السبت 2022/11/05

آخر تحديث: 13:52 (بيروت)

"من وإلى مير": ميراث كهنوت ضائع وبيانو.. وانتحار مفاجئ

السبت 2022/11/05
"من وإلى مير": ميراث كهنوت ضائع وبيانو.. وانتحار مفاجئ
increase حجم الخط decrease
الأعمال الأدبية والفنية المتعلّقة بالبحث عن الجذور أو العودة إليها، تخبرنا عن اقتلاع سابق، هو نقطة البداية، عن ضروب من التيه أو قطيعة مع الماضي في صورها الفردية والجماعية. وإن كان القرن العشرون، قرنَ نبش الجذور، فإن الدولة الأمة هي أكثر مشاريع تلك العملية ضخامة، ودموية في أحيان كثيرة. إلا أن ذلك الحفر في الماضي، في ابتغائه الوصول إلى عالم مفقود أو حفظ أقل آثاره الباقية، لعله أقدم من ذلك بكثير، يبدأ مع رواية الحداثة الأولى أو قبلها، مع دون كيشوت الهائم على وجهه باحثاً عن عالم الفروسية المنهار ومتوهماً العيش فيه، أو في الملحمة الأولى حين يبحث "إنكيد" عن عودة إلى عالم كان البشر فيه أشباه آلهة. في كل سيرة للعودة إلى الجذور، بعض من يأس دون كيشوتي مفعم بالحماسة، وبعض من شهوة الخلود المحكوم عليها بالفشل.

في فيلمها الوثائقي "من وإلى مير" (2022)، تصحبنا المخرجة المصرية، ماغي مرجان، في رحلة بحث عن الجذور، بأكثر معانيها بساطة. مير هي قرية صغيرة في محافظة أسيوط، بصعيد مصر، تتحدر الجدّة من هناك، وتفصل بين ماغي والقرية مسافة جيلين، لكن حكايات الجدة عن المكان تربط ماغي به. تحمل القرية في مثل تلك السرديات المعاصرة عن الأصل، بُعداً فيتشياً، يستمد سِحره من الأجداد. ولأن مير بهذا المعنى، ليست مكاناً أو بشكل أدق ليست موجودة لذاتها، كونها علامة تشير إلى شيء آخر، فإن رحلة ماغي مثل فيلمها تظهر مشتتة، وبلا وجهة ولو تقريبية، فهي ببساطة تبحث عن شيء لا تعرف ماهيته.

وبشكل يعتمد على خليط من الصدفة والأريحية، يقدم لنا الوثائقي مقدمة ذاتية متمحورة حول التاريخ العائلي للمخرجة. فمير تكتسب أهميتها فقط على هذا النحو، ثمّ نرى أنفسنا أمام مقاطع من توثيق أنثروبولوجي، ربما غير متعمّد، لعادات القرية ومناسباتها، وأحياناً يتحوّل ذلك التسجيل إلى فولكلورية يغلفها حس سياحي. ومن ثم يدمج الفيلم خطين رئيسيين، الأول خط نوستالجي يتتبّع علاقة أفراد العائلات الكبيرة من مُلّاك الأراضي القدامى، بالقرية، وتاريخ انتقالهم منها إلى المدن الكبرى والمهجر. والثاني أكثر ارتباطاً بالحاضر، متجولاً بين بيوت أهل القرية، لترصد الكاميرا حيوات الأسر متواضعة الحال، والترحال إلى الكويت، والتي تبدو وجهة رئيسية لرجال القرية، وكذا أحلام الهجرة العشوائية إلى أميركا، والتي تتحقّق أحياناً بوتيرة لافتة.

ومع أن هذين الخطين لا يتقاطعان، أو بالتحديد لأنهما لا يتقاطعان سوى على أرضية الانتماء الرمزي إلى مير، فحياة العائلات الكبرى التي كانت تمتلك قصوراً حقيقية داخل تلك القرية الصغيرة تبدو غير ممكنة إلى جانب بقية سكانها. هذا ما يقوله أحد أبناء العائلات الكبيرة بإنكليزية نقية، فهل ما تجد ماغي نفسها متورطة فيه هو استعادة نوع من التعايش بين العالمين، ولو فنياً؟

يرصد الفيلم بشكل عابر، تاريخاً مختصراً لتحولات طبقة ملاك الأراضي في الريف المصري، إلى برجوازيات مدينية، رأسمالية ومهنية، وبإشارات غير متعمّدة إلى دور مدارس الإرساليات المسيحية والتعليم في الخارج في تكثيف عمليات التحول الطبقي تلك عبر مراكمة رأس المال العلمي والمهني، بالإضافة إلى رأس المال المادي، المتمثل في ملكيات الأطيان والعقارات. ويلعب خطاب "الميراث" دوراً جوهرياً في لغة الفيلم، سواء في التعبير عن الحزن على بيع الممتلكات في القرية بعد الرحيل عنها، أو انكسار حلقة التسليم والتسلم بين الأجيال أو استمرارها في صور معنوية. ويتبدّى هذا الحنين في الفخر بميراث مصوغات من الجدة، والمخرجة، مثلها مثل شخصيات الفيلم، ورثت عن جدتها طقماً من الأطباق الصينية، وذكرى بيانو تم التبرّع به للكنيسة، وترنيمة كانت تردّدها الجدّة على مسامعها. 


فجأة يلتقط الفيلم خيطاً جديداً، مع حالة انتحار لشاب من أهالي القرية، ويتبعه بحث وراء حالات انتحار أقدم، ويقودنا هذا الخيط إلى العم سمير القمص، الرجل الذي فقدت عائلته ميراث الكهنوت لأسباب غير مفهومة، فيتولى مهمة مؤرخ القرية، بدفاتره التي يدوّن فيها المواليد والوفيات وتواريخها وأسبابها. يُسرد هذا كله على خلفية من قصص كثيرة لأسر وزيجات وأسفار وأحلام وخيبات أمل، وكل قصة منها وحدها تبدو احتمالاً واعداً بفيلم رائع، لكن ماغي لا تتعمّق في أي منها بما يكفي، منتقله سريعاً إلى غيرها. 

في العام 2021، أي بعد 12 عاماً من زيارتها الأولى، تعود ماغي إلى القرية لتعيد التصوير مع أبطالها، ولتجد إجابة للسؤال العصي الذي بدأت به، لماذا تصوّر في مير؟ لماذا هي تحديداً؟ غاب البعض بالموت أو بالهجرة، والبيوت تظهر في حالة أفضل، ونكتشف موتاً مأساوياً بالتسمّم، ربما يعود بنا إلى سيرة الانتحار، لكن ماغي لا تتعمق في الأمر، كالعادة أو ربما احتراماً لرغبات عائلة الفقيد. وسط هذا التشتت لا يصل بنا الفيلم إلى فك لغز أو اكتشاف، ولعل هذا متوقع ومفهوم. فمير ليست سوى علامة افتراضية في رحلة بحث لا يمكن أن تصل إلى شيء، فوسط كل هذه التحولات المتلاحقة التي تلحق بمير وبالعالم من حولها، لا شيء ثابتاً، ولا جذور يمكن الرجوع إليها. تجد ماغي عزاءها وإجابة سؤالها، في رغبتها أن تجعل سِيَر العم سمير القمص وأمّ روماني وبيشوي وأمه والعم عبد التواب وغيرهم، معروفة، أن تخلّد أسماءهم بشكل ما، ربما ليكون لها الرنين نفسه مثل أسماء العائلات الكبيرة. 

(*) يعرض حالياً في "نتفليكس"
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها