الأربعاء 2022/12/21

آخر تحديث: 13:34 (بيروت)

عندما نصبح جميعنا عاطلين عن العمل؟

الأربعاء 2022/12/21
increase حجم الخط decrease
يمكن أن نتخيّل حدثَيْن قد يقلبان الموازين العالمية الاقتصادية والاجتماعية والفكرية ويشكّلان منعطفاً تاريخياً راديكالياً في تاريخ البشرية.

الحدث الأول، أن لا يعود للبشر من لزوم في معظم الأعمال التي نقوم بها حالياً. أن يصبح معظمنا، لا بل جميعنا، عاطلين عن العمل بعد أن يُستعاض عنّا تدريجياً بالآلات الذكية والروبوتات المتقدّمة. الحدث الثاني، بعد أن نصبح عاطلين عن العمل، تقوم الحكومات بصرف مبلغ شهري كدخل أساسي مضمون لجميع المواطنين، بغض النظر عن وضعهم الاقتصادي أو الاجتماعي. دخل أساسي مقابل لا شيء، أو بالأحرى، من أجل أن نستطيع شراء الطعام والشراب كي لا نفنى فقراً.

الحدثان مرتبطان. فلولا الأتـْمَتة (Automation) والروبوتات التي تغزو العالم لما تحدّثنا أو احتجنا إلى ما يُتداوَل حالياً في المعجم السياسي بـ"الدخل الأساسي الشامل Universal Basic Income". فكرة الحصول على دخل مضمون مجّاني فيها الكثير من الجاذبية في الحقيقة. لا بدّ حلم بها وتمنّاها الكثير من المبدعين من فنّانين وكتّابٍ للتخلص من مسؤوليات الوظائف القاتلة للوقت. ومع أن المقال بدأ من باب التخيّل، إلّا أن فكرة الدخل الأساسي انتقلتْ في السنوات الأخيرة من الهامش إلى المتن. العديد من السياسيين وعلماء الاجتماع صار يتحدّث عن الدخل الأساسي كفكرة جدّية، ستزداد ضرورتها مع تقدم التقنية. من أشهر من روّج لفكرة دخل شامل لجميع المواطنين السياسي الأميركي أندرو يانغ (بدعم سياسي من بعض الديموقراطيين اليساريين) أثناء حملته الانتخابية الرئاسية العام 2020. يانغ جادل بضرورة بدء صرف راتب شهري (ألف دولار) لكل مواطن أميركي. رجل الأعمال الأميركي إيلون ماسك أيضاً من داعمي فكرة الدخل الأساسي الشامل.

هل اقتراح الحصول على دخل مجّاني فكرة مجنونة، غبية، مُفسِدة، غير ضرورية؟ قد تبدو كذلك الآن، لكن بعد عشرين سنة، أو ثلاثين، على الأغلب سيحتاج الكثير الكثير من البشر إلى دخل ثابت مقابل عمل لا شيء. لن يكون ذلك بسبب يوتوبيا يسارية متحقّقة، أو انحطاطاً في هاوية الإسراف. بكل بساطة قد لا يكون لدى الحكومات والأنظمة من خيار، إذا أرادت أن تحافظ على السلم الاجتماعي في بلدانها.

مع انقضاء كل عام وكل عقد، خصوصاً في السنوات الخمسين الأخيرة، يتطوّر الذكاء الاصطناعي وتتوسّع مجالات استخدامه. ربّما لا ننتبه الآن كثيراً، أو ننتبه ولكن لا نقدّر حجم التغيير الذي يحصل، لكن خوارزميات الذكاء الاصطناعي، والروبوتات بأشكالها البدائية إلى الأكثر تقدّماً، باتت تقود وتسود الكثير من مفاصل صناعاتنا وخدماتنا واقتصادنا وحياتنا الإنسانية. إذا استمر الوضع على ما هو عليه، لن يبقى لدينا شيئاً نفعله لنملأ به أيامنا الطويلة. الذكاء الاصطناعي سيقوم بجميع الوظائف التي نشغلها الآن.

الخبز والسيرك
الشاعر الروماني جوفينال كان أول من استخدم عبارة "الخبز والسيرك" في القرن الثاني قبل الميلاد هجاءً للانحطاط الشعبي نحو الترفيه والكسل. باتت العبارة مصطلحاً سياسياً لأساليب إلهاء الشعوب والحفاظ على السلطة السياسية. خبزٌ وترفيه مقابل السلم. سياسة منح حبوب القمح المجانية للمواطنين الرومان كانت إحدى السياسات التي اقترحها السياسي الروماني جايوس جراكوس (121 ق.م) للحفاظ على السلم الاجتماعي وإرضاء المواطنين الذين فقدوا أعمالهم لدى ملّاك الأراضي بعد استقدام العبيد وتشغيلهم. العبيد اليوم هم تلك الآلات الذكية التي تستطيع أن تقوم بأعمال خمسين إنساناً في الوقت نفسه.



اليوم، في أميركا مثلاً، 30% من الأسواق التجارية الكبيرة، بالعدد الهائل من الوظائف التي توفّرها، ستُغلق في السنوات الخمس المقبلة بسبب شركة "أمازون" التي توظّف الأنترنت والذكاء الاصطناعي لتسهيل التسوّق. افتتحتْ أمازون في كاليفورنيا سوبر ماركت مؤتمتْ بالكامل، لا يعمل فيه عامل واحد. الصين بدأت بافتتاح مطاعم مُخدَّمة بالكامل من روبوتات متقدّمة، مُبرمجة للطبخ وخدمة الزبائن والتنظيف. وإذا كان بعض القرّاء يعتقد أن عملهم استثنائي لا يمكن أن يقوم به روبوت، عليهم إعادة النظر في اعتقادهم هذا. بدأ الذكاء الاصطناعي يقتحم مجالات عمل أكثر تعقيداً.

في سلك المحاماة، بدأت بعض الشركات الاستعانة بروبوتات لقيام ببعض الأعمال المكتبية. والمحامي الروبوت آتٍ قريباً. في المجال الطبّي الذي أعمل فيه، خوارزميات الذكاء الاصطناعي أصبحتْ تحلّ الكثير من مشاكل تشخيص الأمراض وقراءة الصور الشعاعية. أعتقد أن لحظة ولادة طبيب روبوت كفؤ على بعد عقود قليلة (أنتجتْ شركة IBM الطبيب الروبوت واتسون، لكنه ما زال على ما يبدو يرتكب الكثير من الأخطاء). سيكون لدينا موظف الاستقبال الروبوت، المحرّر اللغوي الروبوت، المـُترجِم الروبوت، حتى هذا المقال، لا أشكّ أن روبوتاً ما بعد عشرين أو ثلاثين سنة سيستطيع كتابة ما يماثله.

الآن، تقنية الطباعة ثلاثية الأبعاد (3D printers) بدأت تُستَخدم (في الواقع اليوم، لا في أفلام الخيال العلمي) في عمليات البناء. عملية بناء بيت صغير تستغرق أياماً معدودة بهذه التقنية، وستُمكّن على مستوى العالم الاستغناء عن ملايين عاملي البناء والمهندسين والمتعهّدين. السيارات ذاتية القيادة حقيقة الآن وباتت متقدمة جداً. سائقو الأجرة وسواهم سينضمّون إلينا أيضاً، إلى العاطلين عن العمل المستقبليين المحظوظين.

حسب معظم التقديرات، سيكون النموذج الاقتصادي الذي سينتج عن غزو الذكاء الاصطناعي مفاصل الاقتصاد على الشكل التالي: شركات ومصانع وأدوات إنتاج يُديرها عدد قليل جداً من نخبة بشرية اقتصادية حاكمة، توظّف ملايين الروبوتات كعمّال وموظفين لديها. ستزداد فعّالية هذه الشركات وقدراتها الإنتاجية بشكل مذهل وتزداد السيولة النقدية لديها بطريقة غير مسبوقة. فالروبوتات ليست بحاجة لرواتب، كما أنها لا تحتاج إلى النوم والطعام ويمكنها أن تعمل 140-160ساعة أسبوعياً. بهذه الأرباح الكبيرة، ستعمل الحكومات على اقتطاع ضرائب كبيرة منها، ثمّ توزيع هذه الضرائب على كتلة مواطنيها على شكل دخل أساسي عام للجميع. هكذا يسود السلم الاقتصادي الاجتماعي، وتستمر الدورة الاقتصادية بالدوران، وإن بأسلوب مغاير.

لكن حتى لو توفّر الراتب المجّاني وكفاف العيش للمواطنين، ماذا سيفعل العاطلون عن العمل بوقتهم؟ بعض الدراسات المستقبلية تقترح أن الذكاء الاصطناعي سيسمح لنا، نحن البشر، استغلال الوقت أكثر في نشاطات إبداعية. الافتراض هو أن العديد من الناس سيتجهون بوقتهم الزائد إلى الفنون والخلق والإبداع. لكن هذه التكّهنات قوبلت بالكثير من التشكيك. فعملية الإبداع غير مرتبطة بتوفّر الوقت فقط، بل بصفات واهتمامات شخصية أخرى غير موجودة لدى الكثير من البشر. النسبة الأكبر من المواطنين سيبقون بلا عمل وبلا نشاط إبداعي يمكن أن يملأ حياتهم. 

الإحساس بالفائدة
العمل في الحقيقة، بالنسبة لغالبية البشر، أكثر من مجرّد وظيفة لتحصيل المال. نتائج الدراسات الاجتماعية واضحة. العمل يمنح للإنسان معنى لحياته، هدفاً يسعى وراءه. يمنحه إحساساً بالفائدة والقيمة والرضى. العمل جزء من هوية الإنسان، وإلغاؤه يمكن أن يعرّض الهوية الإنسانية إلى أزمة كبرى.

الحديث عمّا يمكن أن يحدث في المستقبل ليس من أجل التسلّي في إثارة الرعب والإحباط. لكن أعتقد أن فهم التغييرات العميقة التي نمرّ بها، والحدس بالمستقبل المبني على الحقائق، يمكن أن يساعد الثقافة البشرية العامة على الاستعداد والتأقلم وعدم فقدان السيطرة على مصيرها. هذا ما تسعى إليه معظم الدراسات المستقبلية.

الهوموسيبيان عبر مسيرته التطورية الطويلة، أثبت دائماً على قدرة استثنائية هائلة على التكيّف والتبدّل والبقاء على قيد الحياة، وإعادة تعريف المعنى من جديد.  

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها