الأحد 2022/11/27

آخر تحديث: 11:13 (بيروت)

رائحة المحيط تطغى على رواية عربية من جزر القمر

الأحد 2022/11/27
رائحة المحيط تطغى على رواية عربية من جزر القمر
اوادي حافظ
increase حجم الخط decrease

في أحوال وشروط خاصة، بل شديدة الخصوصية، اجتماعية وسياسية واقتصادية وبيئية وجغرافية وتاريخية وغيرها، تكتسب أعمال إبداعية بعينها حضورًا استثنائيًّا، وتأثيرًا حسّاسًا فاعلًا، على نطاق واسع مشهود. وتتاح الفرصة لهذه الأعمال أن تُحدث حراكًا حقيقيًّا غير مصطنع في المشهد المحيط، قد يفوق المتوقع في الظروف الطبيعية والأجواء المستقرة، التي يكون فيها الرهان الإبداعي منعقدًا على الجماليات الأدبية وحدها، والقيمة الفنية المجرّدة، كعمود فقري معياري لمخاطبة القارئ العادي والناقد المختصّ، على السواء.

وإن مثل هذه الملابسات والعوامل الخارجية القوية، هي الأجنحة الإضافية التي يتزوّد بها المُنتَج الإبداعي الخاص في رحلات وثوبه الأفقي وتحليقه الرأسي في مدارات بعيدة. ومن هذه العوامل كذلك معطيات الترويج والتسويق، بكافة الوسائل والآليات المشروعة في صناعة النشر وعالم الكتابة الاحترافية. ولا تعني هذه الطاقات الإضافية التي قد يستوعبها العمل الإبداعي انتقاصًا من قدره أو تقليلًا من شأنه بأي شكل من الأشكال، بل إنها قد تصبح مصدر دعم ودفع للعمل. على أن ذلك يقتضي بقاءها في حيّز الضرورة والاستعمال الرشيد كطاقات تكميلية مساعدة، وأن تظل طاقة التشغيل والتحريك الأساسية في العمل الأدبي هي ببساطة "أدبياته"، بكل ما تنطوي عليه من معاني الرؤية والفكرة والتناول والمعالجة والصياغة والمفردات والعناصر والأدوات والتطوير النوعي وشخصية الأديب وبصمته المنفردة، إلى آخر هذه المقتضيات التي يوضع بموجبها العمل الكلي فوق كفة ميزان الذهب لتعيين مقداره وفق قراءة لمؤشر دقيق.


تحت هذه المظلة التمهيدية، التي يستحيل تجاهلها، يصير بالإمكان مقاربة رواية "وجوه القمر الأربعة" (القاهرة، دار صفصافة، 2022)، للكاتب أوادي حافظ، من مواليد مدينة "ميسامهولي" شمال عاصمة "جزر القمر" في عام 1977. وهو يقيم في مصر، ويعمل في حقل الإعلام بعدة لغات، منها الفرنسية والإنجليزية والسواحلية، وكذلك العربية التي كتب بها روايته الصادرة في 105 صفحات. ويصير لزامًا التعاطي مع هذه الرواية بعينين مترافقتين في آنٍ واحد: الأولى لقراءة "الرواية"، والثانية لقراءة "ما وراء الرواية"، وذلك لسبب واضح، هو أن كل ما يخص كتابتها وبناءها وتقديمها وإخراجها وطرحها وتمريرها وتداولها من خلال دار النشر يقود مباشرة إلى هذه الصبغة الثنائية للعمل الأدبي، الذي يستند إلى أدبياته، وكذلك إلى خلفياته المتنوعة، القوية إلى حد كبير.


يُفتتح غلاف "وجوه القمر الأربعة" الأمامي (فوق عنوانها، وفوق اسم المؤلف) بعبارة تقول "كل شيء هناك له رائحة المحيط"، الأمر الذي يشير ظاهريًّا إلى أسبقية هذا "الطقس الروائي" كمفتاح للعمل أو بطل أوّل له، بخاصة مع لوحة الغلاف التي تُصوّر تجمّعًا بشريًّا في الجزيرة أمام أحد البيوت التقليدية في احتفال شعبي، في ليلة اكتمال القمر، على حدّ ما فصّله المؤلف (أو الرواي العليم الذي لا وجود له في الأحداث) في إحدى صفحات الرواية بقوله "هكذا هي الحال في بيئة تمتاز بطبيعة عشوائية قمرية فريدة، تسود بهجة القمر عندما يدخل مرحلة بدر التمام. حينها يصير الليل شبيهًا بالنهار، الضوء المبهر والدفء المستعر".


ويقدم الغلاف الخلفي الرواية بوصفها "أول رواية عربية من جزر القمر وعنها". ويبدو التركيز هنا منصبًّا على تلك الأسبقية التاريخية في كتابة رواية بالعربية نابعة من هذا البلد الذي تسكنه أغلبية مسلمة، لكن تكاد تنحصر اللغة العربية في ممارساته الدينية، فيما يميل السكان إلى استخدام اللغة القمرية بلهجاتها المتعددة في الجزر الأربع. أما الكتّاب، فإنهم ينحازون عادة إلى الكتابة بالفرنسية، اللغة القادمة مع ثقافة الاستعمار، إلى جانب اللغات المحلية.


وترتكز كلمة الغلاف الخلفي في وصفها الرواية بأنها "شديدة التميز والخصوصية" على حيثيات فوتوغرافية الطابع، فهي رواية "ترصد تقاليد مُغرقة في المحلية بكل دقة، وتفاصيل لا نعلم عنها شيئًا"، عن جزر القمر، في قلب المحيط الهندي، شرقي خط غرينتش، حيث تغطيها المسطحات الاستوائية من أشجار مثمرة، ونباتات نادرة فواحة. وهذه الرواية "مكتوبة برهافة ورصد شديد الدقة، كأنما كاميرا ترصد بتأنٍّ كل ما يدور حولها، لتجعلنا دون أن ندري نتورط مع أبطالها، كأننا نعيش معهم". ومن ثم، فإننا سننخرط مع هؤلاء القمريين (أهل جزر القمر) "وهم يغمسون أقدامهم في مياه المحيط، ونعيش معهم رحلتهم، ونرى قواعد الزواج الكبير، ونرى الأجداد والآباء والأحفاد، في مجتمعهم المميز المعجون بحبّ بلاده بكل ما يحويه".


هكذا، أريد لهذا العمل ذي الطبيعة الخاصة في لغته ومنطقته أن يكون رواية إبداعية ناضجة من جهة، وأن يكون من جهة أخرى مرجعًا أمينًا يُترْجِم إلى قرّاء العربية للمرة الأولى وفي إطار مشوّق ودرامي ملامح الحياة الراهنة بكل تشابكاتها ومظاهرها البدائية والعصرية في "جزر القمر". وهذه الحياة، في تلك المساحة الصغيرة النائية على الساحل الإفريقي الشرقي (1.862 كيلو متر مربع)، هي بعيدة للغاية عن تصورات القارئ العربي، ويتطلب شرحها الإفراط في سرديات وحوارات مسهبة حول الموروث الشعبي بعاداته وتقاليده الاجتماعية والدينية والثقافية (الميلاد، الزواج، الموت، الأعياد، الصلوات، الترانيم، الغناء، الموسيقى الخ)، ومهنه وصناعاته التقليدية (الزراعة، الصيد البري والبحري، صناعة القوارب وقيادتها، قطع الأشجار، تلقيح الزهور، الخ).


ويأتي ذلك، إلى جانب التوغل في تقديم حصص ومعلومات ضافية حول كل ما يتعلق بالجزر من تاريخ قديم وحديث، وجغرافيا، وجيولوجيا، وأنثروبولوجيا، وتنوع بيئي في البر والبحر، وصراع حضاري بين الحداثة في عاصمة الجزيرة الكبرى أو "مدينة الانفتاح" التي ترعى النخبة الحاكمة بعد الاستعمار،  و"مرسوم السيرة الشفهي"، بمعنى حكايات الأجداد الحكيمة أو الدستور الفعلي غير المكتوب الحاكم للأغلبية السكانية في الجزر الأربع.


تنطلق الرواية من حكاية مبسطة، تتلخص في اضطرار الشاب "جعفر" إلى العودة إلى مسقط رأسه في "جزر القمر" إثر وفاة والده الصيّاد البحّار في حادث أليم، حيث أصابته سمكة "السيلاكانت" إصابة قاتلة وهو يدافع عن زملائه فوق القارب دفاعًا بطوليًّا. وهذه السمكة النادرة تعود إلى ما قبل الديناصورات منذ مئات الملايين من السنوات، وكان يُظنّ أنها انقرضت، حتى ظهرت من جديد في هذه المنطقة خلال القرن العشرين. وكان "جعفر" قد قضى قبل عودته إلى "ميسامهولي" شمال عاصمة "جزر القمر" بضع سنوات من صباه وشبابه الأول في ولاية "صور" على الساحل الشرقي لسلطنة عمان، حيث عمل في مجال الأخشاب وقيادة السفن الشراعية. وبوفاة والده، صار عليه الرجوع لرعاية أخته "موناعرفة" وجدته "فطمة"، ولكي "يسترد طبيعته القمرية البدائية، ويتخذ مكانه كرجل ذي شأن داخل العائلة الكبيرة"، مثلما كان يتمنى والده قبيل رحيله.


وبمجرد عودته، راح صدره يمتلئ بعواطف الإنسان القمري، فتفجرت علاقة حب بينه وبين جارته "مونامينة" الطبيبة المرموقة، التي لم تتخلّ يومًا عن عادات الجزيرة ومراسيمها. وتتطور العلاقة بينهما إلى مشروع خطبة يتوّج بـ"الزواج الكبير" بشكله التقليدي، حيث تسبقه إقامة الشاب في بيت أنسابه، وارتقاؤه مقامَ الضيف في بيتهم، حتى تصير له مكانة وحظوة لديهم، ويحدث الإشهار اللازم، وبعدها يتم عقد القران رسميًّا. وإلى جانب نجاح قصة العشق التي كُلّلتْ بالزواج واسترداد "جعفر" هويته كمواطن قمري "الحب عقيدة، ومناط ترحيب الجميع"، فإن الرواية تبرز نجاح الزوجين في أن يكونا نافعين لشعبهما في الحياة العامة، سواء في إنقاذ المصابين والناجين من كارثة سقوط طائرة يمنية في "ميسامهولي" على شاطئ مرآة القمر، وكذلك في مساعدة "المركز البحثي العالمي" على ابتكار الوسائل والقواعد للصيد البحري لأنواع الأسماك النادرة في الجزر للحفاظ عليها، وما إلى ذلك من الممارسات التي حظيت باستحسان المواطنين وتقديرهم.


ولا يمكن القول إن هذا الحشد الهائل لكل هذه الخلفيات والمعلومات والتفاصيل والدروس الكثيرة الزاخمة حول جزر القمر وأناسها وأرضها وسمائها وقمرها ونجومها ومياهها وكائناتها وأشجارها وتربتها وطيورها وحيواناتها وتاريخها وجغرافيتها وصراعاتها بين الماضي والحاضر والمستقبل، وتأرجحاتها بين الثقافات المحلية والإسلامية والعربية والفرنسية،..، لا يمكن القول إنه يأتي خارج السياق الدرامي الذي يرسمه المؤلف للشخوص الروائية، التي يحكي عنها الراوي العليم على امتداد النص. هناك دائمًا سبب فني، ومبرر موضوعي، لتقديم المعلومة، حتى وإن وردت على نحو تلقيني، فذلك لأن أحد الشخوص هو دائمًا يعلم الأمر، والآخر لا يعلمه، وهكذا يستقي القارئ طوفان المعلومات والبيانات والخرائط، التي تعد مصدر إدهاش له، كونه قارئًا عربيًّا.


من تلك الدروس، مثلًا، التي يتلقاها "جعفر" (والقارئ بالضرورة)، ما يسكبه الموقف الدرامي سكبًا على لسان "مونامينة" بفطرة الإنسان القمري البدائي، حين تشرح المقصود بـ"مرسوم السيرة الشفهية" أو حكايات الجدات أو الدستور غير المكتوب في الجزيرة، قائلة دون مقاطعة "أنا بنتُ العادات والتقاليد، التي تحملها صدور النساء القمريات وعقولهن، وينقلنها للأبناء والأحفاد جيلًا بعد جيل. فحين تفتح ست الدار وهي تستتر خلف ناموسية سريرها الشفافة مرسوم السيرة الشفهية للعادات التي أجمع عليها القمريون منذ أجيال، فإنها تروي تاريخًا مكنوزًا، وتعيد بعثه في من حولها من فتيات ينتظرن سماعها بشغف وبهجة، ويتركن لخيالهن العنان، ويتوحدن مع حكاياتها وبهجة القمر الساطع وسحره. إنها الحكايات التي تلوّن أمامهن الطرق المتشابهة، فتساعدهن على الاختيار بقلب تنيره أضواء القمر المتسللة في غير ليالي الخسوف. إنهن يكتسبن نوعًا من الجمال الواقعي يمكنهنّ من استخدام فنّ الظلّ والنور لتلوين بهجة الحياة. هكذا تغدق عليهن عينُ الجدة الحارسة نفحتها القمرية، فتغلق مرسوم السيرة الشفهية، لتربّت ظهورهن واحدة بعد أخرى لترسلهن في منامات بعيدة، يحلمن فيها بأسماك السيلاكانت وقوارب الصيد والأمواج المتلاطمة، ويستيقظن في الصباح الباكر بطاقات جديدة تجعل ممارسة العادات فريضة في وجدانهن".


وعلى هذا النسق، تساق معظم "الداتا" الشهية والطازجة، المحكومة دراميًّا بقدر مقبول نسبيًّا، كحكي الراوي العليم مثلًا عن لقاءات العشاق في منتصف الشهر القمري "في مثل هذا التوقيت من الشهر القمري، لا أحد ينام بعيدًا عن حضن القمر، وتصير أخبار العشاق على ألسنة الناس، وتتكاثر قصصُ الحب القمرية التي تظهر في العلن مع بزوغ قمر الليلة الرابعة عشرة. في الأسبوع الثاني تنمو القصص وتتواصل في ظروف مناخية مواتية".


على أن البراءة الدرامية إلى هذه الدرجة من الطفولية، وبناء المواقف التي تستلزم السرد والحوار وتتطلب تقصّي تنامي الشخصيات وتطورها بهذه الطريقة الاستسهالية، وطرح الخلفيات المعرفية متعددة المصادر بهذه الآلية المباشرة، هي كلها أمور تكاد تصل بهذه الأوعية الدرامية كلها إلى أن تكون وسيلة للتعبئة بالمعلومات والخرائط المرئية والمسموعة عن جزر القمر، لا أن تكون الدراما غاية روائية جمالية مقنعة وكافية في حد ذاتها.


وعلى ما يظهر جليًّا، فإن مؤلف الرواية على دراية تامة بأن هذه الخلفيات المعلوماتية في عمله الثري حد الإثقال تُضخّ بصيغة مدرسية أحيانًا. فها هو يصف "مونامينة" مثلًا بأنها "تتحدث بكثير من الاهتمام، كأنّها تلقي محاضرة متخصّصة بين مجموعة تلاميذ ينصتون جيّدًا!". وهو هنا يشير إلى حديثها لـ"جعفر" حول زراعة المانغو في الجزيرة "هذه البذرة السمراءُ الطازجة تظل صالحة للزراعة، قبل أن تتحوّل إلى اللون الرماديّ عند تعرُّضها للبرودة. وعند زراعتها لابدَّ من البحث عن منطقة خالية من تزاحم النباتات، كي لا تتسبب كثافة الأشجار في تظليل التربة ومنع الإضاءة اللازمة لحدوث الإزهار ونموّ الثمار، وكي لا تجف الأفرع الداخلية المظلّلة، فينخفض المحصولُ وتقلّ جودةُ الثمار".

إن النجاح الأبرز في "وجوه القمر الأربعة" لا يعود إلى الحبكة الروائية الهشة بالتأكيد، وإنما يتأتى من حسم الرواية قضية اللغة ومسألة الهوية، ومن مناخات البكارة التي تخوضها بأريحية، ومن إمكانات الكتابة التصويرية السحرية لمجتمع جزر القمر الفريد، بكل ما فيه من حركة وصخب وميلاد وعشق وزواج وسفر وعمل ومرض وموت، في عدد محدود من الصفحات يتجاوز المئة بقليل.

ولم يكن هناك إغفال للقالب الروائي بطبيعة الحال، لكنّ الكاتب أراده، عن قصد، هيكلًا للنسيج الذي استشعره أكثر جدة وإمتاعًا وإدهاشًا للقارئ العربي الذي يوجه إليه عمله، وهو نسيج "يوميات المجتمع القمري"، بكل ما فيها من بدائية وغرائبية ومفارقات وموروثات وحكايات. ولذلك، فإن آلة التصوير المجانية هنا قد تغني عن التخييل الابتكاري العميق والمعقد، على اعتبار أن الواقع القريب ذاته هو توليفة من خيالات وأساطير "رأيتُ الأحلام والمشاعر والقرارات تنضج كثمرة مانجو فوق شجرة استوائية بمنأى عن صخب العالم!".

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها