الإثنين 2022/12/12

آخر تحديث: 11:14 (بيروت)

"ديستوبيا" تحويل وتدوير الثورة إلى ثروة

الإثنين 2022/12/12
"ديستوبيا" تحويل وتدوير الثورة إلى ثروة
increase حجم الخط decrease
في مسرحية "المزبلة الفاضلة" للكاتب السعودي عباس الحايك، أو "ديستوبيا" كما قدَّمها المُخرج المسرحي السوري مأمون الخطيب على خشبة مسرح الحمراء، سنرى كيف آلَ استعمال (الفساد) السياسي والاقتصادي والقانوني إلى تدمير الدولة/ البلد، فتتحوَّل إلى مزبلة، وفوقها يقوم أولو الأمر بالمتاجرة بالفساد، ومن ثمَّ بالمزبلة، حين يقرِّر القشَّاش صاحب المزبلة (أدى دوره الممثِّل غسان الدبس)، بطرد اللاجئين إليها والذين يتمسَّكُونَ بالمزبلة، ويحتفلون بتمسُّكِهم بها بمناسبة مرور ثلاث سنوات، وعلى شموع قالب حلوى ألقت به إحدى الأُسر في المزبلة: المرأة أدَّت دورها الممثِّلة رنا جمول، والتي هي هنا حامل الحقائق التاريخية على فساد دولة يئست من شفائِها من مرض الفساد فأُصيبت بمرض الكآبة والقرف من أمل بالخلاص لا يجيء، الكاتب أو المثقَّف المقهور أدَّى دوره الممثِّل إبراهيم عيسى، الممثِّل المسرحي الشاب أدَّى دوره رامي خلو، الممثِّل إبراهيم عدبة المواطن الذي لم ينفذ وصية والديه بالحفاظ على شقيقته واللذان افترَسَتهما الحرب.

الفساد يتقدَّم، وكل الحروب للقضاء عليه أو لمحاسبته كما سانشو سرفانتس وهو يُحارب طواحين الهواء في المشهد الذي سبق الاحتفال بالبقاء على سطح؛ وفي عمق المزبلة، تحدياً للقشَّاش الذي سيُرسل الجرَّافات لإزالة المزبلة، وإقامة – أو تدوير الفائض من الزبالة، كي يبني مكانها مجمَّعاً تجارياً؛ ذلك لتحويل وتدوير الثورة إلى ثروة.

المخرج مأمون الخطيب لَعِبَ على نصِّ عبَّاس الحايك فاشتغل دراموتوجيا النص، وأخذه إلى حيث يتَّفق ورؤيته الإخراجية، وقد أضاف إليه شخصية المرأة. الخطيب لم يقف أمام الكارثة الأخلاقية التي من فساد الأنظمة وأوقعت الناس في الحضيض متفرِّجاً، في عرضه "ديستوبيا" كان يتمسَّك بالمزبلة فلا تتحوَّل إلى فولكلور. فالناس لجأوا إلى المزبلة كمنفى اختياري حيث لا ظلال ولا هيمنة ولا سيطرة للفاسدين عليها، إذ لا يمكن أن يستثمروا حتى المزابل باعتبارها مكباً لأوساخهم، لروائح خَمَمْهم وعفنهم؛ ومن مساكنهم المطلَّة عليها وهي تُلقي بأضوائها خارج النوافذ- وهذه من المرَّات النادرة التي يتمُّ فيها توظيف عناصر السينوغرافيا لتكون بطلاً في العروض المسرحية السورية صمَّمها ونفذها: ريم الماغوط- ديكور، بسام حميدي- إضاءة، محمد عزاوي- موسيقا، أحمد العلبي- أزياء، إنجي سلامة- ماكياج.

وهذا موقفٌ أخلاقي من المُخرج الخطيب وهو يُرينا الروح الإنسانية وهي تعيش في أقسى درجات الألم والعذاب فتكون السينوغرافيا روحاً إلى جانب أرواح هؤلاء الذين لم يتبقَّ لهم غير المزابل وطناً. روح أرواح لم تُصبْ باليأس التاريخي رغمَ أنَّها جُرِّدت من حقوقها- تعيش بلا حقوق، وقد نُزِعَتْ منها كل ملكياتها، ورغم هذا لم تنتحرْ، ولن تتخلىَّ عن المزبلة. فأن تعيش في مزبلة فاضلة أفضل من أن تعيش في دولة فاسدة يتعذَّر أو يتعثَّر النضال السلمي فيها فلا تتحوَّل إلى مومياء؛ لا أذن تسمع ولا عيناً ترى؛ دولة تتكالب عليها كل الضباع وتحولها إلى مكبٍ لأوساخ ضباع رأس المال فتصير مزبلة كونية.

في الانفعالات والحركة؛ كان أداء الممثلين رامي خلو وإبراهيم عدبة في المشاهد الأولى من بداية العرض ولمدة 15 دقيقة في حالة جيشان وفوران انفعالي حدَّ عدم السيطرة على شخصيتهما/ دوريهما، وهما يتحركان في المزبلة من مقدِّمة المسرح، ومن ثمَّ التحوُّل إلى يمين ويسار وعمق الخشبة. في اليمين؛ والمرأة على كرسيِّها يُناظره كرسي الكاتب علي اليسار، كانت المرأة في حالة تقوقع، لكنَّها كانت تحسب وتزن كل حركة أو إشارة- لم تكن منفعلة كما الممثلين رامي خلو وإبراهيم عدبة، كان جسدها مُدْبِراً- رأسها وجذعها يميلان إلى الخلف، لكنَّها كانت في حالة إقبال عقلي ما يكشف عن مشاعرها الساخطة التي شاركها فيها الممثِّل إبراهيم عيسى في دور الكاتب المثقَّف والمتأثِّر بنيتشه إذ ينسب إليه أقوالاً لنفي أو تأكيد فعل بشكل ساخر وهازئ، وهو يخفي ثورته وانفعالاته العنيفة تجاه الفاسدين الذين ورَّطوه في اختيار هذه المزبلة الفاضلة وطناً- لقد كانت حركاته مكبوحة ومُقيَّدة، وكان يُطابق ما بين القول/الإلقاء، والفعل/الحركة وهو على يسار الخشبة، فيضعنا المخرج مأمون الخطيب في صورةٍ/مشهدٍ بتوازناتٍ بصرية ذات ثقل متوهج؛ إنْ على اليمين حيث المرأة الأنثى الوحيدة في المسرحية كحالة وجودية، وإنْ على اليسار حيث الرجل، إذ حوَّلهما إلى مصدر أفكار وقوَّة منجذبة وجاذبة للمتفرِّج، فحقَّق حالة إشباع من التوازن الفني والفكري.

مسرحية "ديستوبيا" لمأمون الخطيب بعد عروض دعوية عن الحرب وعلى خشبة مسرح الحمراء بدمشق آخرها (نقيق)، دفعتنا للتساؤل: لِمَ لَمْ يُسمِّ المؤلف مِنْ قبل، والمُخرج مِنْ بعد هذه المزبلة بمزبلة النفايات الخطرة؟.. وتذكَّرت؛ أنَّ العرب الحاكمة لم يتحوَّلوا إلى دولة خَطِرة عندها نفايات نووية، وإلاَّ لما كانت هذه السينوغرافيا الأنيقة والباذخة بعناصرها التي شكَّلها ونفذها: بسام حميدي، ريم الماغوط، محمد عزاوي، أحمد العلبي، إنجي سلامة. لكنَّنا نسأل: مَنْ ينهب الثمار ويلقي بالقشور في هذه المزبلة التي لم تسلم من القشاش وأنيابه الوحشية، وهو يكشف عن وجهه السافر بأنَّه وفي المشهد الأخير، سيحولها إلى مجمَّع تجاري؟.. قشاش ينوب عن تجار الكساد والفساد والأزمات والحروب، وهو ما يثير عقول سكَّان المزبلة ويشحنها بالثورة، فلا مدينة فاسدة ولا مزبلة فاضلة، طالما أنَّ العلاقة في المزبلة هي كما العلاقة بين السيِّد والعبد، علاقة تقييد لحريَّة الإنسان، بل ولإخضاعه، وهذا ما يقاومه الزبالون الفاضلون. 
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها