الخميس 2022/11/03

آخر تحديث: 13:23 (بيروت)

قراءة شيهان كاروناتيلاكا...كمشاركة طاولة في حانة مع غرباء يشبهونك

الخميس 2022/11/03
increase حجم الخط decrease
حاز الكاتب السريلانكي شيهان كاروناتيلاكا (1975)، جائزة "بوكر" الأدبية البريطانية للعام 2022 عن روايته "أقمار مالي ألميدا السبعة" التي تعتمد أسلوب الهجاء الفكاهي الساخر وتدور أحداثها خلال الحرب الأهلية التي شهدتها بلاده.

ماذا لو كانت الآخِرة بيروقراطية؟ ماذا لو كان عليك الوقوف في صفّ مع كل تلك الأشباح الأخرى (أو الأموات) مضطراً إلى ملء النماذج وختم الأوراق وإجراء فحوص مختلفة على جسدك - بافتراض أن لديك جسداً سليماً - قبل أن تتمكّن من الانتقال إلى عالم الخلود المقيم؟

شيهان كاروناتيلاكا يموضع روايته "أقمار مالي ألميدا السبعة" هنا بالضبط. في مقابلة مع موقع جائزة بوكر، قال إن السريلانكيين معتادون على العيش في بيروقراطية تمتد إلى معظم تفاصيل حياتهم، فلماذا لا تصل إلى الحياة الآخرة أيضاً؟ وزارة الآخرة في الرواية تحمل ملمحاً بارعاً وظريفاً يبرز الفكاهة السوداء للرواية بأكملها.

لا يعني ذلك أن ثمة اختراعاً روائياً هنا، بالنظر إلى سوابق واضحة وحديثة، مثلما في "لنكولن في باردو" للأميركي جورج ساندرز، و"هنا يذهب أي شيء" للأسترالي ستيف تولتز، وحتى "10 دقائق و38 ثانية في هذا العالم الغريب" للتركية أليف شافاق؛ وجميعها روايات تحمل أساساً فنياً لتلك اللعبة وهذا التكنيك الروائي. "باردو" هي النسخة الأكثر استخداماً والأقل كليشيهية من هذا العالم. إنها الكلمة التبتية لعالم مؤقت ومشروط حيث يجب أن ينتظر الموتى قبل بعثهم من جديد، لذلك هناك القليل من الحركة بين العوالم الممكنة. أشار كاروناتيلاكا إلى رواية ساندرز الرائعة (فازت بجائزة بوكر في العام 2017) وتأثيرها في كتابته، لكن بيروقراطيته هي اختراعه الأصيل الرائع. يقرّ كاروناتيلاكا أيضاً بفضل "العم كورت"، قاصداً الأميركي الراحل كورت فونيغِت، وفوضاه المنهجية.

الحبكة تسير على النحو التالي: في العام 1989، ذروة الحرب الأهلية المعقدة والوحشية في سريلانكا، يجد الشاب مالي، الجميل الذكي المتباهي، نفسه ميتاً، على غرار أموات جدد آخرين، في انتظار أن يأخذوا دورهم في رحلة العالم الآخر. يبلغ من العمر 34 عاماً فقط. وفي حياته، كان مصوراً حربياً، بعلاقات واسعة وحرص على إبلاغ العالم بكل ما يعرفه وكيف رآه. ليس مثاليًا، لكنه منفتح على الأفكار الجديدة وغالباً "في المكان الخطأ حاملاً كاميراته". هو أيضاً مقامر وملحد ومثلي الجنس وعالق في ذروة وباء فيروس نقص المناعة البشرية/الإيدز.

في البداية، لم يصدّق أنه مات، فقد تناول الكثير من المخدرات "السخيفة" وعليه فقط أن يترك تأثيرها يتلاشى ليعود كل شيء إلى مكانه، كما إنه لا يتذكّر موته أصلاً. وإذا لم يتذكّر المرء موته في هذا الكابوس الرهيب، فلا يمكن أن يكون موته حقيقة. مَشاهد المَطهر هذه كفيلة وحدها بتتويج كاروناتيلاكا بالبوكر.

عندما يفهم مالي أن هذا البرزخ الذي يعيشه ليس حلماً، يقرر أن عليه اكتشاف ما حدث له، وتصبح الرواية لغز جريمة قتل يصطف عليه التعليق/الهجاء السياسي والاجتماعي. فكرته الرئيسية هي أن لديه صندوقاً من الصور الفوتوغرافية يربض تحت سريره، وهذا الصندوق بما فيه من صورٍ يمكنها إسقاط حكومة سريلانكا الفاسدة يريده السياسيون من كل جانب. هل قُتل بسبب هذه الصور؟ لديه أسبوع واحد لمعرفة ذلك.

عندما نقابله للمرة الأولى، يكون في مكتب التأشيرات السماوي هذا حيث ينتظر دخول الحياة الآخرة. في غضون ذلك، هو موجود في "الوسط" حيث لديه سبعة أقمار/أيام لمعرفة ما حدث له. يراقب عائلته في حدادها عليه، ومحاولتها الحصول على إجابات من الشرطة. لديه أيضاً أسباب أخرى للعودة إلى العالم العلوي: "أنت تستمع إلى الريح وتفكر في كل الأشياء التي لم تفهمها أبداً: أصدقائي. أمي. يجب أن أراهم". يحتاج بشكل خاص أن يقول للشاب الذي يحبّه "إنه آسف". آسف لما تبيّن أنه موضوع رهيب. هذه المؤثرات، أوصاف كاروناتيلاكا لمشاهد ورائحة عالم الجريمة في كولومبو والمجتمع، قدرة مالي على التفكّر في جمال الحياة.. هي ما يرفع مستوى الكتابة.

"على مدى فترة وجيزة وغير مجدية، قمتَ بفحص الأدلة واستخلصت النتائج. نحن وميض من الضوء بين نومَين طويلين. إنسَ حكايات الآلهة والجحيم والولادات السابقة. صدّق في الاحتمالات والإنصاف وفي تشكيل الطوابق المكدّسة بالفعل، في اللعب بيدك بأفضل ما يمكنك لأطول فترة ممكنة. لقد دُفعتَ إلى الاعتقاد بأن الموت كان نسياناً لطيفاً، وكنت مخطئاً في كلا الأمرين".

قراءة أعمال كاروناتيلاكا تشبه مشاركة طاولة في حانة منعزلة مع غرباء تتماشى رغباتهم مع رغباتك. لذلك، لا مفرّ من المحادثات الصاخبة والصيحات الأعلى للفت الانتباه. وفي كل من كتبه، تثبَّت الدعابة السوداء على جدار نثره. تسمح له هذه التقنية بالقيادة عبر الأجزاء الصلبة واللزجة من أصول بلده. سريلانكا، التي كثيرا ما توصف بأنها جزيرة تشبه الدمعة، لا يمكنها محو ماضيها. إنه عبء يجب أن تتحمله أجيال.

الحرب الأهلية في سريلانكا تلقي بظلالها على حكايات كاروناتيلاكا. في روايته السابقة "الرجل الصيني"، ينتهي فصل قصير يفصّل الاختلافات بين السنهاليين والتاميل بجملة كاشفة وحصيفة: "الحقيقة، مهما كانت الاختلافات الموجودة، ليست كبيرة بما يكفي لحرق المكتبات أو تفجير البنوك أو إرسال الأطفال إلى حقول الألغام. إنها ليست كبيرة بما يكفي لإضاعة مئات الأشهر في إطلاق ملايين الرصاص على آلاف الجثث".

تحضر الحرب الأهلية أيضاً في "أقمار مالي ألميدا السبعة"، الرواية الثانية لكاروناتيلاكا، على الرغم من أنها نُشرت سابقاً تحت عنوان مختلف وبصيغة مختلفة في الهند. أثناء الجائحة، عمل على هذه النسخة المعادة تسميتها مع وضع جمهوره الأوسع في الاعتبار. هذه التعديلات والإدخالات هدفت لبيان الفوضى والوحشية في السياق/المستنقع السريلانكي، بما يُخرجه من غموضه أو انحسار فهم تعقيداته ضمن فئة ضيقة، ليأتي مشروحاً ومفصّلاً في لحظات تشبه التقاط الأنفاس بين أحداث لاهثة لقصة لا تتوقف عن الاندفاع. تُروى الرواية بالكامل بضمير المخاطب، وهو رهان كتابي محفوف بالمخاطرة فضلاً عن العبء الذي يضيفه إلى الأسلوب. يقول كاروناتيلاكا إنه "كتب الرواية بصيغة المتكلم، لكنه وجد صعوبة في فصل صوت الراوي عن صوته".

رواية أصلية، مثيرة، بارعة، سياسية، غامضة، رومانسية؛ ومن تلك الأوصاف يتضح لماذا فازت بجائزة بوكر. يقول نيل ماكغريغور، رئيس لجنة تحكيم جائز بوكر، إنها أشبه بفيلم تشويق ميتافيزيقي، "نوار" للحياة الآخرة يزيل الحدود ليس فقط بين الأنواع المختلفة، ولكن أيضاً بين الحياة والموت، والجسد والعقل، والشرق والغرب. غزوة فلسفية جادة تماماً تأخذ القارئ إلى القلب المظلم للعالم. وهناك يكتشف القرّاء الرقّة والجمال والحبّ والإخلاص والسعي لتحقيق المثل الأعلى الذي يبرّر حياة كل إنسان. كما أن لديها مَلَكة مداعبة أوتار مواضيعها في سياقات أخرى شبيهة (الفساد السياسي والانحطاط الاجتماعي حاضران معاً في بلاد كثيرة نعرفها جيداً)، والتي، جنباً إلى جنب مع غرف الرعب المفعمة بالحيوية - التي لا تقتصر على العالم السفلي - ستجعل القراء يضعونها في مكانها ولا يعودون إليها. لكن سيكون لها تأثير دائم.

لديها القوة الكئيبة الضاغطة لـ"أرخبيل الغولاغ" لألكسندر سولجنيتسين. لكن على عكس هذه الرواية العظيمة المأسوية، مرارتها مضحكة بلا هوادة. على ما يبدو، يشتهر السريلانكيون بروح الدعابة القاتمة الرائعة. تشرح هذه الرواية سبب حاجتهم إليها. الموتى يتحدّثون هنا، ولا شيء لا يمكنهم قوله. رواية عظيمة نتمنّى رؤيتها مترجمة إلى العربية في أقرب وقت.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها