتار عن الصالة وناسها لمّا رحت أراقب هؤلاء الناس كمعروضات أمام عيون تلك الأعمال المعلقة هناك. ماذا يا ترى تقول اللوحة وهي تتملى وجوه الناس في صالة العرض؟ لعل الإجابة في مادة لاحقة.

   

 

  

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها