الثلاثاء 2022/11/08

آخر تحديث: 19:45 (بيروت)

آخِر ما كتب علاء عبد الفتاح..

الثلاثاء 2022/11/08
آخِر ما كتب علاء عبد الفتاح..
من الاعتصام أمام السفارة البريطانية في لبنان تضامناً مع علاء عبد الفتاح والمعتقلين في السجون العربية (علي علوش)
increase حجم الخط decrease
علاء عبد الفتاح، فكرة. لا لأيقونية تتلبّسه ويتلبّسها، بل بالضبط لأنه جَسَدٌ يحتضر بفعل الإضراب عن الطعام في زنزانته منذ أكثر من 200 يوم، وأخيراً الإضراب عن شرب الماء منذ أيام لا يجرؤ ذهن على التكهن بها كيف مرّت عليه وعلى أحبّته. وقبلهما، بفعل القمع.


هو فكرة، لأنه هذا الجسد المادي المتلاشي، على حافة الموت، كفعل احتجاج، مقاومة. لأنه، كقيمة، أحد الروابط النادرة، النادرة جداً، الباقية للعالم العربي مع ربيع ثوري منكوص. هو فكرة. لأنه شاب "عادي"، ومناضل استثنائي. شخص واحد. شخص يساوي فكرة بمليون.

علاء الناشط والمثقف والكاتب المُساجِل، وعائلته، خلف القضبان وخارجها، حالة، ظاهرة، لا تشبه إلا نفسها. حديديةٌ طرية لا تعترف بأقدار الكَسر. عزيمة وصمود ومناوءة للظُّلم والعسف حتى الرمق الأخير، حرفياً.

والدته الأستاذة الجامعية ليلى سويف التي افترشت الأرض أمام السجن، وقبل ذلك ناضلت لاستقلالية الأكاديميا. والده أحمد سيف الإسلام، الشيوعي الذي نشط ضد نظام السادات، وعرّج على المقاومة الفلسطينية في جنوب لبنان، ثم قضى سنوات في سجون مبارك وتعرض للتعذيب قبل أن يخرج بشهادة جامعية في الحقوق. شقيقتاه الداخلتان الخارجتان أبداً من السجن، مثله. زوجته، وطفله الذي زار أباه في محبسه وكان ابن أيام. وخالته الروائية، أهداف سويف، الشهيرة بنشاطها الأدبي والحقوقي من أجل القضية الفلسطينية، وتابعها كثر مؤخراً كناشطة للدفاع عن البيوت-العوامات في النيل، والمُزالة بلا مسوغات قانونية، ومن بينها بيتها حاوي ذاكرتها.

حتى الكتاب الذي جُمعت فيها نصوص علاء على أوراق زائلة، نتاج كفاح. مجرد التفكير في أن كتاباً، ليلتئم بين ّدفتين، احتاج وحده مخاطرات وجرأة وقلوباً ميتة إلى هذا الحد، فهذا ما يستدعي سيلاناً بارداً في الجسم والضمير. إذ ينقل الكاتب السوري، ياسين الحاج صالح، عن والدة علاء، في مقدمته لكتاب "شبح الربيع": "قبل جائحة كوفيد-19 كانت الزيارة لنحو ساعة أسبوعياً، وكانت تتفق مع ابنتيها منى وسناء على أن تطرح كل واحدة منهن ثلاثة أسئلة على علاء، تحفظها جيداً قبل الزيارة، ثم تبذل الأم والأختان الجهد اللازم لحفظ إجابات علاء، وما إن يخرجن من السجن حتى يسارعن إلى تفريغ الأفكار المهربة من الذاكرة". مجدداً، علاء فكرة. مُهرّبة لا هاربة.

رؤية علاء عبد الفتاح من خلال الكلمة هذه، لا إطلاق فيها، ولا تجريد يبخس الألم والمعاناة حقّهما. لا رطانة ولا تمجيد مجانياً، ولا حتى شِعر. الفكرة، بما هي عُملة كونيّة، أهم وأحلى من الرمز الذي قد يتهالك بمرور الزمن. للفكرة حياة، عابرة للحدود، وكل اختلافات المجتمعات في عراكاتها مع السلطة بشتى أنواع تسلّطها وتراكيبه. الفكرة بما هي ومضة مُلهِمة. جرح قابل للانتقال من جسد إلى جسد، ومرهَم. مُعدِية، من عقل إلى عقل، من كيان إلى كيان. إيمان بلا سفسطة العقيدة، مبدأ بلا طوطميات الإيديولوجيا، ثورة بلا طوباوية ولا حماقة، لكن بشجاعة فائقة، وأحياناً خيالية.

هو الأسير علاء عبد الفتاح. ليس سجيناً، ولا مُعتقلاً، بل هو أسير، وأسير حرب أيضاً. الحرب بين النظام المصري، وبين فرد يرفض التسليم... إلا، إن اقتضى الأمر، تسليم الروح، مرة واحدة وأخيرة. ومن أقطاب الحرب أيضاً، عالم بأكمله لم يستطع أو لم يشأ أن يتحرك فعلياً من أجل علاء سوى في الحدود الدنيا... إلى أن حلّت قمة المناخ في مصر، فتحرك بعض الأمل، لأن عائلته حرّكته بذاك النشاط الذي يفرزه التعرض لقسوة مبرحة، ولأن متضامنين في مصر وخارجها شعروا أنهم قد يكونون شهود زور على جريمة قتل وشيكة. ذلك أن علاء، إن مات في أَسره، فسيموت ليس جوعاً وعطشاً، بل مقتولاً بيد سلطة أكثر توحشاً وصلفاً وغباءً من أنجح أفلام الرعب وأردئها.

يخبرنا التاريخ أن الثورات لا تقبل التصدير، مثل الأرقام الصعبة التي لا تقبل القِسمة إلا على نفسها. أما الأفكار، فبلى. وعلاء، رغم كل ما يعانيه، لم يُقاطِع الأفكار. أفكار راهنة يتضمنها كتابه الصادر في خلال تغييبه القسري. عن السوشال ميديا، التكنولوجيا، اللغة، الأبوة، الحب، السجن، والإصلاح السياسي والمؤسساتي بواقعية لا تشبه راديكالية "تُهمه"، وظروف مقتله حيّاً. يكتب عن سياسة اليوم وهنا، من دون التخلي عن عقلانية ومرونة، بما في ذلك المراجعة والنقد الذاتي، مع القول للسلطة "أعور في عينك" سواء بسواء.

كتابه دليل مشرقط، يكتب عنه صديقه الصحافي المصري محمد أبو الغيط: "سبق أن وصف نفسه مرارًا أنه جندي مشاة في الثورة، لم يكن في أي لحظة عضواً قيادياً في حزب أو حملة سياسية، ولطالما التقيته في تظاهرات، لا يقود الهتاف ولا يصعد على الأكتاف. حافظ على التعامل مع حسابه في "تويتر" باعتباره حساباً شخصياً اعتيادياً يكتب فيه ما يخطر في باله لحظياً من جد ومزاح. لكن جندي المشاة الذي تتوه ملامحه المشابهة لمليون جندي آخر، قد يتحول في لحظة واحدة بطلاً فريداً، يلقي بنفسه على الألغام ليفتح الطريق لمن خلفه. هكذا فعل علاء مرات عديدة، كما حدث حين قرر العودة من خارج مصر وتسليم نفسه للقضاء العسكري بعد أحداث ماسبيرو، ثم رفض التحقيق معه رغم علمه بأنه على الأرجح كان سيُفرج عنه لو تجاوب مع المحققين، لكنه قرر أن يقدم نفسه فداء، عله يعطل ماكينة المحاكمات العسكرية للمدنيين، وكان ثمن ذلك حرمانه من حضور مولد طفله، لتتكرر المأساة الأسرية نفسها التي مر بها والده، حين منعه السجن من حضور ولادة شقيقته منى".

علاء فكرة من النوع الذي يقلب أنظمة، أو على الأقل، يقلب حُكمَ محكمة جائراً... لكن ليس في تلك الأرض التي يحب، حيث يكاد يخفت الأمل في أن يكون آخِر ما كتب ليس آخِر كتاباته.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها