الأحد 2022/11/06

آخر تحديث: 07:24 (بيروت)

الإصغاء إلى الشرق:الكاثوليك والأرثوذكس في المدينة الخالدة

الأحد 2022/11/06
increase حجم الخط decrease
تدرك الكنيسة الكاثوليكيّة أنّها تواجه تحدّيات عظام من كندا إلى الأرجنتين، من المملكة المتّحدة إلى مدغشقر، ومن عمق القارّة الآسيويّة إلى أوستراليا. تقضّ مضجعها قضيّة الجنس بتداعياتها كافّةً من دور النساء في الكنائس المحلّيّة مروراُ ببتوليّة الكهنة والأساقفة وصولاً إلى فضائح التحرّش الجنسيّ. تؤرقها كذلك مسألة السلطة المعرّضة، في كلّ لحظة، للتحوّل إلى آفة اسمها السلطويّة. وفيما مؤمنوها ومؤمناتها ينهدون إلى مشاركة أكثر فاعليّة في صنع القرار واتّخاذه، ما يزال كثر من أحبارها يرتاحون إلى كنيسة مركزيّة يقرّر الفاتيكان شؤونها الكبرى، ما يجعلهم ينيطون بالمركز مسؤوليّة البتّ في الشؤون العالقة التي تنوء تحت ثقلها الأطراف.

كان في وسع البابا الحاليّ فرنسيس أن يتعامل مع شؤون الكنيسة التي يديرها بعقليّة رأس الهرم. منظومة القانون الكنسيّ اللاتينيّ تسمح له بذلك، وكذلك الذهنيّة المتراكمة منذ مئات السنين، والتي تجنح إلى حصر البتّ في المسائل الكبرى بشخص سيّد الحاضرة الفاتيكانيّة ورئيس أقدم مؤسّسة في الدنيا. لكنّ الرجل آثر سلوك طريق آخر مطلقاً في كنيسته ما يدعى «المسار المجمعيّ». والحقّ أنّ لفظ «مجمعيّة» العربيّ لا يفي بالغرض. فالكلمة الأعجميّة (synodality)، المستندة إلى أصل يونانيّ، تحيلنا على السير معاً والمسار المشترك. يريد رأس الكنيسة الكاثوليكيّة، إذاً، أن يكرّس ديناميّة حوار متبادل يشترك فيه الجميع، الأساقفة والكهنة والرهبان والعلمانيّون رجالاً ونساءً، حوار ينكبّ على الأسئلة الكبرى ويحاول أن يستكشف دروباً وآليّات مشتركة للتعاطي معها. 

من ضمن هذا المسار التشاركيّ، يبدو الإصغاء إلى الآخر على جانب كبير من الأهمّيّة. ومن ثمّ، دعت دائرة توطيد الوحدة المسيحيّة في الفاتيكان، بالتعاون والتعاضد مع مؤسّسة برو أورينتي (Pro oriente) الكاثوليكيّة (فيينا)، ممثّلين وممثّلات عن الكنائس الأرثوذكسيّة للإصغاء إلى خبراتهم المتّصلة بعيش المجمعيّة (2-5 تشرين الثاني/نوفمبر). هذا اللقاء، الأوّل من نوعه، والذي انعقد في جامعة القدّيس توما الأكوينيّ التابعة للرهبنة الدومينيكانيّة في روما، ستتبعه لقاءات أخرى مع كنائس الشرق القديمة، أي الأقباط والسريان والأرمن، مع كنيسة الشرق الآشوريّة، ومع كنائس الإصلاح البروتستنتيّ بشقّيها التقليديّ والحرّ. حرص أصحاب الدعوة على أن يأتي التمثيل على كثير من التوازن إذ ضمّ أساقفةً وكهنةً وعلمانيّين، رجالاً ونساءً، شباباً وكهولاً، لاهوتيّين واختصاصيّين في التاريخ والعلوم الإنسانيّة. أمّا منهجيّة اللقاء، فتنوّعت بين المحاضرات الطويلة والندوات المتعدّدة الأصوات وحلقات العمل. من البديهيّ أن يكون المتكلّمون والمتكلّمات الأرثوذكس في الطليعة. فلقد استقدمهم أخوتهم الكاثوليك كي يصغوا إليهم. غير أنّ مساهمة الحاضرين الكاثوليك لم تقتصر على المشاركة في النقاش، بل امتدّت أيضاً إلى طرح الأسئلة الاستفهاميّة والنقديّة وصوغ الخلاصات، وذلك بغية جعل نتائج اللقاء الرباعيّ الأيّام جزءاً من المسار المجمعيّ الذي انخرطت فيه الكنيسة الكاثوليكيّة بفضل فرنسيس، أسقف روما الاستثنائيّ. 
الذين شاركوا في اللقاء سرعان ما أدركوا أنّ ديناميّة التلاقي أخذتهم إلى مكان آخر يتخطّى إصغاء الكاثوليك بوصفهم كتلةً إلى الأرثوذكس بوصفهم كتلةً أخرى. منطق «الكتلة» المتراصّة هذا سقط بعيد المحاضرة الافتتاحيّة. فتحوّل النقاش إلى حوار بين الأرثوذكس أنفسهم حول مدى حضور الروح المجمعيّة التشاركيّة في كنائسهم وما هي أسباب غيابها أو ضعفها في غالبيّة الأحيان. لقد أدرك الحاضرون الأرثوذكس أنّهم يواجهون، في كنائسهم، شرخاً بين النظريّة الجميلة والواقع المرّ. فهم أيضاً تعصف بهم تحدّيات كبرى مثل الإكليريكانيّة المفرطة في غير مكان والعنف ضد النساء والظلم اللاحق بهنّ من حيث حضورهنّ الخجول في إدارة شؤون الكنيسة، فضلاً عن قضايا التحرّش الجنسيّ والانحرافات البنيويّة في ما يُعرف بمنظومة التربية «الروحيّة». يضاف إلى ذلك مسألة العلاقة بين الكنيسة والدولة التي اتّخذت طابعاً مغايراً بعد سقوط الإمبراطوريّات القديمة في روسيا والبلقان واندثار السلطنة العثمانيّة، وهي تحوّلت اليوم إلى قضيّة غاية في الآنيّة بالنظر إلى الغزو الروسيّ لأوكرانيا وعلاقة السلطة الكنسيّة هناك بالسلطة السياسيّة. 

الاكتشاف الآخر الذي حمله معه هذا اللقاء هو أنّ الأرثوذكس والكاثوليك غالباً ما يشتركون في مواجهة التحدّيات ذاتها: الحداثة وكيفيّة التعامل معها، التشرذم الناتج من العولمة وصحوة الأصوليّات، السلطويّة وتراجع ثقة إنسان ما بعد الحداثة بالمؤسّسات على اختلافها، قضيّة المرأة، تحدّي الجنس، العلاقة بين الكنيسة والدولة، تحدّي الأديان الأخرى، ولا سيّما الإسلام، صنو المسيحيّة ومنافسها في آن، فضلاً عن حاجة الكنائس أكثر من أيّ وقت مضى إلى استنباط صيغة توازن بين الواحد والكثرة، بين الأوّليّة والمجمعيّة. يقول أحد الأصدقاء اللاهوتيّين اليونان إنّ ما يفرّق الكنيستين الأرثوذكسيّة والكاثوليكيّة ليس انشقاقاً، بل هو مجرّد شرخ في الشركة والتشاركيّة. فالكنيسة الأرثوذكسيّة لم تسعَ يوماً إلى انتخاب بطريرك أرثوذكسيّ لكنيسة الغرب، أي أسقف أرثوذكسيّ لمدينة روما. هذا يستتبع أنّها لم تسحب يوماً اعترافها بشرعيّة الحبر الرومانيّ. قد لا يوافق بعضهم على هذه المقاربة. لكنّ الأكيد أنّ الأرثوذكس والكاثوليك يختبرون اليوم، بمعنًى ما، أنّهم ينتمون إلى الكنيسة ذاتها لكونهم يواجهون التحدّيات ذاتها، ويسعون معاً إلى استنباط حلول للمشاكل ذاتها. انبثاق الحدس بوحدة الكنيسة من رحم المشاكل المشتركة، إنّ هذا، لعمري، اكتشاف عظيم…
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها