السبت 2022/12/17

آخر تحديث: 12:53 (بيروت)

الأدب والحزب المسلح... مذكرات شرطي لبناني سابق

السبت 2022/12/17
الأدب والحزب المسلح... مذكرات شرطي لبناني سابق
الحزب هنا في الجنوب، إذا أعلن "أن اثنين واثنين يساويان خمسة علينا أن نصدق ذلك"(غيتي)
increase حجم الخط decrease
مع الأيام أخذتْ علاقتي مع الجنوب تتوطد باعتباري إكسسواراً من اكسسوارات الدولة اللبنانية، في هذا الجزء من لبنان، واقتنعت أن جلّ مهامنا في الجنوب يقتصر على الإبتسام لعناصر الأمم المتحدة من هنود وغيرهم، كي يلتقطوا لنا الصور ثم إرسالها إلى كوفي أنان في نيويورك مع تقارير تفيد أن الدولة اللبنانية تتقيّد بتنفيذ القرارات الدولية وعلى رأس هذه القرارات القرار 1701.



حسناً، إنها دولتنا المنكمشة على نفسها أمام جبروت الأحزاب، وقد بلغ هذا الإنكماش ذروته أمام حزب إيران في لبنان المعروف بحزب الله.

نحن كقوى أمنية هنا في الجنوب، لا شيء، كان عليّ التشبّع بهذه الفكرة، لا شيء... مجرد كائنات ترتدي ملابس عسكرية وآليات تجول في القرى وعسكر يأكلون البطيخ في سهل الوزاني الفسيح. أما على المستوى الشخصي، فإن الخدمة في الجنوب قد زودتني بكمٍّ هائل من الوقت للإندراج أكثر في عالم القراءة والكتب والكتب والكتب... أكبر كمية من الكتب قرأتها أثناء حياتي الدركية كانت في الجنوب... لا شغلة ولا عَمْلة.

"أوف... بتْضَلّكْ تدرس؟!!!!" هذا ما كان يردده على مسامعي بشكل دائم زملائي في ثكنة مرجعيون من درك وجيش.

نحن هامش الأمن والاستقرار والسيادة، جُلبنا إلى هنا لمحض تأكيد كذبة تقول أن الدولة اللبنانية وبعد الانسحاب الإسرائيلي في العام 2000 تبسط سيطرتها على كامل "تراب الوطن".

ما الوطن؟ لست أدري، لقد قيل في هذا الكثير ولم تعنِني عبارة واحدة من كل ما قيل.

راح الشعور بالمهانة الشخصية أمام جبروت حزب الله يتقلّص، إذ أن الموضوع في نهاية الأمر ليس شخصياً بين الحزب و"فوزي ذبيان"... "أصلاً مين فوزي ذبيان... ههه"، لا أحد، مجرد بزّة رمادية وقبعة فوق الرأس وقطعة سلاح هي أقرب إلى الخردة أمام ذلك السلاح الآخر... يقول الروائي الألماني غونتر غراس، في رائعته "الطبل الصفيح"، وعلى لسان إحدى الشخصيات، إن العالم غامض وبربري ومضجر. نعم إن العالم هو كذلك بالفعل... أعدتُ قراءة غونتر غراس ومئات الروائيين الآخرين، وصار الأدب في هذا المكان هو حجة بقائي في العالم، وقد تأصّل فيّ افتراض يقوم على المعادلة التالية: الأدب هو العالم الحقيقي، وما يسمى بالعالم الواقعي هو افتراض في غير محله ويجب عليّ رميه في أقصى زوايا اهتماماتي.

في رواية "الطبل الصفيح"، يقول الولد أوسكار صاحب الحدبة، متباهياً بحدبته أو مقنعاً نفسه بجدواها: "لو كانت ليسوع حدبة لأصبح من الصعب عليهم تثبيته على الصليب بالمسامير"، نحن أيضاً كقوى أمنية توسلنا حدبة ضعفنا، بل ترانا اعتمدناها وسيلة إقناع ذاتي ورضا أمام صفاقة السلاح غير الشرعي الذي كان يرسم خريطة تحركاتنا هناك في الجنوب.

كثيرة هي الكتب التي أرشدتني إلى حسن السبيل في ثكنة مرجعيون، طيلة الثلاث سنوات التي قضيتها هناك، وتصالحت مع نفسي كواحد هو لا أحد، إذ وكما يقول لويس سبولفيدا في "العجوز الذي كان يقرأ الروايات الغرامية": "الذنب ذنب الحكومة إذا كانت أسنانك نخرة وإذا كنت تتألم...". نعم، هو ليس ذنبي أن ثمة من عمل على قلع أسناني كعنصر قوى أمن في الجنوب، وعليّ حيال هذا القلع أن أخالف محمد شكري قوله في "الخبز الحافي": "أنا لا أستطيع أن أتعوّد، ولا أريد أن أتعوّد"، أما أنا وبعكس شكري، بلى، عليّ أن أتعوّد وسأتعوّد.

قرأتُ كثيراً في ثكنة مرجعيون، في قلب الثكنة تحت الشجر، فوق السرير، أثناء التمركز في الحواجز النهارية وبشكل خاص الليلية، ومدّني الأدب الذي قرأته بحصون فاقت توقعاتي في المتانة والتماسك وشدة البأس. وها هو مارسيل بروست يهمس في أذني على حاجز الخردلي عند الساعة الثانية بعد منتصف الليل: "فن العيش بأسره يعني الإنتفاع ممن نعاني بسببهم".

حسناً، ألف شكر لحزب الله، وقد عقدت مع عناصره اتفاقاً، حتى هم لا يدرون بأمره، مفاده الانتفاع من وجودهم بما لم يكن في الحسبان.

زيّنتُ لنفسي الإقامة بالجنوب وجعلت من هامشيتي هناك فسحة شاسعة وقد أسعفتني الحيلة بتبديل المفاهيم وصولاً ربما إلى خداع الذات... في كتابه "بلدي" يقول رسول حمزاتوف: "حين يراد إجراء طهور لولد يرونه ريشة وزة للتمويه فقط، فالطهور لا يتم بريشة وزة بل بسكين قاطع".

فضّلتُ إبان خدمتي في الجنوب أن أعرض النظر عن السكين القاطع الذي كان يبتر حضورنا كل يوم، والتمسّك بريشة الوزة شأن أطفال بلد حمزاتوف.

ربما هي الحياة برمتها تستدعي أحياناً هذا النمط من الإعراض. فبورخيس بثّني تحت إحدى شجرات ثكنة مرجعيون أحد أسراره: "هذا هو النحو الذي أرى عليه الحياة، رعب دائم، تشعّب متصل للمتاهة".

بيد أن انزياحي إلى عالم الأدب مكّن قلبي من المكوث في ردهة تبعث على الإطمئنان والتسرية عن النفس... جاء على لسان سيوران عند مدخل بلدة الخيام قوله: "مهما كان رفضنا باتاً فإننا لا نحطم تماماً موضع حنيننا".

إنها الحياة بين بين، ونقطة التلاشي في هكذا حيز غالباً ما تكون صعبة المنال... اندرجتُ في الجو العام لزملائي الدركيين، واندرجت أكثر ولأسابيع في أجواء بول أوستر، وصرت مثل إحدى شخصياته في "ثلاثية نيويورك" إذ "لم أعد أرغب في أن أموت وفي الوقت نفسه لا يمكن أن يقال أني سعيد لأني على قيد الحياة، لكن على الأقل لم أعد أضيق بهذا الأمر ذرعاً".

إنه الجنوب المحرر، إنها ثكنة مرجعيون التي يشي وجودنا فيها أننا قد تطفلنا عليها، ولا بأس أن ألبرتو مورافيا قد سبقني في نقل هذا الشعور في إحدى رواياته: "... كان السكان الحقيقيون للفيلا هم قطع الأثاث ونحن مجرد متطفلين نقتحم المكان عنوة".

نعم، أرخيت لنفسي العنان بما يشاء الروائيون، ووجدتني بين صفحات كتبهم كالجثة بين مغسليها، وقد أقنعني آلان روب غرييه بقوله "أنه يحق للكاتب تغيير عادات قرائه"، فهذا الرجل أخبرني أثناء أحد التمركزات بضواحي بلدة كفركلا "أنه يستطيع أن يعبّر عن الأشياء بقناعة تامة من دون التسليم بأنها حقيقية"... لِمَ لا؟! فلأقتفي أثر غرييه في هذا الشأن وبلا الغوص في تأملات ومواعظ داخلية حول الحقيقي واللاحقيقي أو حول الصح والخطأ، "فالعمر قصير والموعظة طويلة"، على حد قول واحد من أصدقائي المتصوفين ربما هو أبو يزيد البسطامي أو أحد غيره، لم أعد أذكر.

لا شيء حقيقياً في جنوب لبنان، لا شيء ينسجم مع الشرط الأدنى لمفهوم الدولة، فلأكتفي بالأدب إذن، وليذهب جان جينيه وعبارته التالية إلى الجحيم: "هناك شبح خطر يتهددنا بأن نصبح شيئاً لا نريده في حقيقة الأمر". كلا، كدركي فلأكن ما يريدونني أن أكونه وسوف أكتفي من جان جينيه بالعبارة التالية: "إن صلعتي تشبه مؤخرة قرد".

فالإله هنا بغاية الصراحة، ومن الحماقة بمكان تحدّي هذه الأنماط من الآلهة، فأنا لست في جنة زوربا حيث "الله يبدّل وجهه في كل لحظة"، إنما أنا في الجنوب اللبناني تحت هيمنة حزب الله حيث لا نيكوس كازانتزاكيس ولا نجيب محفوظ... فـ"أولاد حارتنا" اللبنانية في الجزء الجنوبي من هذه الحارة "قد تخندقوا في أذواقهم ومعتقداتهم وأحكامهم المسبقة وأغلقوا الأبواب أمام كل ما هو مختلف"، وهي عبارة قرأتها في مذكرات غابرييل غارسيا ماركيز في نيسان2004 في ثكنة مرجعيون.

غصتُ في الأدب عميقاً، وكتمت صيحات احتضاري كرجل أمن أمام عناصر حزب الله، فأنا وكل زملائي الدركيين لم نكن في حضرة هؤلاء حتى مثل جرذان كامو في رواية الطاعون، تلك الجرذان "التي كانت صيحات احتضارها تُسمع واضحة ليلاً في الممرات والأزقة"... نحن كنا مكتومي الصوت.

كان وجودنا كدرك وجيش ينمّ عن غياب مطلق، وقد انعكس هذا الغياب في الرتابة التي كانت تداخل يومياتنا حيث الروتين يماثل الموت، كنا مثل مجانين تشيخوف في العنبر رقم6 والحزب هنا في الجنوب كان إذا أعلن "أن اثنين واثنين يساويان خمسة علينا أن نصدق ذلك"، بلا جدال كما يقول واحد عزيز على قلبي تمتّنتْ صداقتي به في مرجعيون عميقاً ويدعى جورج أورويل.

إنها الحياة التي كان علينا الإندراج ضمن متونها المهينة، شأن دولتنا كلها، بانتظار... لست أدري بانتظار ماذا... ربما بانتظار "حياة في مكان آخر"، حياة ما، حياة أخرى، لا أحد يدري متى وأين.

"يا عبد، الحرف خزانتي، فمن دخلها فقد حمل أمانتي".

ربما الحرف هو ذلك المكان الآخر الذي تنتعش فيه الحياة بجوار رب غير مسلّح، رب صديق يثق في ناسه ولا يخاف عدم توجههم إليه بالطاعة العمياء والتي تقوم على البطش بالآخرين... رب مرحرح تربطه بناسه أواصر الصداقة لا الإنضباط... رب عشقته بعدما عرّفني عليه صديق عزيز تعرّفت عليه في الجنوب ويدعى محمد بن عبد الجبار بن الحسن النفّري.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها