الجمعة 2022/11/04

آخر تحديث: 13:17 (بيروت)

لماذا حققت "زوزو" كل هذا النجاح؟

الجمعة 2022/11/04
increase حجم الخط decrease
لا تصدقوا كل ما تردّد وقيل عن الفيلم الأكثر نجاحاً في تاريخ السينما المصرية. كل أصحاب فيلم ينسبون إلى عملهم هذا الشرف الرفيع، أما الحقيقة فليس لها إلا وجه واحد.

دعوني أقل لكم بكل ارتياح أنه، في تاريخ السينما العربية كله، هناك فيلم واحد تجاوز حاجز الخمسين أسبوعاً في دور عرض الدرجة الأولى،‮ ‬وهذا الفيلم ـ كما أصبح معروفاً للجميع ـ هو‮ "خللي بالك من زوزو‮" ‬الذي عُرض للمرة الأولى قبل نصف قرن وبالتحديد في 6 تشرين ثاني 2791، ولولا الأجواء التي أعقبت حرب تشرين 3791 لربما امتد عرض "زوزو" أسابيع أخرى.

والغريب أن أحداً ممن شاركوا في صنع فيلم "خللي بالك من زوزو"، لم‮ ‬يتوقع له هذا النجاح اللافت، حتى إن مدير التصوير عبد الحليم نصر باع حصته في إنتاج الفيلم أثناء الإعداد له خوفاً من الفشل المتوقع، فيما كان صلاح جاهين الذي كان‮ ‬يكتب للسينما للمرة الأولى، ‬يضع‮ ‬يده على قلبه من نجاح هزيل قد‮ ‬يؤثر في شعبية بطلة الفيلم سعاد حسني التي انتقل إليها ـ بالتأكيد ـ هذا الهاجس بحكم علاقتها الروحية بصلاح جاهين‮.. ‬وحده فقط المخرج حسن الإمام كان مؤمناً بما يفعله،‮ ‬واثقاً من نجاح فيلمه حتى لو لم يُماثل تصوّره المسبق درجة تحقق النجاح في الواقع.

إننا كلما شاهدنا الفيلم، تساءلنا‮: ‬لماذا حققت "زوزو" كل هذا النجاح؟ وفي كل مرة كنا نكتشف سحراً آخر،‮ ‬يزيدنا‮ ‬يقيناً بأن الفيلم‮ ‬يحمل بداخله كل أسباب نجاحه من أول القصة وحتى الظروف العامة التي تم فيها عرضه سنة ‬كاملة.  ‬فزينب عبد الكريم‮ ‬أو زوزو هي ابنة‮ "‬نعيمة ألمظية‮"، ‬إحدى عوالم (راقصات) شارع محمد علي،‮ شارع الفن الشهير في القاهرة. ‬تشربت من أمها أسرار المهنة فأصبحت بنت الكار،‮ ‬وهي في الوقت ذاته طالبة الجامعة التي قررت بعد ثلاث سنوات من عدم النزول إلى الجامعة والاكتفاء بأداء الامتحانات،‮ ‬قررت ممارسة حياتها الجامعية بصورة طبيعية وكاملة،‮ ‬فكان عليها أن تعيش حياتين متناقضتين،: في الصباح، الطالبة زينب عبد الكريم،‮ ‬وزوزو ألمظية في المساء‮. ‬تلتقي زينب بفارس أحلامها، ‬سعيد كامل، المخرج المسرحي وابن إحدى العائلات الأرستقراطية.‮ ‬تقتحم عليه حياته وتفرض عليه شخصيتها،‮ ‬وروحها المنطلقة،‮ ‬فيجمعهما الحب.‮ ‬تحاول هي في وقت من الأوقات مقاومة هذه المشاعر تجنباً للمواجهة مع مجتمع تحركه أفكار الماضى وتحكمه اعتبارات طبقية راسخة،‮ ‬لكن زوزو لا تستطيع لا مقاومة مشاعرها ولا تجنب المواجهة مع مجتمع كهذا،‮ ‬ثم تأتى النهاية المعتادة ويسقط كل المتآمرين،‮ ‬وتسقط معهم الأفكار البالية،‮ ‬ويظفر الأمير بـ‮"‬سندريللا‮" ‬ويبارك الجميع هذا التزاوج الطبقى الذى ظنه البعض مستحيلاً‮.‬

إنه إذن عالم حسن الإمام المفضل، وهذه ببساطة هي القراءة المباشرة لقصة فيلم‮ "‬خللي بالك من زوزو‮" ‬التي كتبها الإمام نفسه،‮ ‬وهي كما‮ ‬يبدو للجميع من الوهلة الأولى تشبه عشرات القصص التي قدمها حسن الإمام في أفلامه من قبل،‮ ‬بل وطبع بها تياراً كاملاً كان هو رائده الأول،‮ ‬وأعني به تيار الميلودراما،‮ ‬فما الاختلاف إذن الذى أتت به زوزو؟

لقد كانت زوزو النموذج المغاير والمعاكس لمعظم النماذج التي أوجدها حسن الإمام وغيره في السابق،‮ ‬إن إحساسها بالرفض لواقعها أو الاغتراب فيه لم‮ ‬يصل إلى حد التمرد والسخط،‮ ‬ومن ثم الانحراف مثل‮ (‬نعمت‮) ‬في‮ "‬التلميذة‮"‬،‮ ‬وكذلك لم تدفعها ظروفها الاجتماعية إلى سيل التنازلات الذي قاد "دلال المصرية" إلى عالم الليل،‮ ‬بل فعلت زوزو العكس تماماً. ‬فهي وإن لم تختر أن تكون ابنة نعيمة ألمظية، فإنها اختارت وامتلكت الإرادة أن تكون طالبة جامعية بل والفتاة المثالية أيضاً،‮ ‬زوزو كانت قوية وإيجابية في رفضها لبيئتها،‮ ‬وجريئة ومقتحمة في علاقتها مع أمير أحلامها،‮ ‬وشجاعة وصاحبة موقف في مواجهة المجتمع سواء داخل أسرة سعيد أو في محيط الجامعة.‮ ‬صحيح أن الردة النفسية كادت تحدث حين أوشكت على قبول العمل في شارع الهرم، لكنه الضعف الإنساني الطبيعي الذى‮ ‬يجعل شخصية زوزو أكثر صدقاً وقرباً من الواقع على خلاف النموذج الكامل الذي لا‮ ‬يخطئ والذى كانت تقدمه فاتن حمامة حتى مع حسن الإمام نفسه.‮ وصحيح أن الردة المجتمعية كادت تكسب أصواتاً استجابة لدعوات ممثل التطرف الديني في الفيلم عمران عمران (محي إسماعيل) لكنه مجتمع لم يكن التطرف قد تمكن منه استطاع أن يذيب فيه هذا الفكر الشاذ، ‬إذن لقد كان هناك منطق في أن تتلاقى زوزو مع مجتمعها،‮ ‬وفي أن‮ ‬يقبل المُشاهد في النهاية هذا التصالح الطبقي.‮ ‬فزوزو بين زملائها الطلبة فتاة مثالية ونموذج إيجابي فرض على الجميع احترامه، بمن فيهم عمران عمران‮ ممثل الأصولية الفكرية، إذا صح التعبير.‮ ‬كذلك، فإن سعيد وهو ابن الطبقة الراقية لم‮ ‬يرتبط ـ في واقع الحال ـ بزوزو ألمظية ابنة شارع محمد علي، وإنما بفتاة جامعية تستطيع أن تبهر الكل‮ ‬بشخصيتها مثلما حدث مع والده‮ (‬عباس فارس‮).

لقد كنا بعد هزيمة ‮حزيران يونيو 7691  ‬بحاجة ـ كمشاهدين ـ إلى هذا النموذج الإيجابي القادر على تغيير واقعه،‮ ‬وعلى منحنا الإحساس بإمكانية تحقيق أهدافنا إذا تجاوزنا ماضينا وتطلعنا إلى مستقبلنا،‮ ‬وهذا ظرف اجتماعي ونفسي مهم ساهم في قبول المشاهد للفيلم وإقباله عليه عند عرضه في تشرين ثاني نوفمبر1972‮  ‬في ذروة الحديث عن عام الحسم وفي ظل التظاهرات التي خرجت من الجامعات المصرية.‬


وإذا كانت قوة البناء الدرامي هي‮ ‬اللغة الغالبة في أفلام حسن الإمام عموماً، فإن أكثر ما كان‮ ‬ينقص من قوة هذا البناء تلك المصادفات الميلودرامية‮ ‬غير المبررة أحياناً،‮ ‬وغير المتسقة مع طبيعة شخوص العمل في أحيان أخرى.‮ ‬لكن في‮ "‬خللي بالك من زوزو‮" ‬كان الأمر مختلفا،‮ ‬كان البناء الدرامي مكتملاً،‮ ‬فمصادفات مخرج الروائع المعتادة تكاد تختفي،‮ ‬والشخصيات متماسكة درامياً ومتسقة مع طبيعتها ومع المستوى الاجتماعي والفكري الذى تنطلق منه،‮ ‬فجاءت أقرب إلى مثيلاتها في الحياة بعيدة من التقسيم التقليدى للشخصيات بين خيّرة في المطلق وشريرة حتى النخاع، خصوصاً أن الفيلم في عمومه لم‮ ‬يكن معنياً بإدانة طبقة والانتصار لأخرى بقدر ما كان‮ ‬تعنيه إدانة المجتمع كله بأفكاره البالية، والانتصار لمستقبل خال من قيود الماضي وعقده النفسية،‮.‬ومن هنا، ليس كل أبناء الطبقة الأرستقراطية أشراراً ومتآمرين،‮ ‬كما أن ليس كل أبناء قاع المجتمع أبرياء وضحايا،‮ ‬وأتصور أن هذه النظرة المنطقية التي أحكمت بناء الفيلم تعود إلى سيناريو وحوار صلاح جاهين، أكثر منها إلى معالجة محمد عثمان للقصة التي كتبها حسن الإمام. فالأخيران صنعا معاً في السابق أكثر من فيلم،‮ ‬والعنصر الجديد عليهما كان صلاح جاهين بكل ما‮ ‬يملك من عقلية واعية ومتفتحة،‮ ‬واقتراب من الناس،‮ ‬وقدرة على استيعاب ما‮ ‬يحدث حوله من متغيرات‮.‬

غير أن بصمة صلاح جاهين لم تقف عند هذا الحد،‮ ‬فالذين انتقدوه ولاموا عليه اشتراكه مع حسن الإمام في عمل واحد، لم‮ ‬يتوقفوا ـ على ما‮ ‬يبدو ـ أمام الجُمل الحوارية التي نطقت بها شخصيات الفيلم والتي لم تكسبها فقط المصداقية والدفء وإنما أيضاً ارتقت ـ عامة ـ بمستوى الفيلم متجاوزاً الفكرة المباشرة إلى معانٍ وأفكار تقترب من الفلسفة،‮ ‬وذلك في لغة أدبية بسيطة وعميقة في آن واحد زادت من سحر هذا العمل الفريد.‮

لنتذكر مثلاً حوار سعيد وزوزو عن القلب الأبيض والقلب‮ "الكارو‮" ‬مثل رقعة الشطرنج،‮ ‬وحوارهما عن ضرورة أن‮ ‬يكون الاستماع بالحماس ذاته الذى‮ ‬يكون به الكلام،‮ ‬ثم ها هي زوزو تلخص لـ‮"‬بيسة‮" (نبيلة السيد) مشكلة زميلتها‮ "‬باتعة" ‬التي أقدمت على الانتحار‮ "‬لسة الدنيا ما اتعلمتش تقبلنا بسهولة،‮ ‬لسة برضه همة ناس واحنا ناس‮".‮ ‬وفي صياغة دالة وعميقة‮ ‬يرى الحوار أن‮ "‬مشكلة زوزو إنها ماشية وشايلة وصمة نعيمة ألمظية أمها،‮ ‬ونعيمة شايلة وصمة الشارع اللى هي منه،‮ ‬والشارع اللى هي منه مسكين شايل وصمة زمن راح وانقضى،‮ ‬زمن متخلف‮"... ‬ثم‮ ‬يبلغ‮ ‬الحوار ذروة لغته الشاعرة حين تقول نعيمة لابنتها‮: "‬مهما السمن ساح ع العسل الواحدة مننا في إيدين الناس دول لعبة‮. ‬يمكن‮ ‬يبكوا عليها لو حد أخدها منهم،‮ ‬إنما عمرهم ما‮ ‬يعمروا بيوتهم بيها‮".‬ وهكذا جاء حوار صلاح جاهين شاعرياً وجذاباً،‮ ‬وأضاف الكثير إلى قصة‮ ‬يراها كثر تقليدية في خطوطها العامة‮.‬

أما عن أداء سعاد حسني في‮ "‬خللي بالك من زوزو‮"، ‬فقل ما شئت‮.. ‬كانت سعاد حينما مثّلت هذا الفيلم في التاسعة والعشرين من عمرها، تسبقها خبرة 61 فيلماً،‮ ‬وهذا فيلمها الرقم ‮‬62،‮ ‬وكأنها مثّلت منذ لحظة ميلادها حتى هذا الفيلم أكثر من فيلمين كل سنة،‮ ‬وهذا رصيد متراكم من الخبرة‮ ‬يدعونا للقول بأنها كانت في قمّة النضج والشباب والعطاء الفني وهي تتقمص شخصية زوزو التي استوعبتها جيداً،‮ ‬وفهمت أبعادها النفسية والاجتماعية،‮ ‬فانعكس ذلك في أدائها للشخصية.‮ ‬لقد كانت سعاد في قمة توهجها وبريقها،‮ ‬وفي حالة مزاجية خاصة جعلتنا نشعر باستمتاعها الشخصي وهي تؤدى هذا الدور،‮ فلا عجب في ظلّ تلك الحالة الفنية والمزاجية أن تتألق كما لم تتألق من قبل،‮ ‬وتقنعنا بشخصية زوزو أياً كانت انفعالاتها.‮ ‬لقد عرفت كيف تنطلق،‮ ‬وتقتحم من حولها،‮ ‬وعرفت كذلك متى تنطوي وتنزوي داخل نفسها.‮ ‬كانت حيوية ومرحة وهي تعيش حياة الجامعة،‮ ‬ورومانسية رقيقة وهي تحاور فارس أحلامها،‮ ‬ومتمرّدة رافضة وهي تعيش عالم زوزو ألمظية،‮ ‬وفي هذه الحالات كلها لم تتنازل عن كرامتها وكبريائها،‮ ‬وكانت كعادتها ذات قدرة لافتة على التحول الانفعالي حتى داخل المشهد الواحد‮. وعلى مستوى آخر، كان الأداء الحركي لسعاد حسني متوافقاً مع الأداء الانفعالي للشخصية في تلقائية‮ ‬غريبة، شعرنا معها أنها لا تمثل وإنما تعيش حياة هذه الشخصية بالفعل،‮ ‬والأمثلة على ذلك كثيرة من داخل الفيلم،‮ ‬وهذا سر آخر من أسرار سحر وجاذبية السندريللا سعاد حسني‮.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها