الأحد 2022/12/25

آخر تحديث: 09:03 (بيروت)

'السباحتان" أو عندما ينتج فائض الأموال المتبقية فيلمًا

الأحد 2022/12/25
'السباحتان" أو عندما ينتج فائض الأموال المتبقية فيلمًا
لا أعلم ما إذا كانت كل من سارة ويسرى مارديني منتبهتان لسياق روايتهما
increase حجم الخط decrease

 

وكأنني خارج للتو من السهرة في مسرح وحانة "مترو المدينة" في شارع الحمرا في بيروت. إنه انطباعي الاول بعد مشاهدة فيلم السباحتان "The Swimmers" الذي يسرد قصة لجوء الشقيقتين السوريتين يسرى وسارة مارديني من الجحيم السوري إلى المانيا، في رحلة الموت التي يجتازها السوريون بشكل يومي هربًا من الموت المحتّم، سواء في البحر أو بأشكال أخرى مختلفة.

لا شيء مريب حتى اللحظة، إلا أن الاستهجان يبدأ كلما أمعنّا في دقائق الفيلم التي تزداد طولًا. فالفيلم يحاول قول كل شيء لكن كل ما يستطيعه هو لا شيء، يتضح ذلك في سلسلة الاختزالات لكل ما مر التاريخ السوري به منذ انطلاق الثورة عام 2011. اختزال الثورة، الإذلال، التعب، التحرش والاغتصاب والهجرة، مشقات السفر، الأمان، الموت، أمراء الاستغلال الذين يمتصّون دماء الشعب السوري بعد أن نهشت دولهم لحمه عندما سكتت عن جرائم الأسد، لاسيما الطائفية منها، وساهمت في إعادة انتاج حكمه بأشكال مختلفة. ومن بعدها، يتكثّف سياق الفيلم، فيساهم بدوره في نهش حتى مخيلة الشعب السوري في رواية قصته.

من الغريب أن يبدأ فيلم وينتهي، وهو يتكلم عن أحوال اللاجئين والمخاطر التي يتعرضون إليها، والشروط غير الإنسانية التي يعيشونها، دون أن يقول، وبشكل مباشر، ما هي المأساة التي يعيشونها، ومن هو مسبّبها. من الغريب أن توجد جريمة دون أن يوجد مجرم، أم هل هي رحلة إرضاء الجميع التي تنتهي عادة بتمييع كل الذي حدث؟ نحن في لبنان نعلم مرارة مثل هذا الطعم، فمنذ انتهاء الحرب ونحن تحت رحمة أمرائها، دون أن نتجرأ على إدانة من قاموا بها بعد أن استأسدنا على إدانتها.

هكذا يمر الفيلم ثقيلًا، تشعر وكأنك الغريق في بحر فاصل بين تركيا واليونان، وليس أولئك الهاربين من الوحشية الأسدية التائهين بين أمواج البحر. إنها رواية سطحية لمجمل سير الأحداث. رواية تكتفي باستخدام كل انتهازية وفردانية عيون الطبقة الوسطى، خلال مشاهدة ومتابعة القشرة الخارجية لكل ما يجري، خصوصًا ذلك الجزء منها الذي كان يمارس حياته بشكل شبه طبيعي في مناطق سيطرة ونفوذ النظام، فكان يسهر، ويدرس، ويمارس تمارينه الرياضية، ويسمع الموسيقى، ويستيقظ وينام في منزله... الخ.

لربما يعتقد القارئ أن الكثير من المبالغة تسيطر على ما نقوله، وأن الحال ليس على هذا القدر من المأسوية. لكن هؤلاء لا يعلمون أن الشروط الطبيعية والبديهية هي كل ما يُحرم الشعب السوري منه، في مناطق الثورة والجماعات المحسوبة عليها، وحتى بعض مناطق غير المحسوبين عليها. وهو بالتحديد ما كان على الفيلم أن يرينا إياه، فيشاهد الناس أن مجرد النوم والاستيقاظ في منزل أصحابه، وشرب مياه نظيفة، هو رفاهية فقدها الشعب السوري، فهذه شرطية اللجوء في كافة تفاصيل الرواية السابقة واللاحقة.

كل هذه المعطيات لا تَرِد في الفيلم، وإن وردت فبشكل سريع واختزالي لا تعود الجريمة معه جريمةً، ولا الشقاء شقاءً، ولا الاذلال إذلالًا... الخ. مجرد استعراض سريع ومفكك لكم هائل من المعيطات غير المربوطة ببرميل متفجر أطلقته طائرة أسدية على حي. برميل لم يفرّق، لا هو، ولا مطلقه، ولا النظام من خلفه، بين ثائر أو طفلة أو كهل أو أم وأرملة.

لربما يعتبر البعض أن الفيلم ليس ملزمًا بسرد هذه الوقائع، لكن المشكلة أن أي سرد للرواية السورية لا بد أن يسير في سياق هيمن على كل السياقات. وهذا ما لا رأي فيه، لا لإرادة الكاتب، ولا المخرج، ولا المنتج، وإلا بقيت الرواية مبتورة ومكتفية ببعض التفاصيل المملة التي تحتاج إلى مضمون يقول القول السوري فعلًا. لعلنا، حينها، لا نشعر وكأن انتاج الفيلم تم بفائض أموال متبقية من مشروع فازت منظمة غير حكومية به، وها هي بحاجة لصرفه قبل انتهاء المدة. تمويل غير مصروف أنتج فيلمًا، فأتى على هذا النحو من التفكك.

لا أعلم ما إذا كانت كل من سارة ويسرى مارديني منتبهتان لسياق روايتهما في الفيلم، لربما وافقتا عليه، إلا أن المروي هو قصتهما كفتاتين، بشكل فردي، وإن أتت الإشارة إلى المأساة الجماعية كتشكيل بسيط في سياق عرضي لا يغيّر شيئًا في مجمل المشاهد. فالفيلم عبارة عن محاولات فردية للبحث برفاهية، نشاهده يطرح المسألة الجماعية بشكل اختزالي غايته تبرير الأنانية أكثر من طرح القضية.

لعل المشاهدين يرون أنها قصة فتاتين هربتا من واقع مغلق ومميت إلى آخر مفتوح تشعران فيه بالأمان. لكن اختزال الأسباب لم يوضّح رحلة الانتقال هذه، ولم يُظهر تلك الإشكالية بالتفارق. بل كل ما وصل من الفيلم هو رسالتين لا أكثر: علم النظام السوري من جهة. وجملة والدة الفتاتين، في بداية الفيلم، عندما دخلت ورأت ابنتها سارة تتابع خبر انفجار الشارع السوري في ثورته على غرار تونس ومصر وليبيا، فما كان منها إلا أن قالت، وبشكل يريد الفيلم من خلاله إعادة بث روح اليأس وعدم القدرة على التأثير: "أنا قلتلك هيك شي مستحيل يصير بسوريا".

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها